09-يوليو-2020

من احتفالات الاستقلال بالعاصمة جوبا - أرشيفية (Amazonaws)

مضت تسعة أعوام منذ أن احتفل شعب جنوب السودان باستقلاله عن دولة السودان، بعد رحلة عناء شاقة من الكفاح الذي استمر طوال عمر الدولة السودانية، لتحقيق جملة من الأحلام والتطلعات المشروعة في دولة جديدة، تشبه توقعاتهم التي سهروا عليها طويلًا على الرغم من المخاوف التي ظلت تهدد وحدتهم أثناء مسيرهم نحو الأرض الموعودة، وقد جاءت احتفالات ساحة الحرية في صبيحة التاسع من تموز/يوليو في العام 2011، واحدةً من أصدق لحظات الجيشان التي رسخت في ذهن العالم ككل، لكن شتان ما بين الأماني والأحلام التي أجلتها أنانية النخب السياسية والعسكرية الحاكمة والتى قررت أن تستأثر بخيرات وموارد الدولة الفتية، باستهلاك وتوجيه العاطفة الوطنية للجنوبيين بخطاب تخديري لا يتجاوز محطة تحقيق الحرية التي دفع ثمنها شعب جنوب السودان، مما تعتبره تلك النخب إنجازها الوحيد والذي ينبغي أن تشكر عليه كلما لاحت الفرصة، متجاوزين بذلك أصحاب الاستحقاق الرئيسي الذين هم الجنوبييون الذين أنجزوا الثورة عبر مراحلها المختلفة، وناضلوا مجتمعين من أجل نيل كرامتهم التي تتجلى قيمتها الرئيسية في احترام حقوقهم الأساسية، تلك الحقوق التي حرمتهم منها مؤسسات السلطة المتعاقبة في السودان، لكنهم لم ينعموا بالراحة التي عملوا من أجلها إذ سرعان ما وجدوا أنفسهم في مواجهة ذات المخاوف القديمة التي بدأت تطل براسها مباشرة بعد الاستقلال الذي نعموا به لبضعة أشهر قبل أن تتجدد الحرب مرة أخرى بين الأخوة الأعداء وعلى أيدى النخبة العسكرية التي طالما نادت ببناء دولة مملوكة للجميع، فسالت دموع الحزن، الحرب و الموت على مزارف دمع الفرح السخين المحتفي بالحرية والانعتاق والاستقلال.

 النخبة العسكرية ومن فرط صراعاتها الداخلية لم تفطن إلى العامل الذي أوصلها إلى المرحلة التي باتت تتولى معها زمام الأمور منذ إعلان الاستقلال

لم تكن مطالب الحركة السياسية الجنوبية التي برزت في منتصف ستينيات القرن المنصرم، تسقط من جدول أعمالها سؤال الوحدة بين كافة المكونات، فهي كانت تعلم أن هشاشة التكوين الاجتماعي الذي لم يصل مرحلة النضج بعد سيظل واحدة من التحديات التي ستلقي بتأثيراتها الكبيرة على مستقبل التجربة السياسية التي تسعى أهدافها النهائية، لكن النخبة العسكرية من الحزب الحاكم الذي تحققت على يديه تلك الأهداف لم تستصحب معها تلك الدروس، إذ أنها ومن فرط صراعاتها الداخلية، لم تفطن إلى العامل الذي أوصلها إلى المرحلة التي باتت تتولى معها زمام الأمور منذ إعلان الاستقلال، لأنها ببساطة كانت تهتم بالأهداف الذاتية وتركة الحرب الأهلية السودانية الثانية (1983-2005)، مما قاد إلى فشل عملية الانتقال نحو الدولة كاملة السيادة التي تتمتع ببسط سيطرتها على كامل أراضيها وتستغل مواردها لصالح عملية بناء الدولة.

اقرأ/ي أيضًا: مفاوضات سد النهضة تدخل يومها الرابع.. والري المصري: الخلافات ما زالت جوهرية

تجربة الاستقلال في جنوب السودان تعرضت لهزة بعد أقل من (36) شهرًا من إطلاق بالونات الوعود التي أطلقتها القيادة السياسية لجنوب السودان وحزب الحركة الشعبية، والذي لم يستثمر خلال الفترة الانتقالية التي امتدت لست سنوات في عملية التحول من تنظيم عسكري إلى كيان سياسي مدني كامل الدسم، وذلك نسبةً لتكريس جل اهتمامه للحرب القادمة مع خصمه في المؤتمر الوطني الذي لن يلتزم بتنفيذ أهم بنود اتفاق السلام والمتمثلة في إقامة الاستفتاء.

اقرأ/ي أيضًا: رئيس الوزراء يلتقي مدير عام الشرطة ويعد بتوفير الإمكانات والدعم اللازم

وفي هذا أيضًا عدم إلمامٍ بالظروف الإقليمية والدولية والمساومات التي أدخل فيها المؤتمر الوطني نفسه مع المجتمع الدولي بإقامة الاستفتاء مقابل تخفيف الضغوط الدولية التي كان قد فرضها عليه المجتمع الدولي؛ مثل قضية المحكمة الدولية والعقوبات الاقتصادية، لذلك أسقطت جميع تلك الأوهام في يد النخبة المتنفذة وهي تدخل مرحلة إجراء الاستفتاء بدون توافق بين مختلف المكونات السياسية والمدنية لجنوب السودان، لذلك حاولت إقامة مؤتمر الأحزاب الجنوبية من أجل التوصل لتفاهمات حول الدستور والاستفتاء والحكومة الوطنية الأولى التي يجب أن يتم فيها مشاركة جميع الأطراف بعد سقوط شرعية نيفاشا، لكن توصيات ذلك المؤتمر الذي أقيم بالعاصمة جوبا ذهبت أدراج الريح في ظل رفض الحركة الدخول في مساومة تاريخية مع القوى السياسية في جنوب السودان.

فالحرب كانت هي العنوان البارز لهذه الحقبة إذ أن ذكرياتها الأليمة قد طغت في المخيلة الشعبية على ثمار الاستقلال التي حصدتها تلك النخب العسكرية والمدنية

لقد مرت مياه كثيرة تحت الجسر خلال التسع سنوات الماضية التي أعقبت الاستقلال، فالحرب كانت هي العنوان البارز لهذه الحقبة، إذ أن ذكرياتها الأليمة قد طغت في المخيلة الشعبية على ثمار الاستقلال التي حصدتها تلك النخب العسكرية والمدنية، وبات للاحتفالات طعم واحد هو الحرية التي لم ينعم بها أي شخص في الدولة الوليدة، أو كما قال الأسقف الجنوب أفريقي الحائز على جائزة نوبل للسلام؛ بأن شعب جنوب السودان هو الشعب الوحيد في العالم الذي لم يجن ثمار حريته حتى الآن، عليه فإن الحديث عن أن جنوب السودان هو دولة فاشلة قد لا يكون صحيحًا البتة، وهنا أجدني أتفق مع الدكتور محمود ممداني الذي ظل يصف الحرب التي وقعت بين الخصوم السياسيين داخل الحركة الشعبية في كانون الأول/ديسمبر 2013، على أنه تتويج لفشل عملية الانتقال نحو الدولة.

اقرأ/ي أيضًا

الكباشي يتعهد بدعم مبادرة الشيخ الياقوت للسلم المجتمعي

جنوب السودان.. لام أكول يتهم الحكومة بإقصاء حزبه من الفترة الانتقالية