24-ديسمبر-2020

يعرّف الفيلسوف والمحلل النفسي الفرنسي، جيل دولوز، الفلسفة بأنها: "ابداع المفهوم" بما يجعلها ليست اجترارًا واستعادة لما هو قديم أو حتى ما كان حاضرًا؛ حتى أن بعض المترجمين العرب فضلوا أن يترجموا تعريفه للفلسفة بأنها (إبداع الأفهوم) بوصف الفعل التفلسفي واقعًا في مكانٍ مختلف وجديد بين لحظة انطلاقه وما يصبو إليه.

ليس ببعيدٍ من أجواء التفلسف الفرنسي، من مفاهيم مشابهة تنطلق الكاتبة والمحللة النفسية التونسية، رجاء بن سلامة، التي شغلت مؤخرًا منصب المدير العام لدار الكتب في تونس، في كتابها الذي صدر بعنوان "العشق والكتابة" عن دار الجمل بألمانيا في العام 2003، الذي في أصله أطروحة لنيل الدكتوراة من كلية الآداب بجامعة تونس.

الكتاب دراسة مستفيضة وشاملة للموروث العربي والإسلامي ومخطوطاته وسيره في العشق

الكتاب دراسة مستفيضة وشاملة للموروث العربي والإسلامي ومخطوطاته وسيره في العشق، وتنطلق الباحثة بدءًا من رفض كلمة "التراث"، وتستبدلها بـ"الموروث" للإحالة إلى ما يشار اليه خطأ بلفظ "التراث" بوصفه ليس "تراثًا" صلدًا جامدًا، بل هو في اللحظة التي يصل فيها إلى متلقيه ويتشيأ معه، يختلطان معًا، مانحان الهوُية خاصية الإمكان، نافيان أن الهُوية مطابقة مع "التراث" حتى وإن استفادت منه.

اقرأ/ي أيضًا: "بلد النساء" في اعتصام القيادة

تقول الكاتبة في تصدير الكتاب، في محاولة تبيان موقفها من "الموروث": "... ومع ذلك فنحن، ككل ورثة، منفصلون عن هذا الموروث، قذف بنا جميعًا خارجه، بمن في ذلك الداعون إلى ضرورة التطابق معه والعودة إليه، واللذين يتحدثون لغة الحداثة عن غفلة منهم أو وعي. وككل ورثة، علينا أن نتحمّل مسؤولية هذا القذف، كما يتحمل الوليد شيئًا فشيئًا مسؤولية خروجه من الرحم، أو كما يتحمل اليتيم أعباء يتمه... كيف يمكن الانتقال من خطاب الهوية الذي يُشيئ الأصل ويفترض ضرورة التطابق معه إلى خطاب يعتبر الهوية ممكنات مستنبطة نحققها ولاتحققنا، نصنعها ولا تصنعنا".

الكتاب الواقع في زهاء السبعمئة صفحة، خصص بالكامل لدراسة الموروث العربي والإسلامي الذي تناول العشق، والذي دوِّن وورد في العديد من المخطوطات العربية ضمن التراث العربي والإسلامي، والذي ورد على لسان شعراء أو في حكاوي وقصص العاشقين وآثارهم، أو في المقولات التي وردت على ألسنة مجانين العشق وقصصهم الأسطورية، أو ما تناقلته المخطوطات العربية من النصوص القديمة واليونانية، التي درست العشق في تمظهراته الجسدية أو العقلية، مستفيدة في ذلك من علوم عديدة، كان أهمها منهجي التحليل النفسي لرائده العالم النمساوي سيجموند فرويد، ومنهج التفكيك الذي نظّر له وأرسى قواعده الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. كما حضرت بين المناهج العديدة المستخدمة في الكتاب أطروحات المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان، ومن المفهوم حضور هذه الأصوات الفرنسية كون أن الكاتبة نفسها درست التحليل النفسي في فرنسا، كما تعد الكاتبة أحد المؤسسين للجمعية الثقافية التونسية للدفاع عن اللائكية، نسبة إلى جاك لاكان.

اقرأ/ي أيضًا: "ستموت في العشرين".. الدخول للحياة من باب الموت

لكن؛ كان اللافت في هذا الدراسة، أنها وإن عدَّ جزءٌ منها تطبيقًا لمناهج غربية، إلا أنها أعملت هذه المناهج في البيئة العربية البدوية، التي تخلّق فيها هذا الموروث، فأنتجت مجموعة من القيم والمفاهيم الجديدة المستنبتة من البيئة، وشخّصت حالات العشق في الموروث العربي والإسلامي انطلاقًا من بيئته.

السدم: التغيّر الذي يصيب الذات العاشقة

أحد أهم المفاهيم التي سترافق القارئ أثناء تصفحه هذا البحث الضخم، هو مفهوم "السدم"؛ المفهوم الذي أسست له الكاتبة في بادرة نادرة في الفكر العربي، حيث عادة ما يستخدم الكتاب والمفكرون العرب منتجات الفكر الغربي جاهزة، ويكاد ينعدم أي مفهوم فلسفي عربي قام باجتراحه أحد المفكرين أو الباحثين انطلاقًا من الخصوصيات الثقافية.

"السدم" هو ما اصطلحت رجاء على تعريفه بأنه: "التغيّر الذي يصيب الذات العاشقة"، مستلهمة له من الحالة التي تصيب البعير الممنوع من "الضراب" -أي الجماع، حيث يصير البعير بعدها هائجًا، كما أوجدت الكاتبة علاقات عديدة بين المخيلة العربية في تعاطيها مع العشق وصورة الجمال والبعير، حيث أوردت أحد الآراء التي ترجع أحد أشهر مسميات العشق "الهيام" إلى أنه الداء الذي يصيب الجمال ويجعلها تشرب الماء دون أن تروى، كما تهيم الجمال المصابة بالداء على وجهها، ومنه جاء التعبير "هام على وجهه في الصحراء".

غلاف "العشق والكتابة"

ترى رجاء، أن الشوق -بوصفه أحد تمظهرات العشق، طاقة وحركة ونار، كما جاء في عناوين مباحث الفصل الأول. وهنا نلحظ بداية استفادتها من منهج التحليل النفسي، حيث بالعودة إلى مفهوم "السدم" نجد أن أصل الهياج الذي يصيب البعير مرده "الكبت الجنسي" كأحد أهم المفاهيم الفرويدية.

اقرأ/ي أيضًا: مترجم| صلوات للسلام في "كنيسة اللاجئين"

أوردت رجاء في الكتاب نصًا طبيًا منسوبًا لأطباء يونايين تناقلته أغلب الكتب العربية التراثية التي تناولت العشق باختلافات طفيفة في متن النص، وأوردت رجاء النص كما أورده السفر العربي الشهير كتاب الزهرة، حيث تعتبر رجاء أن هذا النص يعد نصًا مركزيًا في فهم تمظهرات "السدم" الجسدية، كما عدته محاولة عقلنة طبية للسدم.

العشق طمع يتولد في القلب وتجتمع إليه مواد من الحرص

النص كما أوردته رجاء: "إن العشق طمع يتولد في القلب وتجتمع إليه مواد من الحرص وكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدة القلق، وكثرة الشهوة. وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته للسوداء، والتهاب الصفراء وانقلابها إلى السوداء. ومن طغيان السوداء فساد الفكر ومع فساد الفكر تكون العدامة ونقصان العقل ورجاء ما لا يكون وتمني ما لا يتم، حتى يؤدي ذلك إلى الجنون، فحينئذٍ ربما قتل العاشق نفسه وربما مات همًا وربما نظر إلى معشوقه فيموت فرحًا أو أسفًا وربما شهق شهقة فتختفي فيها روحه أربع وعشرين ساعة، فيظنون أنه قد مات فيقبرونه وهو حي، وربما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه وينضم عليها القلب، فلا ينفرج حتى يموت. وربما ارتاح وتشوّق للنظر أو رأى من يحب فجأة فتخرج نفسه فجأة دفعة واحدة".

ترد رجاء ظاهرة "فساد العقل" إلى حادثة "الانقطاع عن الجماع"، حيث تقول معلقة على النص الطبي: "ولا يمكن، في رأينا، أن نفهم هذا المسار دون إضافة حلقة تكاد تكون مفقودة في النص، لعلّ عبارة "وتجتمع إليه مواد من الحرص" تلمّح إليها دون تفصيل قد يوقع في حرج (الإفحاش). هذه الحلقة تقع بين الطمع والعشق والإصابة بالسوداء، وتتمثل في انقطاع المني بسبب الانقطاع عن الجماع، بحيث أنّ المني الفاسد يصل إلى الدماغ ويفسده". وتحيلنا الكاتبة إلى مصدر هذه المعلومة -معلومة أن المني الفاسد يفسد العقل- لـ(Burgel, j.C; Love Lust and Longing).

وترى رجاء أن ما دُعي بـ "فساد العقل" هو إحدى الميز الأساسية التي تميز تمظهرات "العشق"، وتستدل على ذلك بأن العديد من مسميات العشق في اللغة العربية تدل بشكل واضح لفساد العقل والخبل، كمسمى "الدله" الذي أطلقه العرب لتوصيف حالات محددة من الحالات العشقية. كما قامت في نهاية الكتاب بتصنيف جدول يجمع كل مسميات العشق في الموروث العربي والإسلامي، مبينة في كل مسمى درجة التغيّر "السدم" المرتبطة بالمسمى والحالة التي يمثلها، فالخٍّلة إحدى المراتب العشقية، والتي تحدث بعض المظاهر السدمية بدرجة أقل، مثلها والإلفة.

اقرأ/ي أيضًا: العلامات.. جينات المستحيل في العقل

لم تسلم كل المظاهر العشقية عن منهجية رجاء البحثية التي حاولت أن تظهر البنية السدمية في كل الحالات العشقية، بما فيها الحب الإلهي أو الصوفي أو ما عرف بالحب العذري، فالحب العذري مثلًا، الذي عرف شعبيًا بأنه حالة عشقية خالية عن الغرض، تناولته رجاء بتفحص لتظهر بذلك تعقيده وخفاياه، موضحة أن الخلاصة التي وصل لها المفكر السوري صادق جلال العظم، في كتابه "في الحب والحب العذري"، باعتبار أن العذرية هي حالة "سادومازوشية" لتعذيب النفس والغير، هي خلاصة متعجلة. معتبرة النتيجة إسراف غاضب وتعجل متسرع، بحسب ما وصفت.

لا عوض عن قراءة الكتاب وتأمل وتدبر ما جاء في قصصه وما حوى من أشعار

محاولة عرض الكتاب تبدو مستحيلة، خصوصًا أنه كتاب أكاديمي اشتغل على ألغز المناطق الإنسانية وأصعبها على الفهم الأكاديمي، وقام بمناقشته وإجازته، في أطروحته الأكاديمية، عدد من الأساتذة الجامعيين، ليُجيزوا البحث كأحد أهم المراجع وأوسعها للعشق وتمثلاته الإنسانية في الثقافة العربية، وربما على مستوى التجربة الإنسانية جمعاء بما حوى من مناهج بحث عديدة، فلا عوض عن قراءة الكتاب وتأمل وتدبر ما جاء في قصصه وما حوى من أشعار سوى مطالعة الكتاب الذي جمع جل السير والمرويات عن العشّاق العرب وحكاياتهم، مخضعًا لها لدراسة فلسفية لم تترك شاردة إلا أخضعتها للفحص والنقد، بعيدًا عن الغرق في السير الشخصية لأصحاب القصص، أو وصمهم بالجنون والاختلال النفسي، ابتعادًا عن مناهج الدراسات والتطبيقات "الكاريكاتورية" لنهج التحليل النفسي في الدراسات التقليدية التي تناولت العشق في الموروث العربي والإسلامي.

اقرأ/ي أيضًا

"محاكمة سبعة شيكاغو".. التاريخ يراوح مكانه

هل يهدد الذكاء الاصطناعي مستقبل الصحافة والصحفيين؟