منذ أن يظهر الهلال ليعلن بداية شهر رمضان الفضيل، تكتسي مدن السودان بعادات وتقاليد خاصة لا تشبه أي بلد آخر، بداية بالترتيبات التي تجرى في ساحات الأحياء الداخلية، وعلى الطرقات الرئيسية لتجهيز مائدة رمضان للعامة، مرورًا باكتظاظ الأسواق بالناس، والحركة غير المعتادة التي تعيشها المدن والقرى ليلًا وهم في حركة دؤوبة إلى المساجد، فالتراويح في السودان تكاد أن تكون فرضًا على المسلمين هناك، وذلك بجانب الأنشطة الثقافية والاجتماعية التي تصاحب شهر رمضان في السودان.
اعتادت النساء على إعداد "الزريعة" وهي إحدى مراحل صناعة الحلومر المبكرة في السودان في فصل الشتاء
تستعد السيدات للشهر الفضيل مبكرًا للغاية، وذلك لأن إعداد عصير"الآبري" والذي يعرف باسم الحلومر يحتاج إلى الكثير من الوقت لتحضيره، كما اعتادت النساء على إعداد "الزريعة" وهي إحدى مراحل صناعة الحلومر المبكرة في السودان في فصل الشتاء، وتعتمد على إنبات الذرة والذي يعتبر المكون الأساسي في صناعة الحلومر، ومن ثم يتم تجفيفه وطحنه.
تقوم السيدات أيضًا في كل عام بشراء العديد من الأواني المنزلية، استعدادًا للموائد الرمضانية التي تنظم في الشوارع، بالإضافة إلى الدعوات التي تقدم للأهل والأصدقاء من أجل تناول وجبة الإفطار.
ويحتاج رمضان إلى أواني خاصة، بحيث تقدم السفر الرمضانية في الطرقات وهي مغطاة بـ"الطبق"، وذلك في انتظار حلول آذان المغرب، والطبق هو غطاء يصنع من جريد النخل بطريقة يدوية يوضع فوق السفرة للحفاظ عليها من الذباب والأتربة.
استقبال رمضان في السودان
يستقبل السودانيون رمضان بالموائد التي تجمع الأهل والأصدقاء، فعادة ما تقضي الأسر والعوائل السودانية اليوم الأول في تجمعات عائلية مليئة بالجو الأسري والإلفة.
وجدير بالذكر أن الموائد الرمضانية السودانية تمتلئ في اليوم الأول بالأصناف المحلية، وتختلف هذه الأصناف من قبيلة إلى أخرى، ففي وسط السودان يعتمد الأهالي بشكل أساسي على الكسرة والعصيدة، وفي الغرب تنتشر العصيدة بأنواعها المختلفة، وفي الشمال تعتبر القراصة سيدة الموائد الرمضانية، أما في العاصمة الخرطوم تبدو هذه الوجبات قد تخطت حدود المناطق أو القبائل، فلم تعد الوجبات المحلية حكرًا على أحد.
يحتفل الأطفال بحلول الشهر الفضيل في السودان بشكل مختلف، حيث يشعلون الأسلاك المعدنية، والتي تتوهج ويتطاير منها الشرار بشكل كثيف مع تحريكها بسرعة.
وتتزين الفتيات بالعبايات ذات الطابع الرمضاني، فيما تحافظ النساء المتزوجات على ارتداء الثوب السوداني المميز في جميع المحافل الاجتماعية الرمضانية.
عادات وتقاليد رمضان الموروثة
على الرغم من أن جده توفي بعد أن تجاوز الـ (100) عام، إلا أن علي حسن يؤكد لـ "الترا سودان" أن روايات جده له عن إفطارات رمضان مطابقة تمامًا لما يراه الآن في الواقع، حيث يقوم الأهالي في القرى بقطع الطريق على الناس في الشوارع مع اقتراب موعد الإفطار، وتشير هذه العادة إلى الكرم الأصيل في الشخصية السودانية.
يقول علي إن الإفطارات الرمضانية ما زالت تنظم على "البرش" كما جرت العادة قديمًا، وهو مفرش للأرضيات يستخدم حتى الآن لتجهيز الساحات من أجل إقامة السفر الرمضانية، إضافة إلى أنهم يقومون بأداء الصلوات عليه. يصنع البرش من السعف بشكل يدوي، وعادة ما يكتسي باللون الأخضر.
بجانب البرش يكون هنالك عدد من الأباريق التي تستعمل في غسل الأيدي قبل وبعد الإفطار، إضافة إلى الوضوء من أجل أداء صلاة المغرب، وعادة ما تكون مهمة ملء هذه الأباريق مسؤولية الصبية الصغار، وذلك بجانب مساعدة الكبار في غسل أياديهم، والاهتمام بالضيوف في السفرة الرمضانية بشكل خاص.
وبعد الفراغ من الإفطار وأداء الفريضة، تقدم في السفرة الرمضانية المشروبات الساخنة كالشاي والقهوة، ويهتم القائمين بأمر السفرة بهذا الجانب بشكل كبير، لأنه يفتح مجالًا للمسامرة التي غالبًا ما تستمر حتى موعد صلاة العشاء.
الحلومر ما بين الأمس واليوم
اختلفت صناعة الآبري في السودان بشكل كبير، حيث اندثرت عدد من العادات المصاحبة لهذا الطقس الفريد، فقد كانت صناعته سابقًا تعتمد على النفير الذي تقوم به عدد من نساء الحي مع مجموعة من نساء العائلة، بحيث كان بمثابة مناسبة تقدم لها الدعوات في فترة من الفترات، وتقوم السيدة التي تريد صناعة الحلومر بتجهيز وجبة الإفطار للنساء المدعوات للمناسبة، بحيث تقدم وجبات سودانية خالصة مثل وجبة "أم فتفت" التي تصنع من بطن الخروف، والمحببة كثيرًا خاصة لدى النساء.
وبعد الانتهاء من إعداده كان لزامًا على السيدة التي أعدته أن تضيف جميع النساء الحاضرات منه،وذلك حتى بتفحصن جودته.
وأصبح الحلومر الآن يباع جاهزًا في عدد من المتاجر، ويمكن أن يتم استئجار سيدة متخصصة لتجهيز المرحلة الأخيرة والأصعب في صناعته، وهي مرحلة "العواسة"، وعادة ما تتم على الحطب، وذلك باستخدام صاج كبير مربع الشكل، يضاف المزيج على سطحة ومن ثم يطرح على الصاج و يتم طيه عده طيات، ليشكل ما يسمى بـ"الطرقة"، والتي تشبه في فكرتها إلى حد ما لفائف عصير القمردين.
وجدير بالذكر أن الحلومر يجهز بكميات كبيرة، تحسبًا للمناسبات التي تطرأ فجأة في المجتمعات الصغيرة، كالأتراح والتي تحتاج إلى كمية كبيرة من العصير للضيوف الذين يأتوا من أجل تقديم واجب العزاء.
سفرة رمضان السودانية
تتميز سفرة رمضان في السودان بعدد من الأصناف التي جاءت من العادات والتقاليد الغذائية في البلاد، بحيث تقدم "النشا" وهو مشروب ساخن محلى يصنع من دقيق الذرة مع إضافات مختلفة، فالبعض يضيف لها مسحوق الكاسترد، فيما يضيف آخرين لها القمردين أو العرديب، وتصنف النشا كمشروب موازي للشوربة التي تقدمها الشعوب الأخرى على مائدة الإفطار.
وتقدم في سفرة رمضان السودانية البليلة بنوعيها بشكل يومي، ويوضع من فوقها حبات التمر التي يحلل بها الصيام، ويعتمد عليها الناس في السودان لأنها تساهم في جعلهم يشعرون بالعطش، وتدفعهم لشرب كميات كبيرة من المياه عقب تناولها، مما يجعلهم يقاومون ارتفاع درجات الحرارة.
وعادة ما يكون الطبق الأساسي يحتوي على العصيدة أو القراصة أو الكسرة، وهي وجبات محلية تعتبر بديلة عن الخبز، يصنع بعضها من القمح، فيما يصنع البعض الآخر من دقيق الذرة.
وعلى السحور تتميز المائدة الرمضانية في السودان بوجود وجبة الرقاق، وهي شبيهة بشكل كبير برقائق "الكورنفلكس" المعروفة، تقدم بنفس الصورة مع الحليب كوجبة خفيفة على المعدة ومناسبة للسحور.
وتتميز الموائد الرمضانية في السودان بعدد من المشروبات، مثل التبلدي الذي عادة ما يقدم بإضافة عصير الأناناس ليكون مزيجًا مدهشًا، وهو ثمرة لشجرة التبلدي التي تنتشر بشكل كبير في غرب السودان، وذلك بجانب العرديب المشهور خارج السودان بالتمرهندي، والذي يمزج في الغالب مع الكاسترد.
ويعتمد معظم السودانيين على الصمغ العربي الذي يضاف إلى مختلف أنواع العصائر، الأمر الذي يزيد من قيمته الغذائية ويعطيه قوامًا.
مناشط ليلية
بعد أداء صلاة التراويح يتسابق الشباب للعب كرة القدم، أو ما يسمى شعبيًا في السودان بـ"الدافوري"، وذلك في الساحات الفارغة بالأحياء، أو في ملاعب الخماسيات الخاصة بهذه اللعبة.
فيما تنظم المجموعات سواء كانت دراسية أو في العمل، إفطارات جماعية لتكون ملتقى سنويًا لمختلف الفئات التي عاصرها الفرد خلال رحلته. وحتى بعد مغادرته لهذا المجتمع يبقى شهر رمضان حلقة وصل تجعل هذا الرباط لا ينقطع.
وفي السودان عادة ما يقوم بدور المسحراتي مجموعة من شباب الحي، يطوفون على المنازل بجملة المسحراتي المعهودة في السودان، والتي تنادي "يا صايم قوم اتسحر".
وفي ساحات ومساجد الطرق الصوفية يحيي الأتباع والمريدين لياليهم بـ "النوبة" المعروفة بالحضرة الصوفية، والتي تمتلئ بالذكر وأناشيد مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم، بينما يرتدي الصوفية الجلاليب الخضراء، ويرتصون في شكل حلقات دائرية.
ويمتلئ شهر رمضان في السودان بالكثير من العادات والتقاليد المميزة، من وجبات مختلفة ومتنوعة، ومشروبات أعدت خصيصًا لهذه المناسبة، وذلك بجانب الأنشطة الرمضانية الخاصة والطقوس المتعددة النابعة من التنوع العرقي والثقافي في السودان، الأمر الذي يجعل من الشهر الفضيل في السودان أشبه بلوحة مليئة بالألوان رغم اتساقها.