عندما وقفت الفنانة عائشة الفلاتية وسط محطة السكة حديد بالعاصمة الخرطوم، وصدحت بأغنية "يجو عايدين .. يجو عايدين بالمدرع والمكسيم"، وسط المئات من جنود قوات دفاع السودان الذين كانوا يستعدون للذهاب إلى مدينة كرن الإريترية التي وقتها تدور فيها معارك الحرب العالمية الثانية، لم تدرِ الفلاتية وقتها أنها تنقل الأغاني المرتبطة بالحرب من طابعها القبلي لجانبها المؤسسي.
باحث في مجال الفنون والثقافة: الفن عمومًا يدعو للسلام ويحرض عليه، وبحكم طبيعته كان داعمًا للسلام والعدالة على مر التاريخ حتى في بعض الحروب
تاريخ طويل فصل بين أغاني عائشة الفلاتية الحماسية التي خلدت في وجدان السودانيين، ليخرج بعدها المستعمر ويحكم السودانيون أنفسهم، ويبدأون بعدها في الاقتتال فيما بينهم، لتتحول الأغاني من داعمة للتحرير والاستقلال، لمرحلة أغنية "كروزر الحوامة.. محبوبة الدعامة" في سردية حرب 15 نيسان/أبريل 2023، التي أحدثت انقسامات حتى على مستوى الأغنيات، فظهرت أغاني الحماسة التي تدعم الجيش السوداني، وفي الجانب الآخر تعرف السودانيون على نوعية غنائية وإيقاعية مرتبطة بالمجتمعات التي خرجت منها قوات الدعم السريع.
الفن والحرب
يقول الباحث في مجال الفنون والثقافة، السر السيد، إن الفن عمومًا يدعو للسلام ويحرض عليه، وبحكم طبيعته كان داعمًا للسلام والعدالة على مر التاريخ حتى في بعض الحروب، وحين يدعم حروب التحرير والاستقلال كان يورد تعبيرات تحث على الحرية ورد الظلم، وليس على الحرب بين مكونات الشعب الواحد.
يضيف السيد لـ"الترا سودان"، أن أغاني الحرب الحالية ترتبط في الجانب الداعم للجيش بتكوين المجتمع، وتاريخيًا ارتبطت به أغنيات الحماسة، والتي أنتجت سابقًا خلال الحروبات القبلية في مختلف أنحاء السودان حتى في شمال السودان، حيث يعتقد الكثيرون عدم وجود صراعات قبلية، ولكن بالرجوع إلى الوراء سنجد مثل هذه الصراعات كانت منتشرة في مناطق نهر النيل، والكثير من الأغاني الحماسية ظهرت وقتها وتردد اليوم باعتبارها أغاني حرب.
وأردف: "الحرب الأخيرة أظهرت انقسامًا في مختلف الفئات، ومنهم المبدعون عامة والفنانون بشكلهم التقليدي أو الشعبي مثل الحكامات، بجانب أغاني الحماسة". ويشير السر السيد إلى أن أغلب من ينتج أغاني الحرب في الطرفين غير مدركين لطبيعة الحرب الحالية، وتأثيراتها على البلاد، وصورة الوطن الكبير غائبة فيما بينهم.
أغاني الجيش وأغاني الدعم السريع
يرجع السر السيد الأغاني الحربية الداعمة للجيش التي تسيطر عليها نوعية أغاني الحماسة المرتبطة بالدولة المركزية القديمة، ولكن الجديد والمختلف والمرتبط بفكرة الحرب وجوانبها المخفية ظهور الأغاني الداعمة للدعم السريع التي أظهرت إيقاعات وألحان ومفردات لم تكن رائجة، بجانب أنماط موسيقية وفنية ولحنية مرتبطة بالثقافة التي يستند إليها الدعم السريع، وهو لحد كبير العناصر المهيمنة فيه ما يعرف بـ"عرب دارفور" فظهرت مفردات، رغم أنها عربية وأقرب للفصحى، لكن الناس كانت مندهشة بها، بجانب ظهور رقصات وألحان وإيقاعات هذه المجموعات.
وقال الباحث في مجال الفنون والثقافة، إن الحرب لديها أدواتها الثقافية، وفي جزء منها الأغنيات الحماسية الداعمة للجيش مثل لونية أغنيات ندى القلعة، والدعم السريع يستنهض كلًا ثقافيًا كامنًا ولحد كبير جدًا كان مقموعًا، والأغاني المرتبطة به أكثر تحريرية وحداثة ومختلفة، وتخترق القوالب القديمة لأغاني الحماسة التقليدية. وأضاف: "نحن أمام حرب بقدر ما فيها من قتل، لكن لديها جانب ثقافي، والدعم السريع أحدث لونية جديدة مرتبطة به من الأغاني استطاع مع كل انتصار أو خسارة أن يولد جزءًا من ثقافته من الأغاني والرقصات".
ارتباط الفن بالحرب يصفه السيد بالأمر المعقد بشكل بنيوي في طبيعتها، وقد تتوقف الحرب، ولكن الأدب الذي تولد خلالها لن يتوقف؛ لأن أي حرب يكون لديها بعد ثقافي.
مقاتل الدعم السريع يقاتل من خلفيات سياسية يقدمها، مثل استرداد المسار الانتقالي كما يدّعون، وذلك يأتي من منظور قبلي وخلفيات فيها العادات والتقاليد والدين، وفي الجانب الآخر يقاتل الجيش من منظور سياسي باعتبار قوات الدعم السريع متمردة على الدولة، ويريد إحلال الأمن، ويعبر عن الثقافة المركزية.
ويضيف السيد أنه خلال هذه الحرب أيضًا عادات الأناشيد المرتبطة بالتيار الإسلامي الذي يقاتل ضمن صفوف الجيش السوداني بما يعرف بكتيبة "البراء بن مالك"، والتي استعادت ذاكرة حرب الجنوب والأناشيد الجهادية المرتبطة بها، يقول السر السيد: "الإسلاميون يقاتلون بالمنظور المركزي المتماهي مع الدولة، وأناشيدهم مرتبطة بأدبيات الحركة الإسلامية، ونوع أهازيجهم يعد اختراقًا لغناء الحماسة المركزي القديم الذي تراجع أمام الأغاني المرتبطة بالدعم السريع وأهازيج الإسلاميين، بجانب تراجع الغناء الوطني المرتبط بالثورات في السودان"، حد قوله.
دعم السلام
فيما يقول الفنان مصطفى بكري إن الفن في ظروف الحرب رسالته يعالج ويحل المشكلات، وليس المساعدة على زيادتها. وأضاف في حديث لـ"الترا سودان": "نوع الفن المرتبط بدعم الحرب تاريخيًا عمل على تأجيج الصراعات في مناطق مختلفة من السودان، وبعض الفنون الشعبية التي لها جوانب إيجابية في الثقافة والتنوع للقبائل، مثل الحكامات في دارفور، والآن تؤجج الحروبات بتحميس الشباب على القتال، وفي مناطق وسط السودان أيضًا أغاني الحماسة تسهم في مزيد من القتل بين أبناء الوطن الواحد.
وأردف الفنان مصطفى بكري: "المشتغلون بالفنون الذين يدعمون الحرب الحالية يجب ألا يطلق عليهم فنانين". ومضى بالقول: "لا يمكن لشخص وظيفته الإبداع وإدخال البهجة والسرور من خلال الأغاني والموسيقى أن يعمل على تأجيج الحرب والموت - هذا بعيد من الفنون".
وأكد أن دور الفنون خلال الحروب أن تجد الحلول وتعالج الصدمات، وتخفف الظروف التي يعيش فيها الشعب السوداني، وإنتاج فن من خلال الأغاني يقوي الوحدة الوطنية وينبذ القبلية. وأضاف: "استخدام الفن مثل البندقية سيزيد الحرب والدمار، وأنا ضد الحرب، ولا أقف مع أي طرف"، بحسب إفادة بكري لـ"الترا سودان".
تراجع المارشات
في الماضي كان يشتهر الجيش السوداني بالمارشات العسكرية المميزة، بجانب سلاح الموسيقى الذي ضم العديد من المطربين الكبار، حيث يقسم الرائد (م) علي يعقوب في كتابه عن تاريخ المارشات العسكرية، أن المارش ينقسم لنوع يتكون من ألحان بجانب كلمات، وآخر يكون معتمدًا على الموسيقى.
الرائد معاش علي يعقوب لـ"الترا سودان": سلاح الموسيقى يعد من أعرق أفرع الجيش منذ تأسيس قوة دفاع السودان
ويقول الرائد معاش علي يعقوب لـ"الترا سودان"، إن سلاح الموسيقى يعد من أعرق أفرع الجيش منذ تأسيس قوة دفاع السودان، حيث عمل الإنجليز على تأسيس فرقة موسيقى يتم فيها تدريب الشباب، وبعدها يُعْطَوْن رتبًا عسكرية. ويضيف: "مع انتشار الموسيقى الحديثة تراجع تأثير المارشات العسكرية التي كان لها شعبية، حيث تجْلَب الفرق العسكرية حتى في المناسبات الاجتماعية مثل الزواج والتخريج وغيره".
وزاد: الملحن أحمد مرجان يعد من أشهر ملحني المارشات العسكرية التي ما تزال تتداول حتى خلال الحرب الأخيرة، ومن أشهرها "مارش علي دينار، وود الشريف".