18-مايو-2022
الشرطة السودانية تقمع المتظاهرين

في بدايات الحراك الثوري في 2019 كنت أجلس على مقاعد "ست الشاي" مع عدد من الأصدقاء، ثم انفجر فجأة ودون سابق إنذار إطار سيارة، ليقفز عدد لا بأس به من زبائن المحل، ثم عندما أدركنا الأمر نظرنا لبعضنا البعض بابتسامة سريعة تعلو وجوهنا.

 ما حدث معنا يومها وما يحدث لعدد كبير منا بين الفينة والأخرى عند التعرض لمثيرات تعود بنا إلى أحداث المواكب، هو أحد أعراض متلازمة ما بعد الصدمة. هذا العرض يعرف باسم "استعادة التجربة"، حيث يعيدك حدثٌ ما مثل صوت انفجار الإطار، لاختبار تجربة سيئة عشتها من قبل مثل أصوات الرصاص في الاحتجاجات، أو انفجار عبوات الغاز المسيل للدموع التي تستخدم لفض التظاهرات.

من أعراض متلازمة ما بعد الصدمة التي يختبرها المتظاهرون الرهبة التي تنتابهم قبل كل موكب

أيضًا من أعراض متلازمة ما بعد الصدمة التي يختبرها المتظاهرون؛ الرهبة التي تنتابهم قبل كل موكب، أو ربما عند العودة أو أثناء المظاهرة، وذلك باختلاف تمظهر الأعراض من شخص لآخر بحسب تجربته الشخصية، كما لاحظت بصورة شخصية أعراض التجنب عند عدد لا بأس به من المعارف والأصدقاء الذين شاركوا في احتجاجات جماهيرية.

تيليغرام

ويتجنب الناس المشاركة في الحديث أو الإدلاء بآرائهم عندما يتعلق الأمر بمجزرة فض الاعتصام أو حتى المواكب الحالية في الخرطوم، ويظهر لي أن هذا أمر غير منطقي وغير عقلاني، فكيف لا يخشى أحدهم المشاركة في المواكب ولكن يتجنب الحديث عنها؟ يظهر أن الأمر متعلق بثقافة التظاهر السائدة مؤخرًا، والتي تعتمد على استدعاء قيم الشجاعة والإقدام، وتقوم بتثبيت أعمدتها في النفس عن طريق آليات الضغط الاجتماعي، كإطلاق لقب على المجموعة في مؤخرة المواكب باسم جماعة "الردة مستحيلة"، من باب سخرية من عدم تواجدهم في مقدمة المواكب. أيضًا بعض هذه التجارب قد يتجاوز مقدرتنا على الفهم والاستيعاب، كإصابة شخص أمام عينيك إصابة بالغة، أو ارتقاء أحد الشهداء بحضورك.

هذا بالإضافة إلى الضغط النفسي الذي تسببه المسؤلية تجاه الآخرين من الرفاق التظاهرات، فإن إصابة أو استشهاد أحدهم قد يصيب البقية  بالشعور بالتقصير الأمر الذي قد يصل للإصابة بما يعرف بـ "عقدة الناجي".

اقرأ/ي أيضًا:
مراحل الحداد الخمس

مقدار لا بأس به من هذا العنف تسرب عبر مواقع التواصل الاجتماعي مسببًا نوعًا من الصدمة الجماعية. كصور االاستشهاد التي تنتشر انتشار النار في الهشيم على الرغم من "لا أخلاقية" هذا الفعل وعدم مراعاته لحرمة الموت. حتى أننا -وللغرابة- نجد أن بعض الشهداء ليس لهم صور منتشرة سوى تلك التي التقطت لهم بعد وفاتهم.

 ‏بالإضافة إلى التأثير الفردي على الصحة النفسية نجد أن للعنف البوليسي تأثير اجتماعي مركب يتمثل في التغير التدريجي لثقافة "مكافحة الشغب" وتغير العلاقة بين منفذي القانون والمواطنين من العلاقة الافتراضية كعلاقة الحماية والثقة، إلى العلاقة العملية على أرض الواقع من قمع وعدم ثقة في القوات النظامية. بالإضافة إلى حالة الانفلات الأمني والتي تزيد من رقعة انعدام الثقة على اتساعها في المقام الأول. وهو أمر  يحول دون تحقيق أية أحلام بقيام دولة مدنية في السودان، ويعزز من احتماليات قيام الدولة البوليسية في المقابل.

 ‏بالعودة إلى متلازمة ما بعد الصدمة للمتظاهرين، فإن أول خطوة نحو الحل هي الاعتراف بالمشكلة لكي يتم التعامل معها بعد التقييم. فليست المشكلة أن نخاف؛ المهم أن نمتلك القدر الكافي من الشجاعة لمواجهة مخاوفنا. بعدها يمكننا أن نراقب أنفسنا لنتعرف على الأحداث التي تثير فينا الذكريات السيئة، والانتباه للأعراض الجسدية للمتلازمة مثل ضيق التنفس والتعرق أو الانزعاج عند ذكر أمر متعلق بموضوع الصدمة.

المتضررون من صدمات الاحتجاجات من المتظاهرين وغيرهم ما يزالون في حاجة إلى الرعاية الصحية ونشر الوعي بأهمية العناية بالصحة النفسية

بصورة شخصية، اكتشفت مؤخرًا أنني أعاني أثناء إطلاق النار في الأفراح، حيث تكون عادة إطلاق الرصاص بعد عقد القران إحدى مظاهر الفرح، ولكنها أصبحت مرتبطة لدى العديد منا بذكريات معينة لا نود تذكرها واسترجاع أحداثها.

في حالات كتلك يمكننا اللجوء إلى الطبيب النفسي ومجموعات الدعم النفسي الموجودة والتي تقوم بمجهودات كبيرة في هذا المجال، والتي تقدم خدمات مجانية لمن تعرضوا لانتهاكات بصورة مباشرة. ومع ذلك، ما زلنا في حاجة إلى المزيد، ففي حين أن المستفيد الأكبر من هذه الخدمات هم المتظاهرون الذين تعرضوا بشكل مباشر إلى الانتهاكات الجسدية والتحرش والاغتصاب، إلّا أن المتضررين بأشكال قد تعتبر أقل ما يزالون في حاجة إلى الرعاية الصحية ونشر الوعي بأهمية العناية بالصحة النفسية للمتظاهرين بشكل خاص وبشكل عام الصحة النفسية للمواطنين في السودان، هذا البلد الذي يمر باضطرابات أمنية واجتماعية كبيرة منذ سنوات.