18-ديسمبر-2023
جنود من الجيش السوداني على ظهر دبابة في بورتسودان خلال الحرب بين الجيش والدعم السريع

ظلت علاقة الجيش السوداني بقطاع عريض من الشعب متأرجحة بين الرفض والقبول وبين الأمل فيه واليأس من إصلاحه (Getty)

ترفع قوى سياسية ومدنية وازنة في السودان شعار "لا للحرب"، منذ تفجر الصراع الدامي بين الجيش والدعم السريع في صبيحة 15 نيسان/أبريل الماضي.

من حيث المبدأ، لا مشاحة في الدعوة إلى وقف الحرب –أي حرب– فلا عاقل يدعو إلى الحرب، لا سيما في بلده، لكن الدعوة إلى وقف الحرب ضمن سردية تحيل مسؤوليتها إلى "طرف ثالث" (هم الفلول والكيزان في حالتنا هذه) في تماهي مريب مع خطاب الدعم السريع، ليس سوى تغليفٍ لانحيازٍ مبطن إلى هذا الطرف بشعارات كذوبة، مهما بدت نبيلة وبراقة من الخارج.

لست بصدد محاكمة النوايا، لكن يُرفع شعار "لا للحرب" في سياقنا السوداني مثل ما رُفعت المصاحف على أسنّة الرماح في معركة "صفين"

ظل الجيش السوداني منذ الخامس عشر من نيسان/أبريل الماضي –أو بالأحرى منذ الثاني عشر منه، حين تحركت قوة من الدعم السريع صوب قاعدة مروي الجوية شمالي البلاد لمحاصرتها واحتلالها، قبل أن يستعيدها الجيش لاحقًا– ظل الجيش متخندقًا في وحداته ومقراته العسكرية، وظلت إستراتيجيته في هذه الحرب دفاعية بامتياز، وجرّت عليه حنق الناقمين على عجزه وفشله في حماية مواطنيه إزاء هجمات الدعم السريع وانتهاكاتها، بما فيها النهب والسلب واحتجاز المدنيين والتهجير القسري للمواطنين والعنف الجنسي والقتل، في كل منطقة تدخلها. ومع ذلك، توجّه إلى الجيش دعوات "وقف الحرب"، ويلام على استمرارها، من دون أي ينال الدعم السريع –المبادرة بالهجوم في معظم الأوقات– أي لوم أو تقريع أو حتى تنديد بانتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان في جميع المناطق التي تسيطر عليها في الخرطوم ودارفور والجزيرة مؤخرًا – اللوم دومًا على الجيش، فيما تنسب الانتهاكات إلى "الحرب"، وكأنها تحدث من تلقاء نفسها، أو في أحسن الأحوال يُدان الطرفان دون تمييز في محاولة لتصويرهما متساويين في الشرعية وفي الانتهاكات. الحرب بلا ريب بيئة خصبة للانتهاكات، لكن ذلك لا يمنع تحديد المسؤولين عن هذه الانتهاكات والمطالبة بمحاسبتهم، فالحروب مهما بدت فوضوية لها قواعد تحكمها، من ضمنها القانون الدولي الإنساني الذي يشدد على حماية المدنيين غير المشاركين في القتال والحدّ من آثار الحرب ومخاطرها على حياتهم.

لست بصدد محاكمة النوايا، لكن يُرفع شعار "لا للحرب" في سياقنا السوداني مثل ما رُفعت المصاحف على أسنّة الرماح في معركة "صفين". وأنا هنا أميز بين من يدعون إلى "وقف الحرب" ولا يترددون في إدانة انتهاكات الدعم السريع الموثقة التي لا يرقى إليها شك وينددون بتوسيعها رقعة الحرب بالهجوم على حاميات الجيش حتى في أثناء انخراطها في التفاوض، واستباحتها للقرى والمدن الآمنة، وترويع المدنيين ونهب ممتلكاتهم – وبين مَن يرفع هذا الشعار من "معسكر الثورة" ليواري به سوأة انحيازه إلى الدعم السريع، طمعًا في فتات سلطة أو نكايةً في "الكيزان".

https://whatsapp.com/channel/0029VaFCtreHrDZmdI1tuw1J

مشكلة سردية أن "الكيزان هم من أشعلوا الحرب" أنها تعفي الأطراف المباشرين في هذه الحرب من مسؤولياتهم –بما فيها الجيش والدعم السريع والقوى السياسية التي كانت جزءًا من العملية السياسية الأخيرة التي سبقت الحرب ويُعتقد على نطاق واسع أنها فجرت التناقضات الكامنة بين الطرفين المتحاربين من دون أيّ استعداد أو قدرة على احتواء تداعياته– فحتى لو افترضنا أن "كوزًا" ما أطلق الرصاصة الأولى في هذه الحرب، فإن ذلك لا يفسر اتساع رقعتها لتشمل معظم –إن لم يكن كل– المواقع العسكرية التي يرتكز فيها الدعم السريع على مقربة من الجيش، فالهجوم كان متزامنًا على المواقع العسكرية والإستراتيجية في العاصمة الخرطوم والولايات، ما أدى إلى وقوع القصر الجمهوري بالخرطوم ومنطقة الخرطوم المركزية العسكرية ومقر الإذاعة والتلفزيون بأم درمان ومواقع مهمة أخرى في يد الدعم السريع في الساعات الأولى من الحرب، فضلًا عن إفشال هجوم على قصر الضيافة في القيادة العامة للجيش بالخرطوم كان يستهدف اغتيال قائد الجيش عبدالفتاح البرهان أو اعتقاله – حسب ما صرّح قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو المعروف باسم "حميدتي" في مداخلاته التلفزيونية خلال الساعات الأولى من الحرب، كما لا يفسر –سردية إشعال الحرب من جانب "الكيزان"– استمرارها أكثر من ثمانية أشهر، وإلا فما الذي يمنع الطرفين من وقف حربٍ أشعلها طرف ثالث، طوال هذه المدة؟ سيقول متحذلقٌ إن قرار الجيش مختطف من "الكيزان" وأن قادة الجيش يأتمرون بأمر "الكيزان"، لكنه في الوقت نفسه يرفض التفاوض مع هؤلاء "الكيزان" ويصرّ على استبعادهم من أي عملية سياسية لإنهاء الحرب، من دون أن يخبر الناس كيف سيبرم اتفاقًا مع "قادة بلا قرار" وكيف سيضمن عدم انقلاب "الكيزان" على هذا الاتفاق ويتجنب إشعالهم حربًا جديدة، بل ومن دون أن يخبرنا مَن هم هؤلاء "الكيزان" أصلًا، وهل يشمل التعريف جميع الإسلاميين في السودان بمن فيهم قادة المؤتمر الشعبي الموقعين على الاتفاق الإطاري؟ أم يستثنيهم، وما داموا مستثنين من التعريف، ولا غضاضة في إشراكهم في العملية السياسية، فما الذي يمنع إشراك مجموعة "الإصلاح الآن" مثلًا بقيادة غازي صلاح الدين أو حزب الأمة بقيادة مبارك الفاضل وكلاهما انسحب من حكومة الوفاق الوطني خلال الثورة وأدانا انتهاكات نظام البشير ضد المتظاهرين، في حين استمر المؤتمر الشعبي في حلفه مع المؤتمر الوطني حتى سقوطهما بالثورة الشعبية في 11 نيسان/أبريل 2019، ما يثير السؤال عن مدى موضوعية معايير قوى الحرية والتغيير في اختيار من تشملهم عمليتها السياسية ومن تشدد على استبعادهم منها.

https://t.me/ultrasudan

إنني أتعجب ممّن يهوّل من دور "الكيزان" في هذه الحرب ومن نفوذهم داخل الجيش وأجهزة الدولة ويرفض التفاوض معهم للوصول إلى تسوية سياسية لهذه الأزمة، ولا يمانع في الوقت نفسه، بل ويطالب، بالتفاوض مع أسوأ منتجات نظام "الكيزان" (الدعم السريع) بحجة أن لها قواعد اجتماعية مهمة لا يمكن استبعادها من العملية السياسية! أنا هنا لا أدعو إلى التفاوض مع "الكيزان" ولا أستنكر التفاوض مع الدعم السريع – أنا فقط أحاول أن أُظهر تهافت هذا الموقف وتناقض منطقه الداخلي.

يؤسفني أن أقول إن موقف معظم "الديسمبريين" (مَن خرجوا في ثورة ديسمبر ورددوا شعاراتها، بما فيها: "العسكر للثكنات والجنجويد ينحل" وواجهوا في سبيلها الرصاص) – موقفهم السلبي من الحرب والمطالِب بإيقافها كيفما اتفق، بشعارات مثل "لا للحرب" و"لازم تقيف"، تستبطن مساواةً بين طرفيها في الشرعية – يؤسفني أن أقول إنه موقف نفسيّ أكثر منه سياسي؛ فقد أحدثت مجزرة اعتصام القيادة العامة للجيش شرخًا كبيرًا بين الشعب وجيشه، وجاء انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021 ليعمق هذا الشرخ ويزيد من اتساع الهوة بين الجيش وثوار ديسمبر، ولا سيما مع انتهاكاته الجسيمة خلال الاحتجاجات، والتي شملت فتح النار على المتظاهرين السلميين ومطاردتهم في الشوارع بالمركبات العسكرية في وسط الخرطوم لأنهم ينادون بالحكم المدني وللمفارقة بحلّ "مليشيا الجنجويد" التي يقاتل الجيش اليوم لإخضاعها لسيطرته وشروطه في الدمج والتسريح، بلا ظهيرٍ يُذكر من أبرز القوى التي ظلت تنادي بحلّ هذه المليشيا خلال الأعوام الماضية.

والمطالبة بوقف الحرب كيفما اتفق مطالبة حالمة لأنها لا تخاطب جذور الأزمة وتترفع عن تحليل دوافع اندلاعها واستمرارها حتى اللحظة، مثلما أن الدعوة إلى التفاوض من دون تحديد أجندة التفاوض وتعريف الحد الأدنى المقبول لنتيجته وعلى رأسها إنهاء وجود الدعم السريع والقضاء على ظاهرة تعدد الجيوش في السودان والوصول إلى جيش واحد قومي ومهني يضطلع بمهامه وفق الدستور والقانون ويخضع للسلطة المدنية وينأى عن السياسة والاقتصاد – الدعوة إلى التفاوض من دون تحديد هذه الأهداف نوعٌ من حسن الظن الساذج الذي يطيل أمد الأزمة ولا يحلها. أما دعوات "بناء جيش جديد" المطلوقة من دون تحديد أسس عملية البناء هذه وفاعليها وسياقها السياسي، فهي تثير الريبة بأكثر مما تثير الاطمئنان، مهما أحسنا الظن في نوايا مطلقيها.

المشكلة تكمن في النظرة التبسيطية لهذه الحرب بوصفها صراعًا بين جنرالين على السلطة وهو تعريف صحيح في مستوى من المستويات، لكن هذه الحرب في مستواها الأعمق تنفيذ لمخطط أجنبي لوضع اليد على خيرات السودان واستغلال موارده وموانئه، وما الدعم السريع إلا أداة لتنفيذ هذا المخطط. وارتباطات الدعم السريع الإقليمية والدولية ومصادر إمدادها العسكري واللوجستي لم تعد خافية على أحد.

لا أعتقد أن من بين "الديسمبريين" من يصدق أكاذيب "الدعم السريع" عن القتال لإنهاء تمكين "الفلول والكيزان" وتحقيق الديمقراطية والحكم المدني، أو من المهمشين من يصدق فريتها بشأن "دولة 56" التي كانت "الدعم السريع" أهم أدواتها لقمع المهمشين على طول البلاد وعرضها في العقد الأخير. وإن تغاضينا عن ظروف نشأة الدعم السريع وتوسع نفوذ قائدها وتاريخها الحافل بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية فإن من غير المعقول غض الطرف عن انتهاكاتها خلال هذه الحرب ضد المدنيين الأبرياء في الخرطوم ودارفور والجزيرة وكل بقعة وطأتها على أرض السودان، ومن حسن الحظ أنها موثقة بما لا يدع مجالًا للتشكيك في إجرام هذه القوات وعدم أهليتها الأخلاقية للحديث عن أي مشروع وطني.

ثمة من يحاجج بمسؤولية الجيش عن "تفريخ المليشيات" للوقوف على مسافة واحدة من الجيش والدعم السريع، لكن قرار إنشاء المليشيات وتسليحها وتحديد مهامها هو قرارٌ سياسي وليس عسكري – على صعوبة الفصل بين هذين المستويين في بلادنا مع التدخل السافر والمستمر للمؤسسة العسكرية في الشؤون السياسية على مرّ تاريخنا الوطني. لكن التاريخ سجّل اعتراضات من داخل المؤسسة العسكرية على المليشيات، على صعوبة الاعتراض في مؤسسة بيروقراطية مثل الجيش. وهذه ليست محاولة لتبرئة ساحة الجيش من المسؤولية عن هذه الكوارث، فقبول الجيش بإنشاء مليشيات موازية وبتسليح مجموعات على أساس عرقي يؤكد ضعف حساسية قادته تجاه الأمن القومي، وسكوت ضباط الجيش على نشاط كتيبة مثل "البراء بن مالك" هذه الأيام –مهما تكن التبريرات في سياق هذه الحرب– دليل قاطع على فساد عقيدة الجيش وضعف حساسيته الأمنية والمؤسساتية. ولا خلاف على حاجة الجيش إلى إصلاحات جذرية وعميقة، بدءًا من عقيدته العسكرية وليس انتهاءً بتركيبته الإثنية، لكنها عملية طويلة ومعقدة، يجب أن يقودها السودانيون في إطار مشروع وطني شامل، لا أن تقرر في أمرها مليشيا عشائرية بقيادة أسرية مرتبطة بمصالح إقليمية ودولية.

وثمة من يرى في الدعم السريع فرصةً لتحطيم "القوة الصلبة" للإسلاميين في الجيش والشرطة والأمن، ليتمكن لاحقًا من بناء هذه المؤسسات على أسس جديدة. ومشكلة مثل هذا التفكير الرغبويّ أنه لا يقدم تصورًا عن مستقبل الدعم السريع بعد الحرب، ويظن أن بإمكانه تجاوز هذه القوة العسكرية والاقتصادية لإقامة مشروعه السياسي، بعد التخلص من الإسلاميين والدعم السريع معًا، ويغيب عنه أنه ربما يكون هو الأداة لا العكس!

من السذاجة السياسية الاعتقاد بأن "حميدتي" الذي كان يضاعف عدد قواته –طوال السنوات الماضية– ويزيد في عتادها العسكري ويعزز من علاقاته الخارجية، ليقبل –بكل سهولة– بدمج قواته في الجيش، وأن ما منع هذه الخطوة هي رصاصة أطلقها "الفلول" على قواته في المدينة الرياضية بالخرطوم.

هناك من لا يرى في الجيش أو "قوة دفاع السودان" سوى إرث استعماري بغيض، ويجترّ تاريخه الطويل في إفساد حياة المواطنين وانتهاك حقوقهم بما فيها الحق في الحياة، ووقوفه حجر عثرة أمام تحقيق الديمقراطية – وهو تصوّر على وجاهته، يبسّط الأزمة وينظر إليها من زاوية شديدة الضيق، ويتغاضى عن فساد اجتماعنا السياسي وفشل نخبتنا المدنية والسياسية في الإجماع على مشروع وطني يحقق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة لجموع السودانيين، ويحيل –هذا التصوّر– الأزمة برمّتها إلى فاعل وحيد اسمه "الجيش" على عظم مسؤوليته في هذا الفشل. وفوق ذلك، لا يقدم حاملو هذه الرؤية أي تصوّر لحل هذه الأزمة ويكتفون بترديد البديهيات وصبّ اللعنات على الطرفين، وهو موقفٌ مريحٌ على المستوى الشخصي وغير مكلف، لكنه مع الأسف غير مفيد.

المطلوب ليس الوقوف إلى جانب الجيش بالضرورة، لكن أيضًا ليس أقل من الوعي بمشروع استتباع السودان الذي تمثل "الدعم السريع" رأس الرمح في تنفيذه

المطلوب في هذه اللحظات الحاسمة والمفصلية من تاريخ بلادنا المهددة بخطر الانهيار والتفكك، ليس الوقوف إلى جانب الجيش بالضرورة، لكن أيضًا ليس أقل من الوعي بمشروع استتباع السودان الذي تمثل "الدعم السريع" رأس الرمح في تنفيذه بقوة السلاح، ومن ثم اتخاذ موقف حازم من هذا المشروع ووكلائه المحليين. وإن كان لا بد من الدعوة إلى وقف الحرب فالأولى أن توجّه إلى قادة الدعم السريع ليكفوا شرور قواتهم عن الشعب السوداني ويحقنوا دماء السودانيين بمن فيهم شبابهم الذين يُحصدون بالعشرات يوميًا لخدمة مصالح أسرة واحدة وإشباع شره قائدهم إلى السلطة. أما مطالبة الجيش بوقف الحرب وعاصمتُه محتلة، فهي دعوة إلى استسلامه وخضوعه –وخضوع الشعب السوداني– لشروط الدعم السريع وكفلائه الإقليميين والدوليين. وما دعوة كليهما إلى وقف الحرب من دون حسم مسألة خضوع الدعم السريع لشروط الدمج والتسريح، سوى ترحيل لهذه الأزمة وتأجيل لانفجار هذه القنبلة في وقت لاحق، بعد كل هذه التضحيات الكبيرة من دماء السودانيين وأموالهم ومقدراتهم.