17-سبتمبر-2024
آثار الحرب في العاصمة القومية الخرطوم

توطئة

يجب الإشارة في مبتدأ المعالجة الراهنة إلى أن العنوان مقتبس عن مقالة كان قد سطرها المحبوب عبد السلام، في وصف النخبة الإسلامية التي ناصرت سلطة البشير في أفق المفاصلة، على حساب الترابي، بحسبان أن النخبة الإسلامية التي تكونت في أرقى الجامعات الغربية، ومتحت من منهاجها ورؤاها، قد أدارت ظهرها للتنظيم الذي مثّل الترابي قيادته التاريخية، لصالح "سلطة التغلب وإمارة الشوكة"، بحجة أن سياق الضرورة كان يحتّم الحفاظ على "بيضة الدولة"، وإن كان ذلك يقف بالضد من المبادئ والنواظم الأخلاقية المتصلة بدولة المشروع لا مشروع الدولة.

وإزاء ما نجتازه من تحول مزلزل بسبب حرب إبريل، مقروءة بتناقضات طور الانتقال الأخير منذ حراك ديسمبر 2018م، تطل أسئلة ملحة حول أدوار المثقفين أو طبقة الإنتلجنسيا في المنعطفات التاريخية الحرجة التي حدثت في السودان مؤخرًا بوتيرة متواترة ونسق مكثف نادر الحدوث مذ تشظت جغرافيته بخروج الجنوب واشتعال مركزه بحراكي سبتمبر 2013 وديسمبر 2018 بعد أن نجحا في إسقاط حكم البشير المتطاول لثلاثة عقود، ثم تعثر الانتقال الذي افتتح بفض الاعتصام وانتهى بانقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021، وهو يحمل في مطوياته أعنف حرب اخترقت عمق المركز وأنهت معادلات سلطته وقوضت قوام دولته.

انشطرت النخبة إلى فسطاطين؛ ما بين انحياز مشروط للدولة وجيشها على اختراقاته المتكررة من التنظيمات السياسية يمينها ويسارها، وما بين النظر إلى الدعم السريع كمقابل موضوعي لتمكين الإسلاميين في التشكيلات الأمنية والعسكرية المستمر في مرحلة ما بعد التغيير

حجب غبار الحرب دوافعها ورهاناتها بسردياتها المحكية والمنتجة ضمن خطاب المعركة ومعركة الخطاب، تارة بوصفها حربًا أشعلها "عناصر النظام السابق" لاستعادة حكمهم واسترداد مجد دينهم المقرر في أهازيجهم عبر دفع أقصى فواتيره بإراقة كل الدماء، أو باعتبارها تارة أخرى انقلابًا خاطفًا قام به الدعم السريع لفرض رؤيته الخاصة بإطار الدمج في الاتفاق الإطاري ومدته المقدرة بعشر سنوات، والذي تحول إلى حرب ضارية أتت على أخضر البلاد ويابسها وخربت عمرانها وشردت إنسانها ما بين قتيل وجريح ومفقود أو لاجئ ونازح. وفي مستوى أدنى وأقسى، أفقرت مجتمعاتها الآمنة والمنتجة وأفرغت أطر معناها ومبناها.

حيال كل ذلك، انشطرت النخبة إلى فسطاطين؛ ما بين انحياز مشروط للدولة وجيشها على اختراقاته المتكررة من التنظيمات السياسية يمينها ويسارها، وما بين النظر إلى الدعم السريع كمقابل موضوعي لتمكين الإسلاميين في التشكيلات الأمنية والعسكرية المستمر في مرحلة ما بعد التغيير، بحسبان أن لجنة إزالة التمكين المنتدبة لمهمة تتبع آثار ثلاثة عقود من التسييس والأدلجة لم تصب مؤسسات الدولة الصلبة وقوى عنفها باستثناء الدعم السريع المنظور دمجه إلى جانب الحركات المسلحة في جيش مهني واحد وقومي بعقيدة قتالية وطنية تحددها مقررات الأمن في دولة مدنية كاملة.

وبالتوازي مع الحرب المشتعلة بين جنود الجيش وحشود الدعم السريع، اندلعت معارك كلامية في أوساط المثقفين من خلال العوالم الشبكية، وعاد إلى الأضواء رهط من أهل المعرفة والفكر والثقافة والأكاديميا بعد طول انزواء. فظهر عبد الله علي إبراهيم، ومحمد جلال هاشم، وعشاري محمود، والواثق كمير، يناصرون الجيش في "حربه العادلة" ضد غازية الدعم السريع وامتدادات "فزع" الحزام الرملي المتدفق عبر الصحراء الغربية. وفي المقابل، أيقظت المعارك الهويات الجزئية لـ"نخب الهامش"، المعاد إنتاجه "خطابًا" في حرب المركز، مع تسويق وتسويغ لما تقوم به قوات الدعم السريع بوصفها امتدادًا لحركات التثوير المسلح، وإجراء مقايسات على الفارق بين جيوش حمدان وجحافل قرنق. فاستدار الوليد مادبو المختص في قضايا الحوكمة ليبشّر بميزة انتقال السلاح إلى الريف وتحلل عرى الدولة. ودعا النور حمد، الذي أفرغ كنانته في تفكيك العقل الرعوي، إلى إجراء حلف براغماتي مع الدعم السريع لاستحواذهم على نطاق واسع من جغرافية السودان النشطة. ورأى ياسر سعيد عرمان في الحرب الدائرة فرصة سانحة للتخلص من قوة الإسلاميين الصلبة.

تحولات النخبة

وبمثل ما تجتاز الإنتلجنسيا السودانية أزمة واقعية هي نتاج فعلها التاريخي أو قل نكوصها عن الدور التاريخي الواجب فعله، فإنها تعاني أيضًا من التحولات الضخمة في سياق الدور والوظيفة والفاعلية والحضور، مما فاقم من أزمتها وضاعف من تركيبها وتعقد مسارها بعد أن تراجع دورها الطليعي ووصايتها العامة على القيم المشتركة المتعلقة بالحقيقة والحرية والعدالة. لقد تضافر الوصف والإطلاق بنهاية المثقف وأفول تأثيره العمومي بعد أن غابت نماذج الفاعل الملتزم الذي ظهر في سياق أزمة درايفوس وما توالى بعد ذلك من أحداث وبروز الفاعل المتصل المتشابك مع بنية الافتراضي بمشهدانيته الصورية ونزوعه نحو المباشرة والتبسيط. وكان في انفتاح الأفق المعرفي على مصراعيه بموجب تنزل بركات التكنولوجيا إيذان بتداعي سلطة المثقف المعرفية حال كونه مالكًا حصريًا لشروط إنتاج المعرفة، قبل أن يتنازل ليكتفي بشروحها، ثم ها هو كل يوم يتنازل في مدارج الهبوط خطوة بعد خطوة. ومع تزايد وتيرة المأسسة تغير واقع المثقف وفقد أدواته النقدية حين تغيرت وجهة النقد من الخارج إلى الداخل، وبات المثقف نفسه خاضعًا لسلطة السؤال لا قائمًا بمساءلة السلطة عبر صوغ الأجندة الأخلاقية (فكرًا وممارسةً، وخطابًا ومؤسسةً).

هذا الأفق المأزوم ألقى بظلاله على واقع المثقف رغم أهميته في دول الجنوب التي تعاني تغايرًا هيكليًا ونقصًا في المفاعيل الاجتماعية المنتجة للمعنى بسبب عدم تبلور الطبقات فيها وضعف المؤسسات قيمًا ونظمًا، كما ألمح المفكر العربي عزمي بشارة في تنبيهاته المتكررة منذ اندلاع "انتفاضات الربيع العربي" بموجتيه الأولى والثانية وارتداداته الإقليمية المضادة، مشيرًا إلى خطورة أن يملأ فراغ المثقفين فاعلون آخرون أقل التزامًا على صعيد الأخلاق، وأقل حماسةً في تبني مشروع التغيير، وأكثر ارتكاسًا إلى حمأة الهويات الجزئية (الطائفية، والمذهبية، والقبائلية)، رغم إثارته الرمزية إلى حال كون المثقف في الحقل التداولي العربي يرجع إلى قبيلة ثقيف المشتهرة بصناعة السيوف. فمن حيث الانتساب، يعود المثقف بالنشأة إلى القبيلة، ومن حيث الوظيفة، يرنو إلى سيف السلطة.

النخبة والسلطة المدججة بالسلاح

تعاني النخبة السودانية الموصومة بالفشل ذات الإشكاليات المطروحة في عالم الجنوب، وتزيد عليها بخوضها في المعترك العمومي بزاد قليل من الصبر على التغيير واستعجال ثمرة السلطة والتبرير لصاحب الصولجان والاستعانة بالعسكر في حسم الصراعات المدنية أو بالأجنبي أو بصنع المليشيات ذات الطابع القبلي وتثوير الأطراف على أنها هامش بنيوي أو بنية هامشية، مع أن المركز نفسه مثّل على امتداد التاريخ هامشًا مكثفًا. وبرغم أن الصراع الراهن والمتخذ أقصى أدوات تعبيره عنفًا هو من خلق النخبة وسوء تصريفها للأمور، وبرغم أنه أتى على حلة الاستقرار الهش الذي تعيشه البلاد منذ زمن بعيد قضى بانفصال ثلث مساحته وربع سكانه، وأن الحرب غير منظورة من حيث آثارها وظلالها الإنسانية، إلا أن النخب المنذورة لاجتراح أفق الحل والخروج من الأزمة غدت أبرز تمظهراتها وإحدى تجلياتها المزمنة. وباستعراض نماذج سريعة لطرائق التفكير ورهانات الاصطفاف، ندرك أين تكمن الأزمة.

استدارة عشاري ومادبو

من مفارقات الحرب الراهنة إنتاجها لتصنيفات جديدة مخالفة للحالة السياسية السابقة، وعلى رؤى ومواقف ورهانات متباينة. وكما ذكر كارل شميت، المنظّر السياسي المعروف، بأن أهم تمييز يمكن أن يرد في عالم السياسة يقع بين العدو والصديق، وهو أكثر ما يكون حدةً واحتدامًا حال اندلاع الحروب التي تتخلى فيها العداوة عن لبوسها الرمزية والتباساتها المجازية وتخرج مجردة من كل شيء. يؤكد شميت أنه لا عدو في السياسة إلا العدو العمومي (العدو المعروف والمعرف بالألف واللام)، العدو الشاخص لا الشخصي والفردي. من هذه الزاوية ترتسم مفارقة دكتور عشاري أحمد محمود، الذي كان قد أنفق مدادًا صارخًا في هجاء الجيش في أعقاب حادثة فض اعتصام القيادة، قبل أن ينقلب مؤخرًا إلى مناصرته وتشجيعه فيما يطلق عليه معركة بقاء الدولة وإبطال العدوان الإقليمي والدولي على السودان، عبر النظر إلى الحرب بوصفها مؤامرة دولية متعددة الأبعاد والجهات والرهانات. ويؤكد عشاري، الذي ينشط في العالم الافتراضي، أن قيادة الجيش التي كانت قد سمحت بعملية فض الاعتصام هي نفسها من قام باستدارة مهمة في سبيل الحفاظ على الدولة على نحو أسطوري، فانتقلت من انهزام العاجز إلى ثبات المعجز.

أما الدكتور وليد مادبو، الذي يقف على أقصى تفاصيل النقيض من النسخة الحالية لعشاري، فقد أجرى استدارة في الاتجاه المعاكس نحو الدعم السريع، فنسج على منوال خطابه المتعجل بخصوص "دولة 56" زاعمًا بتحللها واندثارها منذ عقود مضت – غير مأسوف عليها – لأنها سامت شعوبها سوء العذاب. "وتمنى الناس زوالها بعد أن أثقلت عليهم بالضرائب والأتاوات التي لا يجدون مقابلها خدمات". ويقول في ذات المقال الذي حمل عنوان: (انهيار دولة الجلابة): "هذه الحروب هي محاولات جسورة ظل يقوم بها أهل الهامش السوداني منذ "تمرد" توريت عام 1955 حتى دخول خليل إبراهيم الخرطوم وأم درمان عام 2008 للتخلص من حكم الأقلية العرقية والعصابة العقائدية - تلكم التي استمرأت حكم البلاد لأكثر من قرنين (اعتبارًا من تاريخ دخول الأتراك السودان في عام 1821) وأعتقدت بأنه حق إلهي مقدس، فيما يعلم الكل أنّه إرث استعماري مُدَنَس". وهذا قول يناقض ما سبق أن قرره في كتابه (دارفور المستوطنة الأخيرة) حين شدد في أكثر من مرة على ضرورة أن يقام التصنيف بين أبناء السودان على أساس تنموي لا عصبي، قبل أن يعود ويقول بأن "الغرابة" - وهو وصف جهوي بامتياز - يشكلون 70% من سكان السودان ولا مناص من إنصافهم فيما يتجاوز، بحسب ما قال، (ألاعيب الترميز التضليلي). ويعود مرة أخرى في مقالة لاحقة تحت عنوان: (المليشيا بديل للدولة): بأن الصراع الدائر اليوم بين الغرابة والجلابة هو صراع بين نخبتين من قومية واحدة ما كان ينبغي لهما أن يتبادلا "التلاسن والتماحك والتفاخر بنفاسة المحتد وخالد المآثر"، ولا أن ينفلتا من عقالهما فيقتتلان دون الالتزام بقواعد الاشتباك، فالصراع بين الأخوين يجب أن يؤطر بسياج قيمي وأخلاقي. بيد أنّ هذا الانفلات مرده في نظري إلى ميراث الدولة الاستعمارية التي أسهمت سلبًا في تكوين المجال السياسي الذي اعتمد معادلة صفرية، لا تقصي الآخر فقط، وإنما أيضًا تسعى لإفنائه. سيما إذا كان التنافس على الموارد التي يجب أن تؤدّى للسوق العالمية كاملة غير منقوصة وبأبخس الأثمان".

أغرب ما في مفارقة مادبو وعشاري – على اختلافهما – أنهما استدارا إلى أجهزة العنف وقواها على نحو كامل بعد طول هجاء وذم، وقررا بأن من قام بفعل الاستدارة هي الجيوش المصطرعة حاليًا التي كان قادتها حتى وقت قريب يرتلون آيات العرفان ويلهجون بالشكر المتبادل على منصات الحضور الجماهيري ويبذلون التطمينات الزائفة على عوام الدهماء، والتي تبخرت مع صعود سحب الحرائق صبيحة الخامس عشر من أبريل

أغرب ما في مفارقة مادبو وعشاري – على اختلافهما – أنهما استدارا إلى أجهزة العنف وقواها على نحو كامل بعد طول هجاء وذم، وقررا بأن من قام بفعل الاستدارة هي الجيوش المصطرعة حاليًا التي كان قادتها حتى وقت قريب يرتلون آيات العرفان ويلهجون بالشكر المتبادل على منصات الحضور الجماهيري ويبذلون التطمينات الزائفة على عوام الدهماء، والتي تبخرت مع صعود سحب الحرائق صبيحة الخامس عشر من أبريل واستحال معها الجمر الماكر الحذر إلى ضرام مستعر. وإنما يقع التناقض، على اختلاف مستواه ودرجته، كما في حالة عشاري ومادبو، ليس بسبب ضعف الأدوات النقدية والمنهجية، وإنما بسبب الانحيازات "الأيديولوجية أو المناطقية"، لا "المعرفية والمنطقية".

النور حمد: من ذم العقل الرعوي إلى امتداح قوته وعنفوانه

يكتسي التناقض حلة براقة في حالة النور حمد، الذي اشتهر بتبنيه نسقًا معرفيًا ونموذجًا قياسيًا مستقلًا عن الفكر الجمهوري ومسار اشتغالاته واعتنائه بالدرس الثقافي السوداني منذ كتابه (مهارب المبدعين) وحتى أطروحته الأخيرة المتعلقة بالعقل الرعوي، التي هجا فيها الدعم السريع حين كان ضمن الأفق الإنقاذي قائلًا: "استخدمت الإنقاذ مؤخرًا مليشيات قبلية لكي تبقي على نظام حكمها. هذه المليشيات محلية، وبعضها مستجلب من أقطار الجوار. بهذه المليشيات تمكنت الإنقاذ أو كادت أن تقضي على حركات دارفور المسلحة. كما أخذت هذه المليشيات تشكل ضغطًا على الحركة الشعبية قطاع الشمال. ولكن ما لا تعلمه الإنقاذ هو أن هؤلاء الذين استخدمتهم أخطر عليها وعلى مستقبل القطر من الحركات المسلحة العاملة في كل هذه المناطق". هذا النص لا غبار عليه على مستوى حجته ودلالته وتحذيره من منازع التمليش والتمليش المضاد الذي ولغت فيه الحكومات السودانية "المتأخرة"، الشمولية منها والنيابية، وعلى نحو أخص ما قامت به حكومة الإنقاذ من تقديم للعاجل على الآجل، وإن كان عبثًا بمقررات الأمن القومي على قوام الدولة نفسها. المثير للدهشة أن النور حمد لم يكتف بتبني سردية الحرب الحالية التي أتت موافقة لتحليلاته القديمة باعتبارها مسارًا حتميًا لتعدد السلاح، حين ذهب يردد مع نخبة "لا للحرب!" بأن من أشعل الحرب هو من أطلق الرصاصة الأولى بالمدينة الرياضية، وهم - بحسب ترجيحاته - (عناصر الإسلاميين) في الجيش، وإنما مضى إلى ضرورة إجراء حلف مع الدعم السريع بسبب سيطرته على الأوضاع.

التناقض البادي في مواقف النور حمد إنما يقع من جهة شخصه لا نصه. كيف استطاع أن يفرغ عدته النقدية في تشريح العقل الرعوي عبر الورق، وذهب إلى تمكينه في الواقع بتسويغ التحالف معه؟ كيف رأى في المليشيات خطرًا على وحدة البلاد ثم عاد ليرى فيها خلاصًا من سيطرة الإسلاميين على مفاصل الدولة؟! لو أن التناقض الصاعق أتى من تلقاء قصور في الرؤية أو ضمور في التحليل أو نقص في المعلومات لكان أمرًا مغتفرًا، ولكن للأسف يأتي تناقض النور، بحسب ظننا، من مسعاه الانتقامي لإعدام أستاذه محمود محمد طه، والذي يتوسل أشكالًا معرفية ونقدية تنال من مؤسسات الدولة (المختطفة حينها) خواتيم العهد المايوي. وهو انتقام يمتد إلى القضاء والجيش وجموع الإسلاميين.

الواثق كمير مناصرًا لعقار

أعادت الحرب الدائرة الدكتور الواثق كمير إلى مركز الدائرة من جديد بحسبانه مثقفًا مرموقًا كان قد عمل ضمن النخبة "الشمالية" في الحركة الشعبية لتحرير السودان، وقدم استشارات لقائدها قرنق قبل أن ينتهي دوره مع انفصال الجنوب. ليعود مع حرب أبريل 2023 نافيًا أي علاقة بين رهانات قرنق النضالية من أجل مشروع السودان الجديد ومعركة حمدان الحالية، إذ لم يخفِ انزعاجه من تشبيه القيادي ياسر عرمان لحميدتي بقرنق. إذ يقول في مقال تحت عنوان (قرنق يتململ في قبره!): "لم يكن قرنق سياسيًا ومقاتلًا من أجل الحرية فحسب، بل كان باحثًا ومفكرًا عالميًا يسعى للمساهمة في تحقيق نظام دولي جديد. ولذلك فهو لم يكن بمعزل عن التأثر بكل نظريات العالم الكبرى واتجاهات الفكر وعلم الثورات، مما أكسبه صيتًا إقليميًا وصدىً عالميًا لم يحوجانه إلى التعاقد بملايين الدولارات مع شركة أجنبية لتجميل صورته وللاعتراف به دبلوماسيًا. حقًا، إنّه لفرق شاسع وبون واسع بين شخصيتي جون قرنق ومحمد حمدان دقلو!".

ويقول في سياق آخر: "جون قرنق لم يكن يحارب ضد فئة أو طائفة سياسية أو إثنية بعينها، بل كان يقاتل ضد سياسات الاستبداد والإقصاء السياسي والاجتماعي والثقافي الملازم لسيرورة نشأة وتطور الدولة السودانية، التي مضى بها نظام الإنقاذ إلى آخر مدى. ذلك بينما كان قائد الدعم السريع مُنفذًا مُطيعًا لنفس النظام حتى ساعدته ظروف وملابسات ثورة ديسمبر في الصعود إلى القمة السياسية، فأضحى طاقمه الاستشاري ينطق باسم "المهمشين"، ويفجرُ في الخصومة مع أولياء نعمته "الكيزان". فأصلًا ومبدأً، لم يُفكر قائد مليشيا الدعم السريع في مقاومة نظام الإنقاذ الذي صنعه، ناهيك عن الثورة عليه، ولما وقف مع مطالب الثوار لو لم يكن ذلك هو الخيار الوحيد المتاح له للاحتفاظ بـ"جيشه" ليستخدمه لاحقًا في الانقضاض على السلطة. إنّ وقوف قائد الدعم السريع مع الثورة في أبريل 2019 لم يكن على الإطلاق بدافع التحول الديمقراطي، إنما كان أفضل خياراته لتثبيت أقدامه في السلطة الجديدة بعد زوال وليّ نعمته، رئيس نظام الإنقاذ، وليحتل موقعًا في المشهد السياسي الجديد، حتى صار بين ليلة وضحاها نائبًا لرئيس الدولة. فإن كان قائد الدعم السريع قد تبرأ من مشاركته، بل ودعوته إلى انقلاب "فض الشراكة" في أكتوبر 2021، فهل نُصدق أنّ محاولة انقلابه في 15 أبريل التي تحولت إلى حرب دامية، هي الكفيلةُ باستعادة عملية التحول الديمقراطي؟ لم يسمع أو يعرف أحدٌ بمشروع سياسي لـ"قوات" الدعم السريع"، طوال مراحل تكوينها ونشأتها كحركة سياسية أو حتى بوصفها جيشًا له عقيدة قتالية".

من حق الواثق كمير أن يدافع عن قرنق وينفي أي تماثل بينه وحميدتي من حيث غياب الرؤية والمشروع ونمط الانتهاكات الممارسة في الحرب الأخيرة، بوصفها طبيعة مركوزة في عقيدة القتال كغنيمة لغازية الدعامة وحلفائهم، بخلاف جنود جيش التحرير الملتزمين أيديولوجيًا والممتثلين أخلاقيًا لقواعد الاشتباك وحماية المدنيين

من حق الواثق كمير أن يدافع عن قرنق وينفي أي تماثل بينه وحميدتي من حيث غياب الرؤية والمشروع ونمط الانتهاكات الممارسة في الحرب الأخيرة، بوصفها طبيعة مركوزة في عقيدة القتال كغنيمة لغازية الدعامة وحلفائهم، بخلاف جنود جيش التحرير الملتزمين أيديولوجيًا والممتثلين أخلاقيًا لقواعد الاشتباك وحماية المدنيين. مع أن في وقائع التاريخ ما يفنّد الصورة الزاهية المرسومة عن قرنق وجيشه، والأدهى من ذلك نزول كمير بثقله في معترك التنافس المحلي بين عقار وأبو شوتال، وتسطيره لمقال تحت عنوان: (العمدة أبو شوتال: دعّامي من زمان)، جاء فيه: "إنّ حضورَ العمدة أبو شوتال من الدمازين إلى الخرطوم، وظهوره على شاشة فضائية الحدث، وإعلان نفسه كقائد ميداني لمليشيا الدعم السريع، لا تفسير له غير عدائه للفريق مالك عقار ومواصلة سعيه لكسب سهمه في سلطة إقليم النيل الأزرق ضمن أي معادلة سياسية قد تكون المليشيا طرفًا فيها".

أختم بأنّني قد لاحظت أن بعضًا من كتاب الرأي والمثقفين والقيادات السياسية تميلُ لأطروحات التهميش والظلم والتفرقة الواقعة على بعض شعوب السودان، خاصة في غربه، والتي تُروج لها قيادات مليشيا الدعم السريع هذه الأيام. لا أدري إن كان هؤلاء سيفاجئون الساحة السياسية بظهورهم وإعلانهم عن منصة سياسية للدعم السريع. ولعله إن تعذّر إنشاء هذه المنصة، أن تُفصح هذه القيادات عن دعمها السياسي للمليشيا وتخرج بموقفها صراحةً للعلن، في مقالات للرأي العام، تُبين فيها الدور التاريخي والقيادي للدعم السريع في مخاطبةِ قضايا الهامش وتأسيس الدولة، خاصة قبل نشوبِ هذه الحرب في 15 أبريل.

مناصرة كمير لعقار مفهومة في سياق العلاقات البينية والتاريخ "النضالي" المشترك، بيد أنها تحتاج إلى إعمال العقل النقدي حول لماذا يمشي المثقف من حيث هو في ركاب السلطة من حيث هي، ولماذا يبذل ثمار فكره لمظان السلطة بمفهومها (الفوكوي) حيثما كانت كيانًا سياسيًا أو حركة مسلحة أو حتى موقعًا سياديًا في سلطة الأمر الواقع.

خاتمة

هذا ما سمح المقال بإيراده من نماذج تناقضات المثقف السوداني في خضم الحرب، وهو تناقض مرتبط بالأساس بافتقار الانتلجنسيا "للشوكة" كما يقول عبد الله علي إبراهيم، ما يجعلها تسعى نحو السلطة والاعتبار الرمزي بأي ثمن، حتى لو خانت وظيفتها النقدية والتنويرية في الفضاء العمومي. يقول روجيس دوبريه: "كثيرًا ما أخفت عني السياسة السياسي لا كما يخفي القطار قطارًا آخر وإنما كما يخفي القطار السكك التي تجري عليه". ويقول في سياق متصل: "لا أخشى أن أتناقض، ولكني أخشى أن لا أُفهم بموجب هذا التناقض". والحال كذلك، فإن نخبنا وصلت درجة من التناقض بات فهمها واكتناه الدوافع الحقيقية من مواقفها المعلنة أفقًا بعيد المنال.