03-أكتوبر-2023
قوات عسكرية أثناء فض اعتصام القيادة العامة

في 3 حزيران/يونيو 2019 فضت قوات عسكرية الاعتصام الذي أقامه محتجون أمام القيادة العامة للجيش السوداني (Getty)

هل غدا الإفضاء بسر فض الاعتصام جزءًا من خطاب المعركة الدائرة في الخرطوم منذ الخامس عشر من أبريل/ نيسان؟ أم  بات مؤشرًا يقرأ فيه عمق الصراع واحتدام المواقف وصعوبة التسوية المعوّل عليها على تعدد المنابر التفاوضية المطروحة أفقًا للمعالجة؟ في البدء أشار الجنرال محمد حمدان دقلو إلى ما أسماه حماية يوفرها قائد الجيش، لمتهمين بفض الاعتصام، وتسمية ضابط عظيم برتبة اللواء وآخر برتبة العميد تُرد إليهم المسؤولية المباشرة حول الانتهاكات الواسعة التي صاحبت عملية الفض، واصفًا  إخراجهم من سجون الدعم السريع في بداية الحرب، وإدراجهم في المعارك الدائرة رفقة من قاموا بالانقلابات من "الفلول"، ما يشبه "التواطؤ والشراكة الجنائية" القصدية، متهمًا إياه بالفاعل الرئيس في كل ما تم، باعتباره من يحرك الأمور من وراء حجاب. وكان الجنرال حميدتي قد أدلى في خطاب إلى جنوده في الخامس من حزيران/يونيو 2019م في أعقاب فض الاعتصام "أن هناك من ينتحل صفة الدعم السريع لترويع المواطنين"، مذكّرًا بانحيازه التام لثورة الجماهير من أجل تحقيق مطالب العدالة والحرية والسلام التي انحرفت عن مقاصدها لصالح "مجموعة تطمح في الحكم"، وأشار في خطاب آخر ضمن مؤتمر صحفي في  16 حزيران/يونيو 2019م أن فض الاعتصام بالطريقة التي تمت مقصود منها نصب فخاخ للدعم السريع، وأنه سيتحدث في الزمان المناسب عن ملابسات ما حدث.

في خضم ما بث من مقاطع مصورة صبيحة يوم الفض وما تم إجلاؤه من خلال شهود العملية، لم يعد الحديث حول من قام به واجترح إثمه إفضاءً بسر غامض أو إفشاءً عن لغز محيّر

وما حدث دون تفصيل دقيق كان قد ورد في إفادة مطوّلة للفريق كباشي عضو المجلس العسكري حينها في مؤتمر صحفي بتاريخ 13 حزيران/يونيو 2019م أوضح فيها أن تجاوزات جرت في عملية فض "منطقة كولومبيا" التي أجمعت كل القوى بما فيها الحرية والتغيير على ضرورة إخلائها بما شكلته من ممارسات باتت "مهددًا أمنيًا صريحًا يعيق أمن وسلامة المواطنين"، وأن قرار "فض كولومبيا" تداعى إليه أركان المنظومة الأمنية من جيش وشرطة وأمن ودعم سريع بحضور رئيس القضاء والنائب العام لتقديم المشورة القانونية، وتم على إثره توجيه القيادات العسكرية بفض الاعتصام وفق الإجراءات العسكرية والأمنية المعروفة والمتفق عليها .. و"حدث ما حدث". وجدد كباشي أسفه على ما جرى من "انحرافات لازمت مستوى التخطيط وتجاوزات لامست التنفيذ"، مبينًا أنه برغم الانحراف الذي تم لم تتوغل القوات عميقًا في منطقة الاعتصام.

اتهامات متبادلة

وفي سياق حديث ومتصل، ذهب قائد ثاني الدعم السريع عبدالرحيم دقلو، في مداخلة مع شبكة "سكاي نيوز عربية" بتاريخ 7 أيلول/سبتمبر المنصرم،  إلى أن من فض الاعتصام هم "فلول النظام السابق" بقيادة وتخطيط البرهان نفسه، وانهم استطاعوا أن يقبضوا على من قام بقتل المتظاهرين في "مجزرة 8 رمضان" وتسليمهم للبرهان الذي لم يلبث ان قام باطلاق سراحهم. ثم أنهم توصلوا في مرحلة لاحقة إلى أن من قام بإدخال القوات المسؤولة من أعمال الفض وممارسة العنف والانتهكات بعد تحقيق أجرته القوات المسلحة والدعم السريع، وتم القبض عليهم، إلا أن البرهان أطلق سراحهم وهم يقاتلون إلى جانبه حاليًا -والحديث لعبدالرحيم دقلو- متهمًا البرهان وجهاز المخابرات والاستخبارات العسكرية بالتخطيط لفض الاعتصام والخروج عن الاتفاق حول ما ذكر حميدتي في إفادات سابقة ان المقصود هو تطهير منطقة "كولومبيا". مؤكدًا أنه أفاض في تمليك كافة الحقائق للدكتور نبيل أديب رئيس لجنة التحقيق المكونة من قبل حكومة حمدوك. وأن جزءًا من أهداف المعارك الدائرة الآن هو إخفاء معالم ما أسماه "جريمة فض الاعتصام"، علاوة على ما ارتكبه البرهان من فظائع وإبادة في إقليم دارفور - حد قوله.

ذات البرهان الذي ظل مستعصمًا بالصمت في القضية مثار الجدل أفاد بعبارة مقتضبة أن قائد الدعم السريع وقواته هم من قاموا بفض الاعتصام، كاشفًا خلال مخاطبة أجراها في سلاح المدفعية عطبرة يوم السبت 30 أيلول/سبتمبر المنصرم، أن أسرة محدودة الأفق واسعة المطامع أرادت ابتلاع الدولة السودانية، وأكثرت من مطالبها بمنحها أسهم في مقدرات الدولة السودانية التي نظرت لها كغنيمة، مساومة السودانين ملاك الدولة الحقيقيين وأصحاب المصلحة بموقفهم "المنحاز للثورة" في الحادي عشر من نيسان/أبريل 2019م.

ودعا خالد عمر يوسف الناطق باسم الحرية والتغيير طرفي الصراع عن النأي بقضية فض الاعتصام عن الاستخدام السياسي وتوظيفها فيما يجري من حرب صفرية، واصفًا إياها بالجرح الوجداني الغائر في أعماق ملايين السودانيين والسودانيات، معددًا شواهد ما أسماه تحميل طرف دون آخر لمسؤولية ما تم، وهو أن عملية الفض جرت أمام القيادة العامة وتم على إثرها إغلاق أبواب القيادة العامة في وجه المعتصمين السلميين، منتهيًا إلى توجيه المسؤولية للمكوّن العسكري بشقيه القوات المسلحة والدعم السريع، قائلًا إن هذا المكون هو الذي يتحمل كل ما حدث من انتهكات.

موقف لجنة التحقيق

وفي تعليق أدلى به لصحيفة التغيير، قال رئيس اللجنة الوطنية للتحقيق في فض اعتصام القيادة نبيل أديب، إن لجنته ستفحص ما كشفه قائد الجيش عبدالفتاح البرهان بشأن فض الاعتصام، وأنها ستقارن بين ما ذكره من أقوال حين مثل للتحقيق أمام اللجنة، وربما تستدعيه إن دعا الأمر. وأن أقواله لم تزل تخضع للتدقيق والتقييم. مؤكدًا أن ما نسب إلى قائد الجيش يعبر عن رأيه الشخصي وليس ملزمًا للجنة التحقيق.

وأكد محمد الواثق أبوزيد الفاعل السياسي والباحث والمحلل، أن أعمال فض الاعتصام وسياقاته لا يمكن أن تقرأ بمعزل عن تشكله الذي لا يخلو من "صناعة وتواضُع" من القوى العسكرية والمدنية التي توافقت على تجاوز مرحلة حكم البشير بفعل ثوري صاخب، غير أن إكراهات ومضاغطات الشباب المسترسل مع أحلامه بتغيير جذري وحكم مدني كامل تناقضت مع المشروع السياسي المبني على الشراكة بين العسكريين والمدنيين، "فأتى الفض بصورته المأساوية للتخلص من ثقل الميدان بعد أن أدى دوره الوظيفي في سياق الثورة" - بحسب تعبيره.

إن كان لحرب الخامس عشر من نيسان/أبريل من فضيلة، فإنها أبدت بعض ما حدث على ألسنة فاعليها ليس بوصفها سرًا غامضًا، وإنما باعتبارها قضية مكتملة الأركان تعزى دائمًا إلى مجهول بمعايير التقصي وإجراءات التحقق

وفي خضم ما بث من مقاطع مصورة صبيحة يوم الفض وما تم إجلاؤه من خلال شهود العملية، لم يعد الحديث حول من قام به واجترح إثمه إفضاءً بسر غامض أو إفشاءً عن لغز محيّر ونحن نجتاز زمان ما بعد "ويكيليكس" التي هتكت أستار المتواري عن الأنظار كمجال أثير لعمل السياسة، واخترقت أسوار الغرف المغلقة في الدبلوماسية والأمن، ناهيك عن الأفعال المشهودة في سوح الميادين العمومية التي تقع دائمًا بفعل التكنولوجيا المتطورة تحت أنظار العالم. ومع إعادة تشكيل سلطة المعرفة ومعرفة السلطة يحتاج الساسة جميعهم ومن على موقع القرار منهم أن يقتربوا من منطق العصر والإحاطة بأدواته عوض التماهي مع حالة إنكار ما هو معلوم بالضرورة في قضايا تمس حياة الناس وكرامتهم وحقوقهم الإنسانية. وإن كان لحرب الخامس عشر من نيسان/أبريل من فضيلة، فإنها أبدت بعض ما حدث على ألسنة فاعليها ليس بوصفها سرًا غامضًا، وإنما باعتبارها قضية مكتملة الأركان تعزى دائمًا إلى مجهول بمعايير التقصي وإجراءات التحقق، وهو معلوم بالضرورة والبداهة في تجليها الساطع، و"ليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل".