فك السودانيون قيودهم بأسنانهم بعد ثلاثين عامًا من أسر الاستبداد السفيه. واستعادوا حريتهم للمرة الثالثة بالثورة الشعبية على نظم استبدادية ضيعت معظم عمر دولتهم بعد الاستقلال في 1956 باستثناء جزر من التجارب التعددية الصغيرة المتباعدة والمعزولة، والتي كانت سرعان ما تغرق بعد عمر قصير في محيط الاستبداد الشاسع.
مأساتنا ليست عشق الطغاة كأننا لم ننس بعد عبادة الأصنام على قول الشاعر، بل مأساتنا أن تطاول أمد الطغيان قد سحق فينا اعتزازنا بأنفسنا وقدراتنا
طيلة الثلاثين عاماً الأخيرة عاشت القوى المدنية والديمقراطية الحزبية والمستقلة ما يشبه حلم اليقظة الطويل، في أخيلتهم هدم السودانيون بلادهم وإعادة بنائها كما يشتهون، ذهبوا بها بعيدًا في مسار التنمية والازدهار، ووضعوا تصورات سريعة وصحيحة وسهلة التنفيذ لنهضة عظيمة وشيكة ليس بينهم وبينها سوى هدم جدار الاستبداد والفساد الذي شيده نظام المخلوع البشير.
لم يكف السودانيون أبدًا عن المحاولة وجربوا كل الأساليب المدنية والعسكرية وظلوا بدأب النمل يعملون لتحطيم أغلالهم، ثم بعد فظائع وآلام عظيمة ودم وعرق ودموع أشرقت عليهم شمس الحرية التي مهرتها تضحيات ثورة ديسمبر المجيدة 2018، والتقوا بلادهم بعد فراق ثلاثين عامًا مفلسة وغارقة في الدين ومشتعلة بالحروب الأهلية وقد نخر سوس الفساد عودها الغض.
لحظة انتصار الثورة ليست لحظة تحقق الحلم، بل هي لحظة الإفاقة منه!
لحظة انتصار الثورة ليست لحظة تحقق الحلم، بل هي لحظة الإفاقة منه. صحا السودانيون من حلمهم الطويل كالمتحررين حديثاً من الرق والمفرج عنهم بعد سجن طويل، صحوا على البون الممتد بين السودان شبه المحتضر الذي ورثوه عن الطاغية والسودان الشامخ العاتي الخير الديمقراطي الذي كانوا يقسمون ببنائه "حنبنيهو البنحلم بيهو يوماتي".
في 2013 أصدر الكاتب مايلس مونرو من جزر الباهاماس كتابه "عبء الحرية: اكتشف مفاتيح حريتك الفردية والوطنية". تدور فكرة الكتاب حول أن كثير من الناس يجعلهم القهر الذي عايشوه فيما مضى يعلقون في دوامة الكراهية واللامسؤولية، وأن القهر قد يترك بصمته على الأفراد والمجتمعات والأمم بعد الانعتاق منه على شكل كسل، وخوف، وضعف تقدير للذات، وأنانية، وانعدام القدرة على الإبداع، وضعف روح المبادرة، وسوء الظن بمن في موقع السلطة. وما يقوم به عدد غير قليل من السودانيين الذين أنجزوا الثورة الآن ربما يكون خير مصداق لما ذهب إليه مونرو؛ حيث تسود الساحة الآن خطابات التجريم والتخوين حتى لقيادات الثورة في مرحلة التفاوض ثم الحكومة الانتقالية، وتزدهر نظريات المؤامرة عن الدولة العميقة والتواطؤ وتهويل خطر التدخلات الأجنبية، واتخذ جزء لا يستهان به من أبطال الثورة موقع المتفرج وركنوا إلى دور الضحية اللذيذ الذي لا يكلف شيئاً، وكأن العالم مسرح عرائس تحركه قوى كلية القدرة لا قِبل لأحد بها، وكأن الإجراء الوحيد الممكن لمجابهة التحديات الضخمة هو العويل والهيجان الهستيري بلا عمل وبلا مراعاة لشروط الواقع التي لا تعبأ بالنوايا الطيبة.
نستطيع أن نفهم بعض الدعوات المتطرفة لإعادة الثورة أو الدعوة لثورة تصحيحية بكونها محاولات للعودة إلى فردوس الحلم المفقود بعد الإفاقة على مرارة الواقع، وفداحة العمل المطلوب إنجازه من أشخاص أدمنوا موقع المتفرج المتذمر وبعدت عليهم الشقة.
اقرأ/ي أيضًا: السودان.. الاتفاق السياسي وعودة خطاب الهامش
عندما يرحل الدكتاتور ليتبوأ مقعده من "مزبلة التاريخ" فإنه يترك بلاداً محطمة ومجتمعاً مفككاً ولكن أخطر ما يتركه هو إنسان بلاده المرتاب المتشكك غير الواثق لا في نفسه ولا في من حوله، الإنسان الباكي الشاكي قليل الحيلة ضعيف التأهيل عديم المسؤولية، ذلك أن المستعبد لا يحتاج للمسؤولية، وأن الحرية وحدها ما تتطلب الانضباط والمسؤولية والواقعية.
فعلاً لا يحتاج الناس أن يكونوا مؤهلين ليستحقوا الديمقراطية ولكنهم يحتاجون الديمقراطية لتجعلهم مؤهلين، وهنا تكمن معضلة بناء الديمقراطية، حيث تحتاج الديمقراطية لتبني الديمقراطية، تحتاج إلى إعادة ثقة الناس بأنفسهم وقدراتهم، ويحتاج الحاصلون حديثا على الديمقراطية للتحلي بالمسؤولية وضبط النفس والإقدام ليصنعوا مصيرهم بكل ما يتطلبه ذلك من عمل شاق ومجابهة تحديات قد يغري طول التأمل في فداحتها المرء بالكسل، والحنين إلى الاستعباد وإزاحة عبء الحرية الثقيل عن كاهله وتقبيل أول حذاء عسكري يلوح في الأفق.
مأساتنا ليست عشق الطغاة كأننا لم ننس بعد عبادة الأصنام على قول الشاعر، بل مأساتنا أن تطاول أمد الطغيان قد سحق فينا اعتزازنا بأنفسنا وقدراتنا، وثبتنا في طفولة خالدة تحتاج أبدًا للإرشاد والرعاية، وأن حكومات العسس والمخبرين الغلاظ الوجوه وأمراء الحرب والمتكالبين على المال العام جعلت تبادل الثقة والاحترام بيننا تبدو كأنها من رابع المستحيلات.
الديمقراطية لا تفعل شيئاً بل تفسح المجال واسعاً للعمل، والطريق الملكي لاستدامة الديمقراطية هو استغلال ما أتاحته الثورة من حقوق وحريات لترسيخ الديمقراطية
لا خلاف حول وجود تحديات خارجية جمة تواجه مسير السودان نحو الديمقراطية ونشأتها المستأنفة الرابعة، نحو غدر ولؤم العسكر الذين فرضت علينا موازين القوى التعامل معهم كشركاء، وتربص بعض القوى الإقليمية بأي تجربة ديمقراطية وسعيها الدؤوب لإفشالها خيفة أن تصل نار الحرية لـ"قصور طغيانهم" والمقاومة الشرسة التي سيبديها بقايا نظام الفساد والاستبداد الذي زرع ألغامه في كل مجالات الحياة، لكن الخطر الأعظم هو "القابلية للاستعمار" كما أسماها مالك بن نبي، ولم يسبق قط في تاريخ السسودان بعد الاستقلال أن ضاعت الديمقراطية بعامل خارجي منفرد بل دائماً ما تفرش النخب الوطنية نفسها طريق الدبابات بالورود، بعدم المسؤولية، وروح التآمر وسوء ترتيب الأولويات والشطط والغلواء في تطبيق معايير غير واقعية لتقييم تجارب ديمقراطية بالكاد ولدت.
الديمقراطية لا تفعل شيئاً بل تفسح المجال واسعاً للعمل، والطريق الملكي لاستدامة الديمقراطية هو استغلال ما أتاحته الثورة من حقوق وحريات لترسيخ الديمقراطية ونقلها من الفضاء السياسي لتتخلل كل مفاصل المجتمع ومجالات الحياة، بكل ما يتطلبه ذلك من انضباط ومسؤولية وهمة ويقظة لتقويم أي انحراف وسد كل ثغرة من الممكن أن يتسرب منها شيطان الاستبداد، أي بتحمل عبء الحرية الثقيل للغاية، الذي أشفقت منه السماوات والأرض والجبال.
اقرأ/ي أيضًا:
حكومة الطيور المهاجرة.. هل مرت المحاصصة المرفوضة في السودان؟