06-أكتوبر-2019

كل ثورة هي وليدة صيرورتها وتتحكم فيها شروطها التاريخية ومنطقها البنيوي الخاص بها (MEY)

’’ الثورة هي فرح الكينونة الهادر صوب وطن الصيرورة الخالد‘‘

                                                                                من وصايا وأقوال شعب كولمبيا

 

الابتدار اللاهب: الجذرية الثورية المُرتحِّلة

 منذ ابتدار الفعل الاحتجاجي في السودان بواكير كانون الأول/ديسمبر 2018، عبر تموجاته اللاهبة وفي أطواره اللاحقة، انتهاءً بنيسان/أبريل وما بعدها، تنامت النزوعات الثائرة في مدارات الأجساد الضاجة بالشباب، إلى مناحٍ واتجاهات أبعد من المطالب المعيشية والمرامي السياسية، التي كانت تتمحور شعاراتها حول إسقاط النظام، وتحسين حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية. ثمة فعل مغاير صار يتشكل ويستمد قوته من جذريته المتفتحة والمرتحلة، العابرة للحدود والانتماءات الضيقة، والمقاومة لكل أشكال التدجين والإفراغ السياسي في مسار أحادي. إذ لم يحدث من قبل لتجربة ثورية سودانية أن تجاوزت حدود السياسة الحزبية المتُخمة بآفاقها المسدودة، متحررة من جمود فعلها المكرور ومن عقم أدواتها وممارساتها التقليدية، وسادرًا نحو التغلغل الشافي والتجذُّر الكاشف المُنير للبنى والعلاقات الموّلدة للقمع والاستبداد بغية تفكيكها.

طوال مراحل الثورة كان ينبثق التساؤل التالي: هل هي تجربة منفصلة تجُسَّد قطيعة تاريخية ومعرفية مع النسق السوسيوسياسي لدولة ما بعد الاستعمار في طورها الأخير في السودان؟

فهذه الجذوة الحارقة سوف تظل مُتقِّدة، تتخطفها الأفواه الجائعة والأقاصي النائحة، مُلقيّةً بضرامها اليانع الأخضر في سلال المستقبل العامرة الوفيرة. لم تكن هذه الثورة فعل اجتياح قاعدي، شبكي للبيوت والساحات والشوارع فحسب، بوقفاتها الاحتجاجية وبمسيراتها الهادرة ومواكبها الزفافية، وإنما كانت أيضاً تمَحَق الماضي محقاً في حاضره الآني وتُسمِّد حقول المستقبل البعيد لبذار الفعل القادم من المستقبل القريب.

اقرأ/ي أيضًا: "اصحى يا ترس".. حين يعجز الموت أمام عظمة الواجب

طوال مراحل الثورة كان ينبثق بشكل متجدد التساؤل التالي: هل هذه الثورة هي موجة ثالثة لثورة دائمة منذ استقلال السودان 1956، تلت موجتي تشرين الأول/ أكتوبر 1964 ونيسان/ أبريل1985؟ أم هي تجربة منفصلة تجُسَّد قطيعة تاريخية ومعرفية مع النسق السوسيوسياسي لدولة ما بعد الاستعمار في طورها الأخير في السودان؟ لكن لا بد أن يجنح التفكير أبعد من نماذج ثورتي أكتوبر وأبريل. وذلك لأن الغيرية الخلاصية التي دشَّنت أرشيفها أزمنة ما بعد الكولنيالية ذات الطابع القومي الشابح نحو الهيمنة والاستبداد، وعلى وجه الخصوص أزمنة انتفاضتي أكتوبر وأبريل، هي غيرية من ذلك النمط الذي ظلَّ يعمل على إنتاج وإعادة إنتاج الفعل الثوري في مسار فوقي لا يلامس عصب البنى المُولّدة للاستبداد، في تجلياتها القائمة على النبذ والإقصاء والاستبعاد. إذ تحوَّل هذا الانسداد الاستبدادي إلى لُعبة قوامها إعادة الإنتاج الدؤوبة لتشكيلات الهيمنة والهيمنة المضادة، ذات الوجه الواحد المُتبدِّل المتمثل في حكومة-معارضة. لُعبة الإقصاء المتبادل الذي يستمد شرعيته السياسية، من تبادل الأدوار ومواقع الحيازة من داخل الأطر المولدة للاستبداد، وليس من ديناميات الفعل العضوي المستنير الذي يوسع من خيارات المشاركة السياسية والتداول الانتقالي والسلمي للسلطة وإعادة بناء الدولة وتحويلها من جهاز سلطوي استبدادي إلى كيان تاريخي مؤسساتي قابل للتشَكّل البنيوي من خلال عمليات التجذير الهيكلي لأطر إعادة التوزيع الاجتماعي والتنموي، الرمزي والمادي، العادل للموارد والثروات والمداخيل والفوائض، رأسياً وأفقياً.

عواجيز الفرح المابعد كولنيالي: أحجية الأكتوبريين والأبريليين

 عبَّر الأكتوبريون والأبريليون، من شاركوا بفعالية في انتفاضتي أكتوبر 1964 وأبريل 1984، ضد الفريق إبراهيم عبود والمشير جعفر النميري، عن مقاومتهم للشمولية والنظام الديكتاتوري، من خلال ذات الأطر الحزبية التقليدية، التي شكَّلتها الثقافة السياسية السائدة آنذاك، الحاضنة لكل أشكال وضروب الاستبداد، والتي ظَّلت تضغط الدفق الثوري الحيوي في مسار سياسي أحادي يقصي كل احتمالات وخيارات التحول التاريخي الأخرى. وهو ما تُفسِّره محاولات بعض الأكتوبريين والأبريليين التفكير لاشعورياً في الاحتجاجات الاجتماعية والشعبية التي أطاحت بالبشير في سياق استعادي رومانسي، يروم البرهنة على أن الثورة الشعبية هي خصيصة بنيوية ملازمة لمراحل انتقال الدولة السودانية منذ الاستقلال، مُمعنين في تبجيل إرث أكتوبر/أبريل ووصله بالحدث الثوري الراهن، على ذلك النحو الذي يدفع البعض منهم إلى المضاهاة والمقارنة بين ’’جبهة الهيئات 1964‘‘ و’’التجمع النقابي 1985‘‘ و’’تجمع المهنيين 2018‘‘، دون الأخذ في الاعتبار اختلاف السياقات التاريخية والتحولات البنيوية التي ظلت تحدثها عملية إعادة إنتاج علاقات القوة والهيمنة، على ذلك النحو الذي يجعل العنف المُركَّب بتجلياته المتعددة خصيصة ملازمة لبنى الدولة السودانية وتحولاتها، وليس الثورة بوصفها سيرورة تدفقية لها مساراتها اللولبية الخاصة. قد لا يعي الاكتوبريون والأبريليون أن ثقافتهم وقناعاتهم ومواقفهم السياسة كانت قد تشكَّلت في عالم كلياني مغلق، عالم المعاني السياسية والاجتماعية الكبرى، ذلك العالم الذي تشكَّل وظيفياً من ديناميات تذويب فرادات الذات الفاعلة في كيانيات جماعية مُتخيَّلة للأمة السودانية بوصفها حالة وجودية تُعبِّر عن شرعية الدولة القومية من خلال تغولها "الشابح" نحو مجالات الحياة والفعل اليومي. وقد أخذ هذا العالم يتجلّى كيانياً من خلال الأحزاب الجماهيرية والأجسام المهنية الخدمية (الاتحادات والنقابات، إلخ) والتجمعات الثقافية (اتحاد الكتاب، مدرسة الغابة والصحراء، جماعة أبادماك، إلخ) والمشاريع الزراعية والصناعية الكبرى (الجزيرة، كنانة، مصانع النسيج، إلخ) والمؤسسات التعليمية ذات الطابع القومي (بخت الرضا، حنتوب، جامعة الخرطوم، إلخ). ففي سياق هذه التشكيلات الكيانية، تخلَّق السياسي الثوري/المناضل الحزبي، الذي كان يستمد شرعية علاقاته السلطوية وممارساته السياسية من هذا الحس الكلياني المغلق، المنبثق من مواعين العنف البنيوي والأصولي الكامن في كل أشكال الهيمنة والاستبداد. إن انتفاضتي أكتوبر وأبريل لا يمكن قراءة تواريخهما الخاصة، بوصفهما سجلًا على بياض الزمن الثوري اللولبي المنقطع عن الزمن الخطي الكامن في بنى الدولة، وفي جهازها الذي ينتج العنف والقمع والاستبداد، إلا من خلال قراءة موازية لأرشيف تحولات ما بعد التجربة الكولونيالية، على ذلك النحو المضيء والكاشف لكل عمليات إعادة الإنتاج الذاتي المستمر لأنماط هيمنتها، ومراحل تشكُّلاتها التي كانت تعيد إنتاج بنى الدولة السودانية، في مسارات تُرسِّخ للتناقضات والتشوهات الملازمة لكل انتقال سياسي، تُعبِّر عنه تعويذة السياسي الثوري/المناضل الحزبي الأثيرة: (ديمقراطية، ديكتاتورية، ثورة شعبية).

اقرأ/ي أيضًا: أكتوبر 1964.. حين فشلت ثورة السودان

ديسمبر أفق مغاير صوب النهايات المفتوحة

كل ثورة هي وليدة صيرورتها وتتحكم فيها شروطها التاريخية ومنطقها البنيوي الخاص بها فحسب

ربما بعد الآن لن ينزع أي تفكير بحثي شامل، أو أي منحى تنظيري ميَّال للتفكُّر النقدي العميق، إلى التورّط في أي تساؤلات غايتها القصوى الوصول إلى خلاصات نهائية وترسيمات جاهزة، تتوخى الكشف عن الشكل الجواني لهذه الثورة العصية على التعريف، عن جوهرها وملامحها وخصائصها، وقواها الحية ومساراتها في كل أطوارها ومراحلها، ومن ثم مقارنتها بثورتي أكتوبر 1964 وأبريل 1985. وذلك لا لأن كل ثورة هي وليدة صيرورتها وتتحكم فيها شروطها التاريخية ومنطقها البنيوي الخاص بها فحسب، حيث تجَرِف هذه الصيرورة التفكير في كل الاتجاهات، التي تتكَّشف من خلالها مدى دينامية هذه الشروط التاريخية التي أنتجتها، ولكن أيضاً لأن أي ثورة هي كشف وإخفاء، في آن للتناقضات الحادة والعميقة لعمليات التغيير في ارتباطها الجذري بأشكال الصراع الاجتماعي، من جهة، وبطبيعة التحولات في بنى وعلاقات القوة والهيمنة التي تتحكم بدورها في إنتاج هذه الأشكال، من جهة أخرى، حيث ظلَّت هذه التحولات في كل طور من أطوار جهاز الدولة في السودان تفرز شكلًا جديدًا من أشكال التحالفات الطبقية وشبكات العلاقات المصلحية النفعية وتغذيها، وحدها ثورة ديسمبر المجيدة هي التي استطاعت وقف سيل القوى الرجعية حاضنة الاستبداد في كل العهود، وتجفيف منابع فيها، ومنعها من الانجراف مع تيار الثورة والركوب على ظهر جوادها الجامح، لكنها لم تكتف بذلك فقط، بل عملت في كل لحظة وحين على كشف تناقضات تلك القوى متى ما همت بركوب الموجة وفضحت خستها وكشفت عريها السافر لتظهر وسمها الذي نالته في بيت طاعة الاستبداد.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

في إنعام النظر إلى وجه الثورة

السودانيون وعبء الحرية الثقيل