09-سبتمبر-2023
تصميم يظهر المغنية السودانية شادن محمد الحسن وعملاق الرياضة السودانية فوزي المرضي

كابتن ومدرب الهلال السابق فوزي المرضي والمغنية شادن محمد حسين

قصة مأساوية تلك المتعلقة بوفاة كابتن ومدرب الهلال السابق فوزي المرضي، والمغنية الملتزمة شادن محمد حسين. شادن قتلتها دانات الحرب بشكل مباشر، بينما حطمت الفجيعة "قلب الأسد" إلى أن توقف عن الخفقان تمامًا بعد أسبوعين فقط من اندلاع الحرب.

ما الذي كان يمثله هذا الرياضي والإداري الفذ بالنسبة إلى السودان والسودانيين، وأحزنهم كثيرًا لدى رحيله، وهم عاجزون عن تشييعه ووداعه بسبب اشتداد أوار المعارك؟ بلا شك هي قيمة كبرى التي كان يمثلها فوزي الأسد.

لكن، لنعد إلى بداية المأساة، إلى اليوم الثاني للحرب. في هذا اليوم اخترقت رصاصة "طائشة" كتف زوجة الكابتن فوزي المرضي، ثم عبرت الرصاصة جسدها لتخترق قلب ابنتهما الطبيبة وترديها شهيدة في الحال، وبعد مقتل الابنة بأسبوعين فقط ودع الأسد مدينته الأثيرة أم درمان وجماهير ناديه التوأم الهلال؛ وكل أبناء الشعب السوداني من محبيه في مختلف الولايات.

 أنتجت الحرب الدائرة في السودان الآن بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، مصطلحاتها الترميزية الخاصة، في محاولة من أنصارها في كلا الطرفين لوضع تفاسير أو مبررات لاندلاعها، ورسم تصورات تبشيرية بمآلاتها ونهاياتها، لصنع حالة تعويضية تتخطى الخسارات الفادحة التي نالت من الجميع

الحرب قتلت فوزي الأسد، هذا أمر لا جدال فيه، الحرب حيثما أردت تعريفها ومن الزاوية التي تقف عندها هي التي اغتالت الروح المبدعة للكابتن فوزي المرضي؛ فإن كنت في زاوية "قتل دولة 56" فحربك قتلت رمزًا من رموز هذه الدولة في صورة ما من صورها التاريخية والثقافية الاجتماعية، وإن كنت في المنصة ذاتها "دولة 56" فحربك قد اغتالت أحد رموزك التاريخيين، أيضًا؛ لكن إلى أي منصة ينتمي فعليًا -الرمز- فوزي الأسد؟

لقد أنتجت الحرب الدائرة في السودان الآن بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، مصطلحاتها الترميزية الخاصة، في محاولة من أنصارها في كلا الطرفين لوضع تفاسير أو مبررات لاندلاعها، ورسم تصورات تبشيرية بمآلاتها ونهاياتها، لصنع حالة تعويضية تتخطى الخسارات الفادحة التي نالت من الجميع – السودانيين. بعض هذه المصطلحات أوجدتها اللحظة الحربية الماثلة، وبعضها الآخر جاء مستلفًا من شعارات ثورة ديسمبر المجيدة، بينما تسربت اصطلاحات أخرى بشكل مباشر من لغة الشارع المكتوي بالنار والدمار والمهدد بالفناء.

ما هي "دولة 56"؟

"دولة 56" أحد الشعارات التي أخذت تتردد بقوة عقب اندلاع الحرب مباشرة، تسمعها على أفواه مقاتلي الدعم السريع ويرددها بشكل شبه كورالي كل إعلاميي ومناصري قواتها ذاتها؛ كتابة على الصحف ومنصات السوشال ميديا، وقولًا على اللسان. والمصطلح القديم المتجدد –مع الحرب– لم يكن حكرًا على قوات الدعم السريع ومناصريها، بل لم يكن يومًا شعارًا مرفوعًا لهذه القوات –شبه الرسمية– إبان انتمائها للمؤسسة الرسمية للدولة واشتغالها بإخلاص ضمن الظلال الخفية المحركة لـ"دولة 56" المعنية بالنبذ عقب الحرب مباشرة، ما هذه الدولة؟ من شادها؟ ولصالح من بقاؤها أو فناؤها؟

بعد نحو شهر من اندلاع الحرب، وأسبوعين على وفاة الأسد فوزي المرضي، استشهدت الفنانة والمغنية شادن محمد حسين، متأثرة بإصابة شظايا دانة متفجرة سقطت على منزلها في أم درمان. التعريف الأولي الذي يتبادر إلى الذهن حين الحديث عن الفنانة شادن، يستنبط من اللقب الذي أطلقه محبوها عليها، وهو "الحكامة شادن". و"الحكامة" مسمى يحيل مباشرة إلى ثقافة بعينها، وشكل محدد من الفنون يقع خارج المدارات الثقافية والفنية المنتجة في حدود "دولة 56"، أو بمعنى آخر هي على تخوم أو هوامش الثقافة. والحكامة أيضًا في مظانها الأصيلة شكل مختلف من الغناء الحماسي، أنتجتها هذه الثقافة الهامشية، وهو دور تسوقه النساء المغنيات أو فنانات هذه المجتمعات الهامشية، أنتجته ظروف الحروب والمعارك التي تحياها هذه المجتمعات المترحلة والبدوية. إذن، غناء الحكامة حماسي، يقاتل، يحث على الحرب والثبات ومقارعة العدو المتصور حتى الموت. لكن، شادن جاءت لـ/ أو أرادت/ أن تقدم شكلًا جديدًا من الغناء المستند على التراث، يستلهم صورة الفنانة – الحكامة التقليدية في طريقة أدائها وأشعارها وحتى ملبسها؛ لكنه يفارقها في القيمة أو المعنى؛ بتقديم أغنيات تدعو إلى السلام وإشاعة روح المحبة بين قبائل الهوامش، وأن تحقن كل ذلك بـ"حداثة" موسيقية وأدائية متطورة، ثم – الأهم – تتمكن من اقتحام القلاع الثقافية لـ"دولة 56" وتبدأ في فرض مشروعها الغنائي – الثقافي وتحقق بذلك نصرًا جزئيًا في حرب الثقافات الدائرة في السودان قبل اشتعال الحرب الدموية التي اغتالتها ضمن من اغتالت. إلى أي المنصات تنتسب الفنانة شادن؟ وأي الجهتين بغت واغتالتها؟

في التعريف بالمعنى الاصطلاحي لمصطلح "دولة 56"، سنجد أنفسنا طوعًا منقادين عنوة للتنقيب في التاريخ السوداني الدامي، وقراءة مانفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة الدكتور جون قرنق، فمن الأرجح أن مصطلح "دولة 56" اجترح في ثنايا مدونة هذا المانفستو، وصار واحدة من أيقونات المدونة الرسمية للحركة الشعبية لتحرير السودان

في التعريف بالمعنى الاصطلاحي لمصطلح "دولة 56"، سنجد أنفسنا طوعًا منقادين عنوة للتنقيب في التاريخ السوداني الدامي، وقراءة مانفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة الدكتور جون قرنق، فمن الأرجح أن مصطلح "دولة 56" اجترح في ثنايا مدونة هذا المانفستو، وصار واحدة من أيقونات المدونة الرسمية للحركة الشعبية لتحرير السودان، بمجرد النطق بالمصطلح يفترض أن يحيلنا مباشرة إلى المعنى المفتوح على مظالم: التهميش، الاستئثار والاستحواذ، الإقصاء، العنف والسلطة، حكم الأقلية، النخبوية الشمالية – النيلية، الجلابة.. واختصارًا المصطلح ما هو إلا حالة توصيف وتحليل لنشوء وتكون دولة السودان الحديثة –ما بعد الاستعمار– والكيفية التي أديرت – وما زالت تدار بها هـذه الدولة، والجهة التي تتحكم في السلطة والثروة، ويقدمها المصطلح بوصفها نخبة شمالية – عربية مسلمة تختصر في مصطلح آخر هو "الجلابة".

مات قرنق بعد اتفاقية سلام تاريخية مع حكومة السودان "الإنقاذ"، انفصل جنوب السودان وشكل دولة جديدة عقب الوفاء ببنود الاتفاقية التاريخية، ترحل المصطلح "دولة 56" من جنوب البلاد إلى غربها، مترافقًا مع مصطلحات أخرى أكثر حداثة، لكنها تتضمن المعاني ذاتها السالف ذكرها. اندلعت الحروب هناك في الغرب "دارفور" وكادت تقضي على كل شيء في صراع دامٍ ومعقد، تتداخل فيه القبلية مع التحررية الثورية، ويتحالف فيه القديم "56" مع الجديد الثائر أو الكامن ليثور. من هناك خرج الدعم السريع، ملتزمًا الصمت، وأداة قمع من أداوات الدولة القديمة في حربها ضد أعدائها، إلى أن انقلب السحر على الساحر، وارتفع الشعار – المصطلح على فوهات بنادق جنود الدعم السريع: المناداة بموت دولة 56 و"بناء سودان جديد" على نسق مانفستو الحركة الشعبية لتحرير السودان؛ التي باتت تحكم منفردة هناك في الجنوب!

الأسد والحكامة

المقابلة بين فوزي الأسد والحكامة شادن مدهشة، وتحيلنا بدورها إلى أسئلة أكثر إدهاشًا تتعلق بهذه الحرب ومآلتها التي تبدو أكثر إظلامًا كلما تتطاول أمدها وارتفعت الأصوات النشاز الداعية إلى اتساعها لتشمل كل السودان حتى يتعرف الجميع على معنى الدمار والحريق وسفك الدماء!

فوزي المرضي الأسد، بلا أدنى شك ينتمي إلى السودان القديم، "سودان 56"، ويعكس إحدى صوره المؤشرة عليه، وإن كان ذلك على المستوى الشكلي أو الإجرائي. فالرجل ابن النخبة الشمالية، وابن المدينة التاريخية – الرمزية لهذه النخبة، والرجل ظل حاضرًا على مدار خمسين عامًا في الإعلام والميادين والإدارة، سواء في البنوك أو الأندية الرياضية، وبصورة أدق وأكثر تلخيصًا فالرجل كان وجهًا ما من أوجه السلطة لـ"دولة 56". لكن هل بالإمكان القول إن ما مثله أو ما قدمه فوزي الأسد كان سلبيًا أو متغولًا على حقوق الآخرين في الجانب الآخر من المعادلة؟ بصفته شخصًا ورمزًا رياضيًا كبيرًا؟ بالطبع لا. بل يمكننا القول إنه –وآخرين– يمثل وجهًا حسنًا وجميلًا لهذه الدولة التي تحتضر الآن، بغض النظر عن كونه تمظهرًا – غير متعمد – للنهوض والصعود الذي ظل ملازمًا لنشوء هذه الدولة.

قتلت الحرب شادن وفوزي المرضي، قتلت في لحظة طيش طائشة سودانًا قديمًا وسودانًا جديدًا، كان بإمكانهما التحاور والترافق إلى أن يهبطا سويًا في أرض السودان الحلم

على الجانب الآخر تسطع صورة شادن الجميلة، بصوتها الشجي، وثقافتها الرفيعة، ومشروعها الفني الكبير. شادن القادمة من هوامش السودان، المعتزة بثقافتها تلك وببيئتها، والمتفردة في أسلوبها الغنائي، المختلف تمامًا عن الشكل الغنائي المكرس في القنوات الإعلامية الرسمية لـ "دولة 56" منذ استقلال البلاد وإلى اللحظة التي فارقت فيها روحها جسدها، في حرب تنادي في أحد أوجهها بما ظلت تكافح هي لأجله طوال سنين عمرها الفني القصير، بغض النظر عن حقيقة دوافع حملة الشعارات المتطابقة مع رؤاها، وإن كانوا صادقين في دعواهم أم أن تدافعات السلطة العنيفة هي التي حملتهم على ركوب هذا السنام العالي.

قتلت الحرب شادن وفوزي المرضي، قتلت في لحظة طيش طائشة سودانًا قديمًا وسودانًا جديدًا، كان بإمكانهما التحاور والترافق إلى أن يهبطا سويًا في أرض السودان الحلم.. سودان الجميع؛ بكل تتوعاتهم وثقافاتهم وأعراقهم.

بانر الترا سودان