01-أبريل-2020

جدارية للشهيد عبدالرحمن سمل (فيسبوك)

 

"ولأن دمك صار رمزًا للآخرين فإن فيه ما يخصني أكثر"

الصادق سمل

امتدادًا للمقال السابق الذي حاول أن يعالج إشكال الصفح بوصفه مفهومًا طرحه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا وعبره ناقشنا محنة الصادق سمل. يطرح هذا المقال بدوره سؤالًا مركزيًا ضمن إشكال مفهوم الصفح وهو عن ماذا يمكن أن يصفح المرء؟ أو بشكلٍ أكثر تدقيقًا ما الذي يمكن أن يصفح عنه الصادق سمل؟

الشهيد يُعتبر "ملكية عمومية" للثورة، ينبغي معالجة معضلة "الملكية العمومية" وتفكيكها لأن وضعية الملكية تُحيل الشهيد إلى بضاعة سياسية لا أكثر ضمن اقتصاد طفيلي

يحدثنا دريدا وبإشارة من ليفيناسإلى أن الصفح يتخذ دومًا وضعية "وجهًا لوجه" إذًا يجب أن تتم عملية الصفح ذاتها بين ذاتيتين "ذات الجاني" و"ذات المجني عليه"، أي أن طرفي الصفح لا بد من حضورهما، ولا يمكن لطرفٍ ثالث منح الصفح عِوضًا عن آخر. ألا يعني هذا إن الصفح أيضًا "بكونه صفحًا عن المستحيل" هو مستحيلٌ أيضًا، بسبب عدم وجود أحد طرفي الصفح في حالة "الشهيد عبد الرحمن سمل مثلًا". وعلينا أن نسأل بدورنا إذا كان جسد عبد الرحمن هو غائب بالفعل، فما الذي يصفح عنه الصادق سمل؟

اقرأ/ي أيضًا: الصادق سمل والصفح.. هل من عدالة؟

تبدو المعضلة بدون حل، لكن قبل التفكير فيها علينا أن نحذر من معاملة الصفح كمشكل قانوني-سياسي، إن الصفح كمفهوم متجاوز للحيز القانوني والسياسي، إنه مفهومٌ يُعلِّق سؤال "العدالة القانونية" ويطرح إشكالياته بطريقة قاسية، لأن ما ينبني عليه القانون هو مفهوم الحق، ويبدو أن القانون قد اختزل كل المشكل الوجودي للإنسان في سياسة الحقوق أو الملكية "ملكية النفس، ملكية الأرض، ملكية الآخر" وفي العقاب. يجب التنويه هنا إلى أن الصفح لا يقوم على ثنائية هيغل** "التملك والاغتراب"3، بل يقوم الصفح وبمفارقة عجيبة بتفكيك معنى وبنية مفهوم الحق نفسه عبر تجاوزه ثم طرح الصفح كمشكل إيتيقي-وجودي.

لكن هل للصادق سمل الحق في أن يصفح عن قاتل أبنه؟ وهل للشهيد من أبٍ أصلًا؟، إنها أسئلة ينبغي معالجتها قبل الشروع في التفكير حول المسألة. إن وضعية الشهيد هي بدورها معقدة بقدر ما تنطوي هي ذاتها على مشكلة الملكية؛ إذ أن الشهيد يُعتبر "ملكية عمومية" للثورة، قبل أن يكون ابنًا أو قريبًا لشخص، ولكن ينبغي معالجة معضلة "الملكية العمومية" وتفكيكها لأن وضعية الملكية تُحيل الشهيد إلى بضاعة سياسية لا أكثر ضمن اقتصاد طفيلي غير منتج، ومزاد بين بائعين ومشترين فقراء ليست لديهم أي سياسات للحقيقة غير المتاجرة باسم الشهداء؛ وأقترح بدلًا عن اعتبار الشهيد "ملكية عمومية"، أن نعامله كمشكل إنتماء؛ فالإنتماء مشكل وجودي، فمثلًا "نحن ننتمي إلى الأرض ولكن لا نملكها"، ويمكن أن ينتمي إلينا هذا الرمز أو ذاك ولكن نحن أيضًا لا نملكه، وعلينا قول الأمر في حالة الشهيد بهذه الطريقة "الشهيد ينتمي إلينا ولكنه ليس مُلكًا لنا وليس مُلكًا لأحد"، ومعنى الإنتماء هنا هو "الانتساب إلى جماعة أو رمزًا ما بمحض الإرادة"، فالشهيد انتمى إلينا بمحض إرادته وبكامل حريته، لذلك لا ينبغي علينا أن نملكه ولن نستطيع.

إن الانتماء مفهوم بلا تملك، يقول هايدغر في رسالته إلى حنة أرندت "لن أستطيع امتلاكك أبدًا، لكنك ستنتمين من الآن فصاعدًا إلى حياتي"4، وبما أن الشهيد ينتمي إلينا فإلى من ننتمي نحن أبناء وبنات ثورة ديسمبر؟ ولمن خرجنا؟ سأجعل من إجابتي بسيطة وهي إن الذي خرج "قد خرج لنفسه ومن موقعه كفرد قد مورس عليه أشكال عديدة من القهر الاقتصادي أو الذاتي أو الاجتماعي"، وإن الفرد منا قد خرج بعد أن فاضت نفسه من بؤس وأغلال السلطة على حياته لمدة (30) عامًا، وخرج لكي يقتطف ثمار حريته من بين حقول السلطة؛ إذًا نحن فضلنا أن ننتمي إلى "الحرية"؛ ومن المُجحف أن نعود مُكَبَلين بأغلال السلطة ومُكَبِلين الشهيد بالتملك، لأن نزعة التملك هي بالضد تمامًا من أي "انتماء حر".

 لذلك ينبغي علينا أن نجرد أنفسنا من كل نزعات التملك التي تُحيل الشهيد منا لشخص مملوك وغير حر، إن الشهيد حرٌ منا أيضًا وإن كان دمه ينتمي إلينا، وإن كان أيضًا بالنسبة إلينا "قد سُفِح من أجل مستقبلنا"؛ لم يكن الشهيد يقايض دمه بشيء، بل هو أعطانا له هكذا، بلا مقابل؛ ونحن الذين نكتب بدمه ما نريد، فإما نكتب بدمه يليق وإما نصمت.

اقرأ/ي أيضًا: الشهيد يلحم أبعادنا ويكتبنا بالدم

يضعنا سمل في طريق التفكير بلا نهاية حين كتب "ولأن دمك صار رمزًا للآخرين فإن فيه ما يخصني أكثر" فوفقًا لسمل قد تحول أبنه الشهيد إلى "رمز" داخل انتماء معين، ويمكننا أخذ الرمز بمعنى الأيقونة في مقابل الصنم، يعرف ماريون*** الصنم بكونه "مرآة"5؛ أي إنه مرآة تعكس حدود البشري منا، ويخبرنا أن نظر البشري محدود، فالصنم-الرمز يحيل إلى الماضي، ويرد إلينا نظرنا البشري في صورة مقصدنا ومدى هذا المقصد، وفي حالة الحديث عن الشهيد وعلاقة الناس به، يُطرح الشهيد كصنم ومرآة نقف عندها ولا نتعداها؛ يتوقف الزمن في لحظة الماضي وجرحنا. 

في المقابل توجد الأيقونة التي "تفرض على النظر أن يتخطى حدود نفسه"6؛ الرمز-الأيقونة علامة لا مرئية تتخطى نفسها ومعناها، وهذا ما فعله سمل بالتحديد فقد تخطى جرحه الشخصي وبدأ في مداواة جراحنا، ولكن تظهر جراحنا دومًا كأصنام تردنا إلى أنفسنا؛ جراحنا ما زالت تفكر في الموت "الماضي"، أما سمل فإنه يفكر في المستقبل ويريد أن يداوي جراح القادمين.

 سمل وبكل القوة التي يمكن أن يمتلكها بشري ما، يريد أن يصنع من ذاكرته المكلومة مستقبلًا جديدًا، ذاكرة لا شخصية مع أبنه، ذاكرة ستظل وثيقة لكل القادمين

نعود إلى السؤال المركزي لمقالنا عن ماذا يصفح الصادق سمل؟ هل عن قتل أبنه؟ إن الإجابة هي معقدة أيضًا ولكن بالرجوع إلى الخلف قليلًا نجد أننا قد أجبنا على أن الصفح يتطلب وجود الجاني والمجني عليه، وبما أن الشهيد عبد الرحمن صار غير موجودًا، فلا يمكن لأحد الصفح عن قتله بدلًا عنه، وأكدنا أيضًا على أن الشهيد ليس مُلكًا لأحد، وإن أردنا ذلك فعلينا أيضًا أن نقاوم بإرادة مضادة تكف يدها عن أي نزعة تملك؛ إذًا عن ماذا يمكن أن يصفح سمل؟ وأين يعمل الصفح كمفهوم هنا؟

يعمل الصفح هنا في مقام الجرح؛ الصادق سمل لا يصفح عن قتل أبنه لأنه ليس هو ولا يمتلكه، بل هو ينتمي إليه، إنه يصفح عن جرحه الشخصي، يصفح عن ما سببه القاتل من جرح له، وإن الجرح يمكن أن يلتئم ولكن لا يُنسى، ما تبقى لسمل أثر الجرح في ذاكرته المكثفة بلحظاته بأبنه، إنه يفتقد أبنه "الذي يخصه أكثر"، أبنه الذي ما عاد موجودًا، إنه يفتقد تلك اللحظات التي لا يمكن أن تعود؛ إن سمل يتقبل وبكل القوة الموجودة هذه المحنة، ويعلم جيدًا أن الماضي لا يمكن أن يعود إلا على شكل ومضات جميلة ومأساوية من الذاكرة، وأن هذا الماضي لا مستقبل له، ليس هنالك من لحظات قادمة تحيي هذا الماضي وتكثف الذاكرة، ولكن سمل وبكل القوة التي يمكن أن يمتلكها بشري ما، يريد أن يصنع من ذاكرته المكلومة مستقبلًا جديدًا، ذاكرة لا شخصية مع أبنه، ذاكرة ستظل وثيقة لكل القادمين في المستقبل.

ختامًا يقول سمل:

"فالدم ليس ما نراه مادة حمراء بل هو الذي ينسج كامل شبكة العلاقات الإنسانية، وإنه حين يُسفح يموت كل الناس، هذا ما علمني له موتك الجميل"  

المراجع والهوامش:

*ايمانويل ليفيناس (1906-1995) فيلسوف  فرنسي من كتبه "الكلية واللاتناهي"

**هيغل، فيلسوف ألماني (1770-1831) من كتبه "أصول فلسفة الحق" و"فينومنيولوجيا الروح"

***جان لوك ماريون، فيلسوف فرنسي يدرس الآن بجامعة شيكاغو، من كتبه "الصنم والمسافة" و"ظاهرة الحب، ستة تأملات"

(1) "الصفح" جاك دريدا، ترجمة: مصطفى العارف – عبد الرحيم نور الدين، منشورات المتوسط، ص43

(2) أنظر هيغل في كتابه "أصول فلسفة الحق" ترجمة وتقديم: إمام عبد الفتاح، دار التنوير الجزء الأول المعنون بـ "الحق المجرد"

(3) "رسائل حنة آرندت ومارتين هيدغر 1925-1975"، ترجمة وتعريب: حميد شلهب، ص41

(4) "الإيمان الحر أو ما بعد الملة"، د. فتحي المسكيني، ص274

(5) "الإيمان الحر أو ما بعد الملة"، د. فتحي المسكيني، ص277

اقرأ/ي أيضًا:

ديسمبر الجليل.. تأويلية المكان وجماليات المقاومة

الحياة الأخرى لشهداء الثورة