الفيضان هو تراكم أو تزايد المياه التي تغمر الأرض. وبمعنى "المياه المتدفقة". ويأتي فيضان النيل غالبًا بسبب هطول الأمطار الغزيرة وقد تنجم عن زيادة حجم المياه في مجرى مائي، مثل النهر أو البحيرة، والتي تتجاوز أو تتعدى الجيوب المائية، ونتيجة لذلك يتعدى بعضًا من الماء حدوده الطبيعية.
تتبع الفيضانات في السودان موجة تصاعد للفعل السياسي بسبب صدمة الكارثة الطبيعية
يتسبب الفيضان في تفشي الأوبئة والأمراض المرتبطة بتلوث المياه مثل الكوليرا والملاريا وشتى أنواع الحميات، وجميع أنواع الإسهالات المائية وغيرها. أيضًا يؤدي إلى تشريد المواطنين وغرق المناطق الزراعية.
اقرأ/ي أيضًا: نساء تحت حصار الفيضان
يشهد السودان هذه الأيام كارثة غير مسبوقة، تم على إثرها إعلان حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر واعتباره منطقة كوارث طبيعية. وتسبب فيضان نهر النيل بكوارث إنسانية، حيث بلغ عدد الوفيات حوالي (100) شخص حتى لحظة كتابة هذه السطور، في المناطق المتاخمة لنهر النيل، النيل الأبيض، النيل الأزرق، وروافدهم، وتهدم ما يفوق (100,000) منزل سكني.
معدلات الفيضانات والأمطار المسجلة هذا العام تجاوزت الأرقام القياسية المسجلة عامي 1946 و1988، مع توقعات باستمرار معدلات الارتفاع، وكانت وزارة الري والموارد المائية قد أعلنت أن منسوب النيل الأزرق ارتفع إلى (17.58) مترًا، ووصفته بأنه "مستوى تاريخي لم يسجل مثله منذ بدء رصد مناسيب النهر في العام 1902"، وكانت القمة السابقة (17.26) مترًا.
تتبع الفيضانات في السودان، موجة تصاعد للفعل السياسي بسبب صدمة الكارثة الطبيعية التي تترك آثارًا عميقة في المجتمع والاقتصاد، وهو ما يؤدي لتبلور المطالب وانتقالها من حالة الركود السياسي إلى الحركة السياسية الفاعلة، شهدنا ذلك في فيضان 1946 الذي لم تستجب له حكومة الاستعمار بالشكل المناسب، وترتب عليه تفاقم الأزمة الاقتصادية وزيادة التضخم، فظهر أول تنظيم عمالي في السودان بمطالب تتعلق بزيادة الأجور في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة "التي كانت تتلقى الوعود بالزيادة منذ العام 1935"، لتتوسع لاحقًا قائمة المطالب من مجرد زيادة أجور لحق التنظيم النقابي والإضراب، وحتى آخر الطريق بالمناداة بالجلاء الكامل للاستعمار من السودان. تحولت التنظيمات العمالية النقابية والطلابية إلى بؤر نشطة للمطالبات السياسية، فبعد وقت قصير من ظهور أول تنظيم عمالي في عطبرة عام 1946، ظهر حراك طلابي فاعل في كلية غردون التذكارية -جامعة الخرطوم حاليًا- في نفس العام، وهو أول شكل تنظيمي طلابي يخرج مظاهرة ويعتصم عن الدراسة ودخول القاعات. وكان رد الإدارة الاستعمارية إغلاق الكلية لمدة قاربت العام.
خريف 1988 امتحن الفيضان حكومة الائتلاف التي في ظرف (24) ساعة فقط، أصبح مليون ونصف مواطن من مواطنيها في العراء، حيث توقفت الخدمات، وانعزلت العديد من المدن والقرى انعزالًا تامًا بسبب انهيار خدمة المواصلات وتهدم الطرق. وبعد عدة أيام أصبحت دولة السودان تعيش على معونات المغتربين وإعانات دول صديقة.
سياسيًا واجهت حكومة الائتلاف الثالثة "الصادق المهدي والجبهة الإسلامية"، دعوات من الأحزاب الأفريقية وحزب الأشقاء بالاستقالة وتكوين حكومة جبهة وطنية، لكن الحكومة رفضت وواصلت إجراءاتها الاقتصادية وفرضت حالة الطوارئ التي تنصل منها حليفها السياسي نفسه "الجبهة الإسلامية"، وأصبحت الدولة بدون قيادة سياسية وفي حالة فوضى، حتى أن زين العابدين الهندي (البرلماني والأمين العام للحزب الاتحادي الديمقراطي)، دعا الجماهير إلى الاعتماد على أنفسهم بعيدًا عن القيادات التي تجري فقط خلف مصالحها الشخصية.
استمرت أزمة الفيضان وتداعياتها والتي سمحت للجبهة الإسلامية بالاستثمار السياسي باحتكار المساعدات الإغاثية من الدول الإسلامية والعربية، وهذا ما خدم لاحقًا تمكن الجبهة الإسلامية من الدولة في 1989.
الآن فيضان 2020، وفقًا للتقرير اليومي لموقف الخريف الذي يعلن عنه المجلس القومي للدفاع المدني، حتى الأربعاء 9 أيلول/سبتمبر الجاري، هناك عدد: (103) حالة وفاة، (50) من المصابين، (69,551) منزلًا بين انهيار كلي وجزئي، وتضرر (4,208) فدان زراعي، وتهدم (179) مرفق عام، كما تضرر (359) متجر ومخزن، ونفق أكثر من (5,482) من المواشي. وأعلنت كل من ودمدني، الخرطوم، وعطبرة وغيرها، مناطق ذات خطر عالي. وامتد التأثير لولاية شمال كردفان، ولاية جنوب كردفان، ولاية نهر النيل، وأجزاء من شمال دارفور.
تلاقي هذه المناطق استجابة بطيئة من حكومة الفترة الانتقالية التي أعلنت في نيسان/أبريل 2020، عن حملة "القومة للسودان" التي أطلقها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك لطلب الدعم الشعبي في مشروعات تم تخصيصها لاحقًا، منها قضية تحسين البنى التحتية والاستعداد لموسم الخريف، والذي يبدو أن الحكومة تفاجأت به ولم نشهد أيًا من تلك الوعود التي أطلقها رئيس الوزراء، ليقف الشعب السوداني مرة ثالثة أمام فيضان النيل بتروس بشرية، جهود شعبية وإعانات خارجية.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| أسئلة السلام مع الناطق باسم وفد الحركة الشعبية جناح "الحلو" في جوبا
يمكننا أن نتساءل عما بعد فيضان 2020، العديد من التساؤلات، مثل: هل توجد إمكانية بعد خراب الفيضان لتصمد حكومة الفترة الانتقالية أو حتى الفترة الانتقالية نفسها أمام المد العاتي لكارثة الفيضان؟ هل نشهد فترة تصاعد للفعل السياسي المطالب بتغييرات جذرية كما حدث في فيضان 1946؟ هل نشهد صعود لتأثير التنظيمات النقابية والطلابية للمطالبة بتغييرات جذرية كما حدث بعد فيضان 1946؟ مع غياب البرلمان هل نشهد دعوات متصاعدة من قيادات سياسية لحل قيادة الفترة الانتقالية وتكوين قيادة جديدة لحكومة وحدة وطنية لمواجهة الأزمات الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية كما حدث في فيضان 1988؟ هل سيستثمر العسكريون تداعيات الأزمة الاجتماعية والاقتصادية والسيطرة على المشهد كما فعلت الجبهة الإسلامية بعد فيضان 1988؟
ما يؤكده التاريخ السياسي للفيضان في السودان، أن ما بعد الفيضان دائمًا لا يشبه ما قبله
الكثير من الأسئلة، والقليل من الإجابات التي لا تتعدى حد التكهنات. لكن ما يؤكده التاريخ السياسي للفيضان في السودان، أن ما بعد الفيضان دائمًا لا يشبه ما قبله.
المراجع:
محمد علي جادين: تقييم التجربة الديمقراطية الثالثة في السودان. الخرطوم، دار المصورات للنشر، ط2 2019.
تيم نبلوك: صراع السلطة والثروة في السودان. ترجمة الفاتح التجاني، محمد علي جادين، الخرطوم، دار المصورات للنشر، ط2 2019.
محمد سعيد القدال: تاريخ السودان الحديث 1820_ 1955 الخرطوم، مطبعة جامعة الخرطوم، ط3، 2018.
وزارة الداخلية: المجلس القومي للدفاع المدني، التقرير اليومي لموقف خريف 2020. 9 أيلول/سبتمبر2020.
اقرأ/ي أيضًا