17-نوفمبر-2023
مناوي وجبريل زعيما حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة

مناوي وجبريل زعيما حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة (Getty)

في موقف قد يبدو مفاجئًا للكثيرين، أعلنت "حركات الكفاح المسلح" الموقعة على اتفاق جوبا – مسار دارفور، خروجها من منطقة الحياد في الحرب الدائرة حاليًا في السودان، والانحياز إلى القوات المسلحة في مواجهة قوات الدعم السريع، مبررةً موقفها الجديد هذا بالتزامها بوحدة السودان وانحيازها إلى المواطن السوداني الذي قالت إنه يتعرض للموت والتنكيل والتشرد، ليس في الخرطوم فقط، بل في دارفور التي شهدت "أسوأ أشكال الجرائم ضد الإنسانية"، المرتكبة بواسطة قوات الدعم السريع – حسب ما أشار البيان الذي أصدرته الحركات أمس.

يبدو أن الحرب في السودان في طريقها إلى اتخاذ مسار جديد واستيلاد تحالفات جديدة، داخلية وخارجية، في الملعب السياسي وفي حلبة الحرب

قبل أقل من شهر التقيت مصادفة أحد القادة الشباب من الحركات المسلحة في دارفور. دار بينا حوار طويل عن الحرب المشتعلة في السودان، وعن انتقالها العنيف إلى مدن دارفور وبواديه، ووقتها كان الحصار على أشده حول مدينة نيالا قبل سقوطها بأيدي الدعم السريع. بلا شك تناولنا –ضمن ما تناولنا– ما حدث في مدينة الجنينة، والمتوقع حدوثه في بقية المدن في حال سقوط مدينة نيالا، وأثرنا خلال ذلك موقف الحركات مما يدور في الإقليم، وأن تموقعها في موقف الحياد أمر غير مستساغ؛ فهذه "حرب شاملة ومصيرية" لا تحتمل موقفًا وسطًا أو رماديًا، فإما أن تجد نفسك في معسكر الجيش، أو أن تنضم بلا تردد إلى معسكر الدعم السريع. وفي حالة دارفور يصبح الأمر أكثر تعقيدًا، لا سيما في ظل الانتهاكات الخطيرة التي ظل يتعرض لها مواطن هذا الإقليم، فمن غير المحتمل اتخاذ موقف المتفرج أو "شوية مع دول وشوية مع دول"، مثلما ذكر أركو مناوي، قائد حركة تحرير السودان إحدى أكبر الحركات الموقعة على اتفاق جوبا للسلام.

عن مناوي وحركته تحديدًا، رأى القائد الشاب أن الدخول في الحرب انحيازًا إلى أي من الطرفين المتقاتلين يمثل خطورة كبيرة على الحركة وعلى جيشها المنهك من كثرة المعارك، سواء داخل السودان قبل اتفاق جوبا أو خارجه (ليبيا وتشاد). وفصّل أكثر بقوله إنه في حال انضمام مناوي –بكل إرثه في الكفاح المسلح– إلى الدعم السريع، يصبح بذلك مثل من خان ميثاقه ومقاتليه وتحالف مع "العدو التاريخي" ضد أبناء شعبه. أما في حال انحيازه إلى القوات المسلحة فالوضع ينحو إلى الحساسية العالية والتعقيد الشديد، فتاريخيًا ولدواعٍ مختلفة من بينها الإثني والجغرافي، نجد أن التحالف الإقليمي الإستراتيجي لمناوي متحقق مع الحكومة التشادية، بداية من رئيسها السابق إدريس ديبي، واستمر هذا التحالف تحت قيادة ديبي الابن، حاكم تشاد الحالي. هذا التحالف له جذوره التاريخية –ما قبل مناوي– المتعلقة بالإسهام والمشاركة في المعارك التي قادت آل ديبي إلى حكم تشاد، رفقة مجموعة من الضباط ورجال الأمن الثوريين المنحازين إثنيًا إلى مناوي (وجبريل أيضًا). مبعث التعقيد –حسب ما يقول القائد الشاب– يعود إلى التحالف الجديد الذي تحقق بين ديبي الابن وقادة الدعم السريع، مما وفر لهذه القوات دعم لوجستيًا وعسكريًا كبيرًا، وساعدها مساعدة أساسية في الصمود وتحقيق انتصاراتها.

https://t.me/ultrasudan

إذن، في حال انحاز مناوي إلى القوات المسلحة، وتعرض للضغط في المعارك المتوقعة –بعض قواته ما تزال في ليبيا رفقة حفتر، وذلك تعقيد آخر– فإنه سيفقد تلقائيًا مساندة تشاد، مما يعني فقدان الدعم اللوجستي والملجأ.. إلخ، أو أن يحدث أمر جلل في تشاد بانحياز الضباط التاريخيين إلى إثنيتهم، والإطاحة بديبي الابن لمصلحة الانتصار القبلي.

قبل يومين –15 تشري الثاني/نوفمبر الجاري– كتب باحثي المركز الأفريقي في المركز الأطلسي كاميرون هدسون، على حسابه بموقع "إكس" (تويتر سابقًا) قائلًا إن الوقت قد حان لتساند الولايات المتحدة الجيش السوداني في حربه ضد الدعم السريع. وأضاف: "إذا كانت الولايات المتحدة مهتمة حقًا بتأمين مصالحها الجيوإستراتيجية في السودان، فهذا سبب آخر لدعم القوات المسلحة السودانية الآن. فمن غير المرجح أن توافق القوات السودانية المنتصرة على قاعدة بحرية روسية ووجود عسكري رسمي في السودان". أهمية هذه التغريدة تعود إلى أن صاحبها يعد من المقربين والمؤثرين في دوائر القرار الأمريكي، في ما يخص السودان ومنطقة القرن الأفريقي، كما أنها تتزامن مع زيارات قائد الجيش السوداني عبدالفتاح البرهان المفاجئة هي الأخرى إلى كل من كينيا وإثيوبيا، في ما يبدو وكأنه محاولة من البرهان لإعادة تشكيل تحالف إقليمي في المنطقة بمشاركة دول "الإيقاد" والاتحاد الأفريقي، وخلق واقع آخر مختلف تمامًا عما سبق هذه الزيارة، وأعني به الموقف المتعنت للسودان من مبادرة "الإيقاد"، وهو موقف يمكن قراءته تحت عنوان سيطرة الإسلاميين على القرار وتعنتهم برفض كل المبادرات الرامية إلى الحل السلمي لما يجري في السودان، في حين يبدو موقف البرهان الجديد –مقرونًا بخروجه من الخرطوم– وكأن الرجل يسعى إلى تشكيل خط تفاوضي مفارق ومضاد للخط "الكيزاني" المتزمت.

فهل تضافرت كل هذه العوامل مع عوامل أخرى ضاغطة وغير منظورة الآن، ودفعت حركات الكفاح المسلح إلى اتخاذ هذا الموقف الجديد بالانحياز إلى القوات المسلحة السودانية، ودعوة السودانيين علنًا إلى محاربة قوات الدعم السريع "نهيب بأهلنا في السودان عامة ودارفور خاصة بتوحيد الجبهة الداخلية لمواجهة خطر التقسيم. ونقف بصلابة أمام كل المؤمرات الداخلية والأجنبية لتمزيق السودان، ولن نسمح أبدًا بأن تكون دارفور بوابة لتفكيك السودان"، حسب ما جاء في البيان الذي ذكر فيه أيضًا "ندعو المجتمع الإقليمي والدولي وكافة دوائر انتماء السودان إلى اتخاذ موقف واضح لإيقاف الحرب والمحافظة على وحدة السودان وسيادته الوطنية، ونطالب الاتحاد الأفريقي على نحو خاص بوقف الانتهاكات وجرائم الإبادة الجماعية التي ترتكب الآن في دورتها الثانية في دارفور". والإشارة إلى الاتحاد الأفريقي هنا، يمكن ربطها مباشرة بالجولة الأخيرة لقائد الجيش عبدالفتاح البرهان، مثلما يمكننا النظر إلى دعوة السودانيين (الدارفوريين) إلى المشاركة في الحرب بأنها عملية فرز قبلي جديدة في هذا الإقليم المنكوب.

من ضمن الإشارات المهمة التي تضمنها بيان حركات الكفاح المسلح، الإشارة إلى موقف الشعب التشادي من جهة وموقف القيادة التشادية من جهة، ومطالبتها بـ"التوقف عن دعم وإسناد مليشيات الدعم السريع في حربها ضد السودان، وذلك بالكف عن إمدادها بالمؤن والعتاد العسكري والمرتزقة عبر فتح حدودها ومجالها الجوي ومطاراتها وأراضيها"، وهي مطالبة تتضمن –تلميحًا– اتخاذ وضعية معاكسة، تعيد دور الإسناد إلى المعسكر السوداني القديم، المسنود بتأييد النخبة من ضباط الحرس القديم في تشاد.

يبدو أن الحرب في السودان في طريقها إلى اتخاذ مسار جديد، واستيلاد تحالفات جديدة، داخلية وخارجية، في الملعب السياسي وفي حلبة الحرب التي لا تبقي ولا تذر.