26-مايو-2020

(Getty)

سقط في مجزرة  القيادة (127) شهيدًا من الثوار. وهي حدثٌ أقل ما يوصف به أنه الحدث الإجرامي الأكثر بشاعة في تاريخ السودان الحديث. مع أن مجزرة القيادة ليست مجرد حدث تاريخي وقع في التاسع والعشرون من رمضان في العام 2019، ليتم تذكره أو إحياؤه في ذاكرة السودانيين الجماعية بشكل عاطفيٍ دائمٍ ومتجددٍ كل عام، وإنما ذكراها بمثابة حدثٍ ثوريٍ دائم التجذر في مواقفنا وممارساتنا السياسية.

حقًا لم تحدث مجزرة القيادة في الماضي، في ذلك اليوم الغادر أو في ذلك الفجر الدامي أو في تلك الساعة الصفرية التي لا تدور عقاربها إلا في اتجاهٍ واحدٍ يشير وينبئ بحدوث انقلابٍ في ليلةٍ ما من ليالي العسكر المديدة التي لا تنتهي منذ استقلال السودان في العام 1956، وإنما هي مجزرةٌ دائمة الحدوث، لأن ذكراها ستظل تحيا كحدثٍ معاشٍ في الفعل الجذري اليومي للجان المقاومة والأحياء، وليس في الذاكرة والوجدان فحسب. ذلك الفعل الذي ننتجه كل يوم في أي ميدانٍ من ميادين التغيير الذي أحدثته ثورة كانون الأول/ديسمبر، أو في كل مسارٍ من مسارات الانتقال.

سيظل هذا الفعل الإجرامي المدروس والمخطط له محليًا وإقليميًا يحدث دومًا في المستقبل القريب والبعيد بطرقٍ وأساليب مختلفة. فهاهي المجزرة، هنا والآن. إنها أمامنا، المجزرة المجزرة، بوصفها حدثًا مكانيًا ــ مستقبليًا دائم التجدد

إن مجزرة القيادة ليست حدثًا تاريخيًا انتهى في الماضي القريب، ليتم أرشفته من بعد في ذاكرتنا الجماعية المثقوبة، أو لكي نستعيده بالكاد من رفٍ من رفوف ذاكرة النسيان السياسي البعيدة، وإنما هي فعلٌ إجراميٌ مكتمل الأركان ومتعدد الأطراف. إذ سيظل هذا الفعل الإجرامي المدروس والمخطط له محليًا وإقليميًا يحدث دومًا في المستقبل القريب والبعيد بطرقٍ وأساليب مختلفة. فهاهي المجزرة، هنا والآن. إنها أمامنا، المجزرة المجزرة، بوصفها حدثًا مكانيًا ــ مستقبليًا دائم التجدد، متخمٌ بشلالات الدم وبالأشلاء والانتهاكات والاجتثاثات والاغتصابات والاختطافات. أجل، إنها أمامنا دومًا، في مرمى النظر والشوف، أي البوصلة الهادية والموجهة لمقاومتنا الجذرية الدائمة والمتجددة ضد حكم العسكر السفاحين، والتي ستقودنا حتمًا المرة تلو الأخرى إلى إحداث قطيعةٍ تاريخيةٍ مع ثقافة الاستبداد الأبوية، ومع كل أشكال السلطويات الحزبية الموروثة والديكتاتوريات.

اقرأ/ي أيضًا: الخمريَّاتُ الحماماتُ النائحات

لقد ظن العسكر الدمويون أن اعتصام القيادة يشكل تهديدًأ سياسيًا دائمًا بوصفه مصدر ضغطٍ هائلٍ على عملية التفاوض الجارية آنذاك مع نظرائهم من قوى الحرية والتغيير، دون أن يدركوا هم ونظرائهم المدنيين، وهم يطبخون بمهادناتهم الرخيصة مشروع التسوية والشراكة القادم على نارٍ هادئةٍ داخل قاعات التفاوض المهيبة، أن هذا المكان احتضن أول اجتماع تشاركي بين السودانيين بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم الإثنية والقبلية والجغرافية والطبقية والمهنية والسياسية والآيديولوجية. وهو ما لم يحدث من قبل في أي حقبةٍ من حقب التاريخ الوطني الحديث، وحتى في صبيحة إعلان استقلال السودان في العام 1956. لتكمن قيمة هذا الاجتماع في ما بذره من غرسٍ في اتجاهاتٍ خصبةٍ ومتراميةٍ لبناء هويةٍ سياسيةٍ وطنيةٍ قادرةٍ على توحيد السودانيين حول قضايا الانتقال التاريخي من نموذج دولة ما بعد الاستعمار النخبوية ــ الحضرية إلى دولة ستبنى قاعديًا من الأطراف والتخوم إلى المراكز الحضرية: أي دولةً ذات مواعينٍ بنيويةٍ وهيكليةٍ أوسع من نظيرتها تلك التي ضاقت بهم وضاق بها سدنتها البيروقراطيون الذي استباحوا الجهاز العمومي ــ الدواويني الموروث من التجربة الاستعمارية وبددوا موارده وثرواته وفوائضه طوال حقب الحكم الوطني. وأن هذا المكان، بعقوله الشابة وأجساده النازحة بكل اخضرارها اليانع صوب وطن الحرية المنشود، احتضن كل التمارين الضرورية على تجريب النقاشات الجماعية المنفتحة على كل الفئات الاجتماعية دون الوقوع في مستنقع التصنيفات الطبقية والفئوية والعرقية والجهوية الآسن، ذات المستنقع الذي غذى عقول النخب ومخيال السودانيين طوال أكثر من نصف قرن. وهو ذات المكان الذي أعاد الاعتبار لقضايا الهامش والأطراف بطرحها من داخل الماعون الحضري ــ النخبوي الضيق، ليسهم ذلك بدوره في توسيع ماعون خطاب المظالم التاريخية والمرارات والاحتقانات. فلأول مرة ينخرط ضحايا النزاعات والحروب في تجربة معايشات يومية مع من ينتمون للطبقات الحضرية الغنية والمتحالفة والمستفيدة من كل الأنظمة الوطنية التي تناسلت فسادًا إثر فساد منذ الاستقلال. إذ لم تعد "دارفور" تلك الأرض المتخيلة البعيدة والنائية، أرض المطرودين من الفردوس الشمالي ــ النيلي، والتي ظلت منذ العام 2003 تحترق في أتون الحروب، وإنما هي تلك الأرض التي ظلت تتجسد كل يومٍ في ساحة الاعتصام من خلال قضاياها ومظالمها التاريخية التي كانت تُطرح من قبل كل السودانيين بطرق تفكيرٍ مختلفةٍ وأساليب حوارٍ مغايرة. لقد تحولت ساحة الاعتصام إلى أرض استنطاقات وافصاحات، وليس محطة من محطات تبني قضايا جنوب كردفان أو شرق السودان بالوكالة.

لقد عاشوا كل شيء في وجودهم الثوري اليومي المجسد في ساحة الاعتصام بوصفها أرض الاستنطاقات الحرة والافصاحات التاريخية الرحيبة

لقد استنطقتنا هذه الأرض وجعلتنا نمضي أبعد من أي شكل من أشكال الاختراع السياسي الزائف لهويةٍ ثقافيةٍ ما. ففي أرض الاعتصام، لم نطرح على أنفسنا سؤال "من نحن؟"، لأننا اكتشفنا بأنفسنا لأول مرة بأننا سودانيون تجمعنا تجربة عيشٍ ومصيرٍ مشتركٍ دون أن نكون خاضعين لأي مقولاتٍ حزبيةٍ جاهزةٍ ومؤدلجةٍ من شاكلة "الشعب" أو "الجماهير"، ودون أن نختزل وجودنا المكتشف حديثًا بوصفنا سودانيين في شكلٍ أحادي للتعبير عن انتماءاتنا وعلاقاتنا وممارساتنا اليومية. وما  كانت تبشر به خطابات التنوع الإثني والتعدد الثقافي الصفوية طوال الثلاثين عامًا الأخيرة، دون أن تلمس عصبه أو تمسك بطرفه حتى، عاشوه السودانيين دون أن يؤطروه أو يفكروا فيه من خلال شعارات براقة. لقد عاشوا كل شيء في وجودهم الثوري اليومي المجسد في ساحة الاعتصام بوصفها أرض الاستنطاقات الحرة والافصاحات التاريخية الرحيبة. لقد عاشوا وتحولوا إلى مواطنٍ سوداني حقيقي بصيغة الجمع، ذلك المواطن الذي يستمد سوادنيته من كل جغرافيات السودان وجهاته الرحيبة. 

اقرأ/ي أيضًا: معارك بعض النساء!!

لن تُنسى مجرزة القيادة، ليس لأنها جسدت الفظاعات كلها والقسوة كلها والخيانة كلها، ولكن لأنها تحيا الآن وستظل تحيا دومًا وأبدًا في الفعل الثوري اليومي وفي الذاكرة اليومية لثوار لجان المقاومة الذي شكلوا تجربتهم السياسية ووعيهم السياسي بعيدًا عن إرث التحالفات الرجعية والانكسارات والانبطاحات التي وسمت شكل العلاقة التاريخية بين النخبة العسكرية والمدنية منذ استقلال السودان في العام 1956. وهو إرثٌ لا يتوانى، زعيم حزب الأمة، الإمام الصادق المهدي، عن الوفاء له بإحيائه من جديدٍ بخيانة كل الثورات وتجارب التحول والانتقال التاريخي التي بدلًا من أن تضع أسسًا صلبةً ومتينةً لمشروع بناء الدولة في السودان، فإنها تفعل العكس من خلال إعادة إنتاج النخبة المدنية والعسكرية لتجارب فشلها السابقة.

إن هذا الرجل لا يتحلى بالصدق الكافي الذي من شأنه أن يدفعه إلى طرح هذا السؤال الجوهري على نفسه: لماذا يفشل الصادق المهدي دائمًا؟

ولأن الصادق المهدي يمثل النموذج العياني الأكمل للفشل التاريخي المزمن لنخبة ما بعد الاستعمار في السودان، فإنه لم يتوانى لحظة عن تعميق صدمتنا الجماعية التي أحدثتها المجزرة آنذاك، عندما أخذ يتحدث عن العسكر بوصفهم شركاء في التغيير، ممهدًا لأرضيةٍ مشتركةٍ قادمةٍ بينه وبين العسكر خلال الفترة الانتقالية. إن هذا الرجل لا يتحلى بالصدق الكافي الذي من شأنه أن يدفعه إلى طرح هذا السؤال الجوهري على نفسه: لماذا يفشل الصادق المهدي دائمًا؟ لقد صار مكانه محفوظٌ في ذاكرة النسيان الجماعية أو مكب النسيان الذي يجسده القصر الجمهوري، وذلك منذ أن برهنت تجربة الديمقراطية الثالثة القصيرة النفس، على أنه الأكثر وفاءً للفشل من الفشل نفسه في التاريخ، بعد أن مهدت هذه التجربة الفاشلة  لأبشع أنواع الديكتاتوريات الإسلاموية في التاريخ الحديث.

اقرأ/ي أيضًا

مغفلو الأبارتايد المفيدون.. أو الكلبية اللاأخلاقية

ما الذي يصفح عنه الصادق سمل؟