وجد يوسف الدوش نفسه مضطرًا للعمل في غسل السيارات جوار منطقة بيت المال في شارع النيل بأمدرمان، يحمل وعاءً بلاستيكيًا وفوط قطنية لغسل السيارات. الدوش معه جيل كامل في ذات سنة تلاشت أحلامهم وسط الأزمة الاقتصادية الطاحنة وشح الوظائف المجزية في القطاعين العام والخاص، وغياب أسئلة العدالة الاجتماعية بعد الثورة.
يوسف الدوش: تلقيت اتصالات من شباب طلبوا العمل معي في غسل السيارات لأنهم يرغبون في العمل ويشعرون بالحرج
المبادرة التي بدأها خريج العلوم السياسية من جامعة الزعيم الأزهري، يوسف الدوش بالنشر على صفحته والترويج لمهنته الجديدة، جعلت نحو (12) شابًا يأتون للعمل معه في غسل السيارات. وسارع بعض الشباب فور إعلان يوسف عن عمله الجديد على حسابه الشخصي بفيسبوك إلى التواصل معه وإبلاغه عن رغبتهم بالعمل معه، يقول أن الاتصالات توالت عليه، وجميعها كانت جملة واحدة "عاوز اشتغل معاك".
اقرأ/ي أيضًا: مدير البجراوية لـ"الترا سودان": متاريس لحماية المواقع الأثرية من الفيضانات
ويبدو أن الدوش صاحب الـ(33) عامًا والمعروف على المنصات الاجتماعي بقصائده الثورية التي كان يلقيها في ميدان الاعتصام، فتح الباب واسعًا أمام شبان ظلوا يترددون عن العمل في مهن موقتة كغسل السيارات، تجنبًا للوصمة الاجتماعية.
ويحصل هؤلاء الشبان على عوائد يرونها مجزية مقابل غسل سيارة واحدة مقارنة بأوضاعهم الاقتصادية، خاصةً لشبان يدرسون الطب والهندسة الزراعية وبعضهم لم يكمل تعليمه بعد، إذ بالنسبة لهم، هذا العمل أفضل من الفقر المدقع وغياب المشاريع الحكومية التي تستوعب طاقاتهم.
ويعمل الدوش بنظام دوامين في اليوم، حيث يلتحق في الفترة الصباحية للعمل في مطعم بجامعة التقانة بأمدرمان مقابل أجر يومي قدره (500) جنيهًا، وينتقل مساءً إلى شارع النيل لغسل السيارات. وبعد أن اختط لنفسه مهنة جديدة انضم إليه عشرات الشبان الذين قرروا كسر الوصمة الاجتماعية، لأن الحاجة للمال أقوى من التفكير في نظرة المجتمع، خاصةً مع تدهور الوضع المعيشي.
ويقول يوسف الدوش لـ"الترا سودان"، إن الموقف الذي استفز مشاعره كان عندما عرض على أحد أصحاب السيارات غسيل سيارته، رد عليه: "هل هذه طريقة جديدة للسرقة؟". يضيف الدوش: "كان هذا أول موقف محزن تعرضت له عندما بدأت في غسيل السيارات بشارع النيل أمدرمان".
اقرأ/ي أيضًا: مبادرة من أهل القضارف لرأب الصدع في كسلا
ويتابع الدوش قائلًا: "لم أكن أرغب في كسر أي حواجز، لأن هذه المهنة عادية، ونظرة المجتمع يلزمها التغيير. الظروف أجبرتني على العمل في مهنتين؛ الصباح في مطعم والمساء في غسل السيارات. ونحن في حاجة لثورة اجتماعية، مسألة أن ينظر الناس للعمل من جانب اجتماعي يجب أن تتغير".
تلقى الدوش مكالمات هاتفية من أقربائه عرضوا عليه المساعدة وطلبوا منه التوقف عن هذه المهنة لكنه رفض
ويعتقد الدوش أن فرص العمل في القطاعين العام والخاص شحيحة للغاية وغير مجزية للإنفاق على ضروريات الحياة، ويضيف: "كنت أعمل في القطاع الخاص؛ في الحقيقة غالبية موظفي أو عمال هذا القطاع يبيعون الوقود من السيارات لمقابلة مصروفاتهم اليومية، وهو سلوك يفعلونه مضطرين لأن الضائقة المعيشية ترهق كاهلهم".
وقرر يوسف الدوش كسر نظرة المجتمع لمهنة غسيل السيارات بالكتابة على حسابه الشخصي في فيسبوك، وذلك لأنه تعرض لضغوط كان ينبغي أن يتخلص منها، ورغم ذلك تلقى مكالمات هاتفية من أقربائه عرضوا عليه المساعدة وطلبوا منه التوقف عن هذه المهنة، لكنه كان مصممًا على عمله الذي طالما كان مقتصرًا على المشردين والأطفال الذين تركوا مقاعد الدراسة في بلد يحاول إنهاء الحرب الأهلية في سبع ولايات.
وفوجئ الدوش باتصال هاتفي منذ اليوم الأول، كان من طالب بكلية الطب جامعة شندي، طلب منه طلب منه أن ينضم إليه في العمل، وافق يوسف على الفور على ضمه، وبالفعل ارتفع عدد رفاقه الذين يعملون معه حاليًا إلى (12) شابًا بحسب الدوش، فيما تبرع أحد الأشخاص ممكن شاهدوا على فيسبوك مبادرة الدوش وشجاعته في طرح الفكرة، بماكينة يدوية لغسل للسيارات، وتتقاسم المجموعة عائد العمل اليومي فيما بينها بالتساوي.
الدوش: تبرع لنا شخص بماكينة يدوية لغسل السيارات وكمية من الصابون ونتقاسم الإيرادات بيننا
ويضيف الدوش: "قطع الشاب الذي يدرس الطب وعمره (19) عامًا مسافة خمسة كيلو مترات مشيًا على أرجله لأنه لم يكن معه نقود لتذكرة المواصلات، وهو حاليًا يعمل معنا".
واعتاد الدوش ومجموعته التي أقبلت بنهم على العمل، على استخدام عبارات متداولة بين عمال غسيل السيارات، مثل "جلخ زبادي" في إشارة إلى تلميع السيارة ومقارنتها مع اللون الأبيض للزبادي.
ويقضي الدوش أكثر من ست ساعات في موقعه العمل الجديد، ويقترح على المجموعة التي انضمت إليه بالعمل في مناطق الكلاكلات وشرق النيل قريبًا من مقار إقامتهم بدلًا الذهاب إلى شارع النيل بأمدرمان لتوفير الوقت والمال، ويقول: "ربما يحاولون الاحتماء بشخصي لأنهم يهربون من الوصمة الاجتماعية التي تلاحق من يعملون في مهنة غسل السيارات، لكنني قلت لهم لا تخشوا شيئًا طالما أن العمل شريف وأنتم بحاجة إلى المال".
ويشعر الدوش أن الشباب يواجهون حالة انسدادًا في البلاد، فالعمل بالشهادة الجامعية بات مستحيلًا، وحتى عندما يتم التوظيف في القطاع الخاص يتم استغلاله مقابل أجر زهيد. ويضيف: "وضع الأجور في القطاع الخاص يحتاج إلى تدخل حكومي".
ويشكو الدوش من ارتفاع تكلفة المعيشة اليومية بواقع (100) جنيه لطلب الفول وكوب من القهوة بسعر (40) جنيهًا، ويحتاج إلى شرب كوبين بقيمة (80) جنيهًا وتذكرة المواصلات مقابل (100) جنيه يوميًا، بالتالي إذا كان الأجر ضعيفًا فإنه لن يغطي المصروفات الشخصية ناهيك عن منصرفات أفراد عائلتك وأطفالك.
ويرى الدوش أن الجلوس في المنزل حاملًا شهادة جامعية وانتظار وظيفة في مجالك هو حلم لن يتحقق أبدًا في الوقت الحاضر، يقول: على الشخص أن يجرب العمل في جميع المجالات لأن الأشخاص الذين سبقونا في العمل لم يولدوا هكذا لكن الظروف أجبرتهم".
وينتقد الدوش موقف الحكومة الانتقالية من قضايا البطالة والشباب بعد الثورة، مضيفًا: "الحكومة كان بإمكانها أن تصمم مشاريع زراعية وأعمال صغيرة وتملكها للشباب والخريجين، قضايا البطالة من المواضيع المنسية في البلاد".
اقرأ/ي أيضًا: حوار| الوسيط ضيو مطوك يفتح ملف التفاوض وتفاصيل وتحديات اتفاق السلام السوداني
ويقول الدوش مخاطبًا مراسل "الترا سودان"، إذا قرر الشباب في بلادنا وضع متاريس عملاقة أمام الفيضانات، فهم قادرون على تحقيق ذلك. هناك عزيمة قوية لا تستغلها الحكومة وصناع القرار.
الدوش: نقاتل يوميًا من أجل توفير أبسط ضروريات الحياة والرفاهية مستحيلة في بلادنا
ويدعو الدوش إلى تغيير عقلية المجتمع التي تنظر للمهن العمالية بطريقة غير لائقة، لأن البناء يحتاج إلى جميع الأعمال والإنتاج يأتي بالمشاريع التي يعمل فيها الشباب بالكد والاجتهاد.
ويتابع الدوش: "نحن نقاتل يوميًا من أجل توفير الطعام والشراب والسكن والمواصلات، وهذه من الحقوق الأساسية التي يجب أن تكفل للمواطنين حتى يتطلعوا للرفاهيات مثل السيارة والسفر وامتلاك العمل الخاص".
اقرأ/ي أيضًا
مجلس السيادة: دمج الجيوش سيساهم في استقرار ليبيا وجنوب السودان
مسؤول بالتعليم يكشف لـ"ألترا سودان" خطة الوزارة لقيام الامتحانات في وقتها