21-سبتمبر-2022
شلل الكتابة

(Writers)

عندما يضل الكاتب درب الكتابة، فإنه لا يواجه خطر الاهتزاز فحسب؛ بل إن قدرته على التفكير تصبح معطوبة كليًا، خاصةً أولئك الذين يختارون فعل الكتابة على بقية السبل التعبيرية، هذا الحظر القسري عن التعبير الذي يواجه الكتاب لا مفر منه، حيث أنه قفص يدخله المرء بدون وعي ويخرج منه كذلك بدون وعي. على كل حال هذا الأمر لا يقتصر على الكتاب فحسب؛ بل على كل ألوان الفن بصورة عامة.

هذه الحالة التي تعرف بـ"توقف الفن أو (Art Block) تواجه تمجيدًا في الآونة الأخيرة، يشبه الأمر التباهي بالفن عن طريق التطرق إلى القدرة على فقدانه أو محاولة تأطير العملية الإبداعية بصورة رومانسية أسطورية مثلما ناقشت في مقال سابق، وتطرقت وقتها إلى رأي غابرييل غارسيا ماركيز الذي نسف هذا المفهوم، وأكد على ضرورة اتزان الكاتب نفسيًا وجسديًا: "حتى تكون كاتبًا جيدًا فعليك أن تكون واعيًا تمامًا في كل لحظة من لحظات الكتابة وبصحة جيدة".

عندما يتصلب شلال التفكير الذي يولد الإبداع يصطدم الكاتب بفكرة كونه إنسانًا مرة أخرى

عندما يتصلب شلال التفكير الذي يولد الإبداع يصطدم الكاتب بفكرة كونه إنسانًا مرة أخرى، ويبدأ جلد الكاتب الذي كان يرتديه في الجفاف والتشقق رويدًا رويدًا، وهذا الأمر يولد الكثير من الأحاسيس غير المريحة، فيبدأ معظم الكتاب في مقارعة هذا الشعور ومحاولة الخروج من هذه القوقعة عن طريق محاولة استدعاء الكتابة بشتى الطرق، فينتهي بالأمر وهو يزداد سوءًا، إذًا كيف يمكن التعامل مع هذا الموقف؟

قبل أن يرحل الكاتب الأمريكي ويليام زينسر عن عمر (92) عامًا، كان قد أنتج العديد من المؤلفات التي تساعد في عملية الكتابة عن طريق الإرشاد والتوجيه، مثل كتابه ذائع الصيت "حول الكتابة جيدًا" الذي قال فيه:"الكتابة عمل شاق، الجملة الواضحة ليست مصادفة. يتشكل عدد قليل جدًّا من الجُمل بشكل صحيح في المرة الأولى وحتى في المرة الثالثة. تذكر هذا في لحظات اليأس. إذا وجدت الكتابة عملًا شاقًّا، فأنت على الطريق الصحيح".

تبرر كلمات زينسر الإشكال الواقع على كاهل الكاتب بقوله إنها فعل شاق وتحتاج للكثير من الجهد، بكلمات أخرى؛ الأفعال المرهقة غالبًا ما تحتاج أوقات للراحة. على سبيل المثال يلجأ لاعبو الرياضة لاستشفاء عضلاتهم باستخدام الثلج، ومن نفس المنطلق لا بد للكتاب أن يأخذوا قسطًا من الراحة حتى تجد أذهانهم قدرتها على خلق الإبداع مرة أخرى.

https://t.me/ultrasudan

أريدك الآن أن تتخيل فيلًا عملاقًا ورديّ اللون، والآن أريدك ألا تفكر فيه على الإطلاق، هل نجحت في إيصال ما أريد قوله؟ إذا لم يكن الأمر كذلك فإن محاولة التغلب على بعض الأشياء تساوي الخسارة المطلقة. لا يمكنك إخراج ذاك الفيل عن عقلك دون التفكير في خرطومه الوردي وكذلك لن تستطيع الكتابة إذا واصلت التفكير في وجود حالة تمنعك عن الكتابة مثل الـ (Art Block)، بكلمات أخرى؛ لا تشترِ الوهم. لكن وعلى النقيض تمامًا أجد الكتابة نشاطًا يستهلك المرء في أحيان كثيرة، كل فكرة لا بد أن يكون خلفها جهد مباشر أو دون مباشر، لكن الثيمة العامة للكتابة هي أنها مرهقة. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل يمكنني القول إنها تؤدي أحيانًا إلى تآكل الروح. لست أريد هنا ترويج رومانسية جديدة للكتابة، لكنني أرغب أن أقول أن الكتابة تأكل روح الكاتب لتهديه أرواحًا عديدة أخرى؛ لذلك فإن هبة كهذه لا يمكن أن تكون مجانية على الإطلاق، كما يقول جلال الدين الرومي:"ليسطع النور في أعماقك، يجب أن يحترق شيء فيك".

في مقابلته التلفزيونية الشهيرة "الضياع - The Lost"، الممثل ومحترف الفنون القتالية الراحل بروس لي، نجح في إرساء نصيحة يمكن إسقاطها على كافة المواقف الحياتية حيث قال:"أفرغ دماغك، كن بلا شكل، بلا هيأة، مثل المياه؛ عندما تضع المياه بداخل كوب، فإنها تصبح الكوب، وعندما تضعها في الوعاء، تصبح الوعاء. المياه يمكن أن تتحطم ويمكن أن تتدفق؛ كن مثل المياه يا صديقي".

إذا لم تستطع الكتابة فلا تكتب، الأمر بسيط ولا يقبل المزايدة أو العناد

هذه الفلسفة الفريدة التي يقصد بها بروس لي ضرورة التأقلم، يمكن تطبيقها في حالة عدم القدرة على التعبير أو الكتابة بمحاولة التأقلم فحسب، دون التطلع إلى شيء أكثر من ذلك. إذا لم تستطع الكتابة فلا تكتب، الأمر بسيط ولا يقبل المزايدة أو العناد، لكن عندما تتمكن أخيرًا من الكتابة فلا تنسَ كلمات زيسنر الأخيرة: "لا تصدق أبدًا أنك ستكتب شيئًا نهائيًّا، قرر بأي جانبٍ من موضوعك ستبدأ، واحرص على تقديمه بالشكل الأفضل، وتوقف".