على عكس الشائع، في ما يتعلق بالموقف الدولي من نظام الفصل العنصري، في جنوب أفريقيا، فإن الموقف لم يكن دائمًا داعمًا للمؤتمر الوطني الجنوب إفريقي، ومناهضًا للأبارتهايد، خصوصًا في الولايات المتحدة الأميريكية. كما لم تقطع جميع الدول علاقاتها مع نظام الأبارتهايد. بل وسعت دول، كإسرائيل، لتطبيع وجود النظام العنصري، وبادرت بالاعتراف بالبانتوستانات، التي أنشأها نظام بريتوريا العنصري[1]. وكانت إدارة "ريغان" معرقلة لأي تحرك من الكونغرس، لفرض العقوبات على النظام العنصري، حتى تمكن الكونغرس من تجاوز الفيتو بالثلثين[2]. بالمقابل، على صعيد المجتمع المدني، والنخب الاقتصادية الأمريكية، كان لدى نظام بريتوريا حلفاؤه من "المغفلين المفيدين". من المثقفين المحافظين، كويليام باكلي، وريتشارد فيغوري؛ والذي كان قد قاد حملة ضغط على السيناتورات المحافظين، في مجلس الشيوخ، والنواب أيضًا؛ لمنعهم من التصويت لصالح العقوبات لجنوب أفريقيا.
المغفل المفيد، هو السياسي أو الشخصية العامة الساذجة، أو الانتهازي ذو الخطاب الكلبي؛ والذي يوظف خطابه وموقفه لدعم السلطويات والأنظمة الاستعمارية، لتبرر به شرعية قمعها. ويتقدم خطاب الاستبداد السياسي، والذي يستقي به شرعيته
من هم المغفلون المفيدون؟ المغفل المفيد، هو السياسي أو الشخصية العامة الساذجة، أو الانتهازي ذو الخطاب الكلبي؛ والذي يوظف خطابه وموقفه لدعم السلطويات والأنظمة الاستعمارية، لتبرر به شرعية قمعها. ويتقدم خطاب الاستبداد السياسي، والذي يستقي به شرعيته، بعضًا من حجج المغفلين المفيدين. وقد يكون بدرايتهم -المغفلون المفيدون- أو بغير دراية. وتنسب هذه التسمية للثوري الروسي، فلادمير لينين، على الرغم من عدم توفر أدلة لذلك[3]. وكما وظفت هذه التسمية لوصف اليساريين الأميريكيين، الذين كانوا يتوددون للاتحاد السوفيتي، ويزورونه، ويبررون سلطويته، وعنفه في مجاله الحيوي في شرق أوروبا. كذلك، يمكن أن تفهم مواقف بعض المحسوبين على اليسار المعاصر، والذين يدافعون عن نظام الأسد وحلفائه، وإن كان بشكل غير مباشر[4].
اقرأ/ي أيضًا: الحياة الأخرى لشهداء الثورة
فبفضل المغفلين المفيدين، يلتمس نظام الأسد حالة الهلع من الإسلاميين والجهاديين؛ لتبرير قمعه، أو "مكافحته للارهاب"، أو "التكفيريين"، كما يسميهم مؤيدو حزب الله. وقد يكون مثقف معارض للأسد، كأدونيس، بمثابة مغفل مفيد أيضًا، وإن ادعى التنور، فهو ذاته الذي يرى أن "ثورة علمانية لا يمكن تحقيقها عبر أشخاص يخرجون من المساجد".
ولنعد لتجربة الأبارتهايد، في جنوب إفريقيا، وتحديدًا لتجربة مغفل مفيد منسي، يدعى جيري فالويل، مؤسس جماعة الأغلبية الأخلاقية، الانجيلية. والذي عرف بدفاعه المستميت عن نظام الفصل العنصري، الأبارتهايد. لم يكف فالويل عن استهجان نظام الأبارتهايد، ووصفه باللاأخلاقي. ولكنه، كذلك، كان من الداعين للانفتاح على نظام الأبارتهايد؛ بحجة محاربة الشيوعية، وكانت من أشهر مقولاته "في جنوب إفريقيا، الصراع هو صراع بين الحرية والشيوعية". وكان يرفض مقاطعته أيضًا، وبحجج متباينة. وترجم فالويل مقولاته ومواقفه لأفعال أيضًا؛ وكان من أبرز الأسماء التي مارست ضغطًا شديدًا في أروقة صناعة القرار، في واشنطن، لمنع فرض العقوبات على حكومة الأقلية البيضاء-العنصرية في بريتوريا. وكان فالويل يصوغ حججًا تظهر الموضوعية والمنطقية، إلا أنها تبطن الدافع الكلبي. والبعض، كان يراه مبطنًا للعنصرية؛ كونه كان خصمًا للأسقف الجنوب إفريقي، الانجيلي، ديزموند توتو، والذي كان من أبرز المناضلين ضد نظام الأبارتهايد. والذي وصفه فالويل بالمتصنع[5].
وفي مناظرة شهيرة لفالويل مع أشهر قياديي حركة الحقوق المدنية الأميريكية، جيسي جاكسون، حول نظام الأبارتهايد، كان يقول "إذا سحبنا استثماراتنا وقاطعنا جنوب إفريقيا، لن تتضرر مصالحنا الاقتصادية فحسب. بل وكذلك، سيتضرر أكثر من مليون ونصف إفريقي، من السود، أتوا من مناطق مجاورة كليسوتو، سوازيلاند، موزمبيق، ومن جميع الدول المجاورة. لا أحد يغادر جنوب إفريقيا لبلاد أخرى، بل الجميع يهاجرون لجنوب إفريقيا للعمل، ويدعمون أسرهم بعوائد عملهم". وأدرج ضمن حججه المتعددة حجة يقول فيها "إن أفضل طريقة للتعامل مع جنوب إفريقيا هي ضمن انتقال تدريجي، ويمارس فيه الضغط عليها، دون مقاطعتها، ومن دون التسبب في خسارة الأرواح. وبدون اعطاء الماركسيين فرصة لاستغلال القضية؛ فهم يتغذون على عدم الاستقرار والفوضى. إن القضية الجنوب إفريقية يجب أن تكون بمثابة ووتر-غيت، بالنسبة للإعلام الأميريكي، ففي إفريقيا خصيصًا، لست بحاجة لتسافر بعيدًا لتعرف أن جنوب إفريقيا ليست المشكلة الأكبر، ففي إثيوبيا والسودان، يقتل ملايين السود. وفي يوغندا، حيث يحكم عيدي أمين، يقتل مئات آلألاف من السود أيضًا. وكذك في ليبيا، والتي يحكم فيها الدكتاتور القذافي، والذي غزا تشاد". وختم قائلا "أرى أنه من النفاق أن تسلط الأضواء على جنوب افريقيا، بينما هناك أنظمة أكثر إجرامًا منها في المنطقة"[6].
اقرأ/ي أيضًا: معضلة الولايات..عملية السلام في عنق الزجاجة
وما أشبه اليوم بالبارحة، فمن السهل جدًا مقاربة مقولات فالويل وحججه بحجج دعاة التطبيع مع إسرائيل، من العرب. وكما شكك البعض في تبطين فالويل لنوايا عنصرية، أو كره للأفارقة. كذلك، يبطن العديد من دعاة التطبيع من السودانيين كراهية شعبوية للفلسطينيين. وبعضهم، من له منطلقات ساذجة، أو منطلقات شعبوية مستسقاة من الخطاب اليومي، ويقدمونها على أنها خطاب سياسي موضوعي.
ككلبية فالويل، يلجأ النور حمد للحجة القائلة بأنه "يمكن إقامة علاقات مع إسرائيل ومساندة الفلسطينيين، في آن معًا". وبالطبع، لا يمكن أن يستند على حقائق لتدعيم موقفه
ويشابه خطاب جيري فالويل، والذي يدافع به عن العلاقات مع نظام الأبارتايد، خطابي "النور حمد" و"مبارك الفاضل"، بل ويصل لحد التطابق. فالأول، أي حمد، رحب بمقابلة عبدالفتاح البرهان لرئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في عنتيبي. وفي مقابلة له، مع قناة سودانية 24، لمح إلى أن الأحزاب السياسية السودانية الأيدلوجية، كالشيوعي والمؤتمر الشعبي، تسعى "للكسب السياسي" من المتاجرة بالقضية، لتعبئة رصيدها السياسية على المدى القصير. قد يكون في كلامه بضعًا من الصحة، إذا ما كان من منطلق نقد خطاب الاستبداد المتاجر بقضية فلسطين، أو الطبقة السياسية الرجعية. لكن، حمد يعتبر هذا الاستغلال من قبل النخبة منطلقًا لرفض جل الحجج المناهضة للتطبيع. أما بالنسبة لكون القضية الفلسطينية قضية عادلة، فلقد لجأ لمقاربة فيها موقف كلبي، حيث قارن بين العلاقة مع إسرائيل في ظل احتلالها لفلسطين، بالعلاقة مع مصر، والتي تسيطر على مثلث حلايب. حيث قال "بالنسبة لخيانة القضية الفلسطينية، ووجود أرض مسلوبة، أنظروا لعلاقتنا مع مصر؛ فهي مستمرة، على الرغم من أنها تحتل حلايب من السودان، ولم نقطع علاقتنا معها، ونحن نزورها وهم يزوروننا"، وأضاف "يمكننا اللجوء للمفاوضات والتحكيم الدولي لحل القضية". وعبر حمد عن موقف شعبوي جاهل بالسياسة الأميريكية، في قوله "إسرائيل من راسمي السياسة الأميريكية في المنطقة". وككلبية فالويل، يلجأ النور حمد للحجة القائلة بأنه "يمكن إقامة علاقات مع إسرائيل ومساندة الفلسطينيين، في آن معًا". وبالطبع، لا يمكن أن يستند على حقائق لتدعيم موقفه، على الرغم من أنه ناقد لديماغوغيا الخطاب السياسي السوداني. في تناقض صارخ مع خطابه ومواقفه العامة. وكما كان غريبًا، في عهد الأبارتهايد، أن يحاجج أحدهم بأن دعم الأفارقة يكون بالتطبيع مع النظام العنصري، فهذا ينطبق على فلسطين أيضًا. فهي ضمن المسائل الكولونيالية أيضًا[7].
اقرأ/ي أيضًا: البشير في لاهاي.. الجريمة والعقاب
ولا يمكن مقارنة احتلال مصر لحلايب، أو روسيا لجزيرة القرم؛ باحتلال فلسطين. فما حدث في فلسطين التاريخية كان عملية تطهير عرقي، في عام 1948. وسبقها نمط استيطان إحلالي، استولى على الأرض، وطرد السكان، وما زال يطردهم. ومن المثير للاستغراب، أن يقول مؤسس إسرائيل، ديفيد بن غوريون "لو كنت زعيمًا عربيًا، لما قبلت بإسرائيل، إنه موقف منطقي، لقد سرقنا وطنهم"[8]. وتجد من يدافع عن الموقف الإسرائيلي شخصيات عامة، ومن العالم الثالث، وتكون عربية!
أما بالنسبة للأخير، مبارك الفاضل، فقد توسل بحجج شعبوية، وتفوح منها رائحة العنصرية. ولم يتوانى عن الكذب، بقوله "أن الفلسطينيون قد باعوا أرضهم"[9]. وهذه سردية تكذبها الرواية الصهيونية نفسها، والتي تعترف بطرد الفلسطينيين من أرضهم. حيث يقول وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، شلومو بن عمي، عن قصة إنشاء الدولة اليهودية في مقالته المطولة، في مجلة فورين أفيرز الأميريكية، "لقد ولدت الأمم في خطيئة"[10]. ويقصد بن عمي، بالخطيئة، في السياق الذي يصفه، التطهير العرقي الذي جرى للفلسطينيين، في عام 1948.
تلجأ الطبقة السياسية السودانية، ومغفلوا إسرائيل المفيدون، لحجج شعبوية، كحجج فالويل. وتردد دون وعي بالسياق السياسي والتاريخي، أو بتعمد لتغييب هذا الوعي لتجهيل المتلقين حجج كـ" الفلسطينيون لديهم علاقات مع الإسرائيليين، وهم يطبعون معهم". أو بترديد حجج شعبوية، تعبر عن مشاعر شوفينية، كـ" الفلسطينيون يكرهون السودانيين في المهجر، ويسرقون منهم وظائفهم". وهذه حجة رددها سياسي، كمبارك الفاضل.
وأما بالنسبة للموقف من الولايات المتحدة، ينسى النور حمد، والذي ذكر مثال دولة جنوب السودان، أن جنوب السودان على علاقة قوية مع إسرائيل. وعلى الرغم من ذلك، فان عددًا من وزرائها، ونائب رئيسها في لائحة العقوبات الأميريكية[11]. كما لم يسبق أن تعاطى الأكاديميون وصانعوا السياسة الأميريكية، في الشرق الاوسط، مع السياسة الأميريكية عبر إسرائيل. وبالأصل، هذه حجج يفندها دبلماسيون صهاينة، كدينيس روس، في كتابه"[12]!!
على الليبراليين والتقدميين، أن يعبئوا ترسانتهم الفكرية، ويواجهوا الخطاب الشعبوي الشوفيني ضد الشعب الفلسطيني، والمملوء بالكذب، والمجرد من الموقف الأخلاقي. وفي الآن ذاته، عليهم أن يقدموا حلولا للمأزق السوداني، والذي يعد منفذ داعمي التطبيع الأول
تعتبر القوى الليبرالية والتقدمية الغائب الأكبر عن الساحة السياسية السودانية. كذلك، فرغت النخب "السوداناوية-الإفريقانية" ذات الخطاب القومي معنى الإفريقانية من مضمونها؛ محولة إياها لموقف شوفيني يميني. علمًا بأن الإفريقانية هي في جوهرها بنت شرط سياسي عالم-ثالثي، وتضع قضايا العالم الثالث أولوية لها، وتتضامن معها، وقضية فلسطين هي من ضمنها. إلا أنها تخلت عن ذلك الطرح؛ باسم "مصلحة السودان فقط". في تناقض جوهري مع غاياتها التحررية. وبالنسبة للموقف الديموقراطي، وموقف الرأي العام، فهو متجاهل أيضًا. فاستطلاعات الرأي ما زالت تبين أن الرأي العام السوداني هو على توافق مع الرأي العام العربي، الرافض للتطبيع مع إسرائيل.
لقد بات من الواضح، أن الطبقة السياسية والثقافية السودانية تعد العدة لتحشيد الرأي العام وتعبئته لدعم التطبيع. وكأي طبقة سياسية-ثقافية، يكون فيها تواجد لمن يلعبون دور المغفلين المفيدين للخطاب السلطوي والاستعماري. وفي السودان، لم يصعب على إسرائيل أن تجد ضالتها. بالمقابل، على الليبراليين والتقدميين، أن يعبئوا ترسانتهم الفكرية، ويواجهوا الخطاب الشعبوي الشوفيني ضد الشعب الفلسطيني، والمملوء بالكذب، والمجرد من الموقف الأخلاقي. وفي الآن ذاته، عليهم أن يقدموا حلولا للمأزق السوداني، والذي يعد منفذ داعمي التطبيع الأول.
المصادر:
[1] https://electronicintifada.net/content/bantustans-and-unilateral-declaration-statehood/8543
[2] https://www.nytimes.com/1986/10/03/politics/senate-78-to-21-overrides-reagans-veto-and-imposes-sanctions-on.html
[3] https://www.nytimes.com/1987/04/12/magazine/on-language.html
[4] https://www.thetimes.co.uk/article/assad-s-useful-idiots-hddlzn0vz
[5] https://www.latimes.com/archives/la-xpm-1985-08-21-mn-1074-story.html
[6] https://www.youtube.com/watch?v=vLBG8TVPhb8&t=1894s
[7] https://www.youtube.com/watch?v=SOErMlCudhI
[8] https://www.newyorker.com/magazine/2008/05/05/blood-and-sand-books-david-remnick
[9] https://www.shasha.ps/news/273650.html
[10] https://www.foreignaffairs.com/reviews/review-essay/2008-09-01/war-start-all-wars
[11] https://in.reuters.com/article/usa-southsudan-sanctions/u-s-imposes-sanctions-on-south-sudanese-vice-president-idINKBN1Z72HH
[12] https://www.nytimes.com/2015/10/25/books/review/doomed-to-succeed-by-dennis-ross.html
اقرأ/ي أيضًا
النخبة السودانية وإدمان التفكير التصنيفي