في "حفنة تمر" تختتم القصة باعتراف السارد بجهله السبب الذي دفعه إلى إدخال أصبعيه في حلقه ليتقيأ التمر.
هذه الخاتمة تعرفنا على واحدة من أشكال القالب القصصي؛ إذ تكون القصة هي النهاية، وكل ما يأتي قبل هذه النهاية معنيٌّ بتجهيز الأرضية التي تنبت فيها الحكاية وتنمو، من ثم لتظل من السهل الشاسع والمقفر، فقط الجزء.
لا يتم الكشف عن الموضوع في "حفنة تمر" إلا بالطريقة التي يُشار فيها إلى الأب من قِبل السارد، إشارةً ستظهر مبكرًا في مجرى السرد
وبينما تنشغل الرواية في وصف وتشييد عالم متكامل تنقله إلى القارئ مستثمرةً عامل الزمن الذي تستغرقه لإنفاذ شبهها بالواقع - يكون القص في فحص شظايا المرآة التي أبصر بها الإنسان وجهًا من أوجه وجوده، مستعيرةً الشعرية بسبب بنيتها التي لا تحتمل التوسع. فتبدو القصة كتأمل، وبالنسبة إلى ملامح العالم الذى انتهى إلى التشظي، ذلك الذي تعمد الرواية إلى حفظ تاريخه وتدوينه اعتمادًا على خرائط جسده المهشم، تتجه القصة إلى القبض على لحظات تصدعه بالذات.
بعد الحادثة التي تقع في رواية "بندرشاه" نتيجة فقدان شعوره بالزمان والمكان، يعود الراوي إلى قصة جرت بينه وجده، ليؤكد معناها المبتنى لديه. وتأخذ هذه القصة عند الراوي موضعها في بنى عالمه المتماسك كرمز للعلاقة بين الأجيال، يقوم باستدعائها نتيجة حاجة إلى إعادة نظر في هذا التموضع بغية تحسس موقعه من الزمان والمكان.
من هذا الاستخدام للحكاية تظهر الحدود المتقاطعة والمتوازية لكل من القصة والرواية؛ فلنفس الموضوع الذي تعالجه قصة "نخلة على الجدول" نجده في رواية "بندرشاه/ضو البيت" ينتظم بالسرد متحركًا عبر الزمن ليشكّل عالمًا كاملًا.
لا يتم الكشف عن الموضوع في "حفنة تمر" إلا بالطريقة التي يُشار فيها إلى الأب من قِبل السارد، إشارةً ستظهر مبكرًا في مجرى السرد (ما يعني أنه سيتم استخدامها في إنتاج خطاب القصة) في أثناء حديث السارد عن نفسه، ومحاولته العابثة لتحديد عمره عن طريق عالم الجَد. وكما يُستدل على شكل اليد عن طريق ظلها الذي يتشكل على الحائط، يحاول السارد تحديد عمره حينها، فيشبه فشلنا في تبيّن الملامح التي ستبدو عليها هذه اليد حقيقة طالما أننا سنقنع من نظرتنا بالظلال على الحائط.
كل هذا والسارد لا يملك ما يقدمه لنا غير هذه الصورة التي تتشكل على الجدار، لكنه لا ينسى تنبيهنا (بنفس طبيعة السارد الطفل) عن طريق الاستغراب: "العجيب أنني لم أكن أخرج أبدًا مع أبي، لكن جدي يأخذني معه حيث ذهب".
ويتم كشف هذا الموضوع في العمل الروائي "بندرشاه" بالإشارات فقط، لكنه كذلك ينتظم عبر الزمن في سلسلة من الأسباب والدوافع التي تحرك الأحداث وتشكلها، فتعطي من هذا الموضوع شكلًا نهائيًا للعالم الروائي، كالنهر يشهر إصراره لامعًا تحت السماء ويتسرب إلى السواقي والحقول. وعندما ينبت الزرع، ويخضر الشجر ويثمر؛ أي عندما يخرج "مريود" من صالون جد "محيميد" بينما يرنو إليه "حمد ود حليمة" كما يرنو إلى ملاك هابط من السماء؛ أي عندما يكون النهر -بطريقةٍ ما- في لون الندى ونغمة غناء العصافير وطعم الفاكهة - يكون ذلك الموضوع الذي يلفّ وجود الأب بإحكام حتى لا يبدو منه عند الإشارة إليه إلا هذا الغياب "أحدوثة عن كون الأب ضحية ابنه وأبيه".
نحن لا ندرك عالم السارد إلا عن طريق مقابلته بعالم الجد الكبير والمبهم، وهذه هي الطريقة التي أحببنا بها مجالسة أجدادنا، طريقة القص
ليس هناك متسع من الوقت في القصة لكي تنسج ما يشبه الواقع وتهيئ الخيالات المتوحدة لتحتضن الأسطورة، كما ليس هناك وقت لاستدعاء التاريخ ليشرح هذا الغياب الأبوي، بينما في الرواية يخوض السارد كل تلك الأحداث التي -وبعد زمن طويل- لا يكون لأمره منها سوى التأمل في هذا "الغياب" و"الحضور" الذي يتبادله الوجود بين ثنياته. فوصف ذلك هو همّ الرواية، واقعية بما يكفي لتحررها من جنس الملحمة، بينما توجّه القصة -ببنيتها المختصرة- همومها في الإمساك بتلك اللحظة، وإمعان التأمل فيها.
تأتي هذه اللحظة في قصة "حفنة تمر"؛ فالسارد لا يعرف لماذا تقيأ حبات التمر، بينما ندركه نحن بواسطة الخطاب المتقدم على القصة، الخطاب الذي لا يأتي إلا ككلٍّ مترابط هدفه الإعلان عن الحكاية والكشف عن طبيعة الصراع الذي يخوضه البطل، بما أمكننا التقاطه بوضوح من السرد الذي لا يقول إلا عبر التدرج في الحكاية. وفي الوقت نفسه، فإن كل ما يقوله، يأخذ موقعه من الأهمية للحكاية، ويخضع لمنطق الخطاب القصصي المتقدم؛ فالسارد الذي لا يعرف عمره (وهو الطبيعي لاستذكار حدث في الطفولة) في محاولته العابثة تلك للاستذكار، سيقوم بإعطائنا شكلًا لطبيعة عالمه المجازي وكيفية تشكله التي لا يمكن إدراكها إلا بمتابعة الخطوات التي سيقودنا عبرها، وبواسطة المقابلات التي تنتظم على الجانبين -جانب الجد وجانب الحفيد- فتكشف عن الطريق الذي تسلكه الحكاية إلى نهايتها.
فنحن لا ندرك عالم السارد إلا عن طريق مقابلته بعالم الجد الكبير والمبهم، وهذه هي الطريقة التي أحببنا بها مجالسة أجدادنا، طريقة القص؛ فعوالمنا المجازية تنشأ عندها على امتداد عوالمهم القديمة، خلفيتها أكثر الأصوات التي يمكن أن نسمعها خبرة إنسانية.
ولا تنتهي مهمة السرد المحكَم في الكشف عن عالم السارد المجازي، فتصف المعركة التي يخوضها هذا المجاز. وبمقابلة السارد في قصة "نخلة على الجدول" براوي "بندرشاه"، يمكننا رؤية طريق النجاة الذي يسلكه الأول. ففي "بندرشاه" ينتهي "مريود" نهايةً لا تصلح إلا كأسطورة بسبب عدم امتلاكه أيّ مجاز! وذلك بسبب سطوة وجود الجد المكثف، السطوة التي لا تسمح لشخصية "مريود" بالنمو؛ إذ أن وجوده الخالص لم يكن إلا صورةً عن جده.
بينما في قصة "حفنة تمر" لا يوجد عالم الجد إلا كما توجد حاجة اللون إلى خلفية يظهر عليها، إذ يظل النهر العالم المجازي للسارد، والخارج عن سلطة الجد، وحيث يمكن تمييزنا لعالمين منفصلين، عالم الحفيد وعالم الجد: "نعم كنت أحب المسجد، وكنت أيضًا أحب النهر".
وينتهي الجد نفسه إلى داخل هذا التخييل الشاسع: "كنتُ أجلس على الحافة وأتأمل الشاطئ الذي ينحني في الشرق ويختبئ وراء غابة كثيفة من شجر الطلح. كنت أحب ذلك. كنت أسرح بخيالي وأتصوّر قبيلة من العمالقة يعيشون وراء تلك الغابة.. قوم طوال فحال لهم لحى بيضاء وأُنوف حادة مثل أُنوف جدي". على عكس "مريود" الذي كان لا يفارق جده، ومن أول يوم يظل يسبح رفقته في النهر!
يتمدد السارد في مخيلته، ويَظهر المجاز الذي تصنعه الشخصية لنفسها، بينما يسير خطاب القصة نحو هدفه في الانزياح والكشف عن الحكاية المنتَجة بداخله. كل ذلك يتم بواسطة وعي تبرر له براءة طفولية دقة الملاحظة، وبالتأكيد صدقها مع الذات يجنّبها الوقوع في أي من فخاخ التكبر التي ينصبها التمييز، كما أنه يخبرنا الكثير غير الملاحظ عن تعقيد العلاقة بين الأبناء والآباء، كما في تبرير السارد مثلًا لتمييزه عن بقية الأحفاد، وأنه كان فقط يعرف متى كان يريده الجد أن يضحك ومتى أراده أن يصمت!
إن نتيجة هذا التمدد المحكم للسرد تظهر في أننا لا نشكك -طوال زمن السرد- في هوية السارد؛ إذ نأت عبقرية الطيب صالح عن التأثير الذي يمارسه المؤلف أحيانًا من دون وعي منه على صوت السارد، للدرجة التي نفكر فيها بأن هذا الإتقان يصبغ على السرد صفة الحذر. وعندما يسأل الحفيد جده عن طبيعة مشاعر الأخير تجاه مسعود، يأتي التساؤل مشفوعًا بما ستتيحه الظنون من مساحة "أظنك لا تحب جارنا مسعود" موافقًا في الوقت نفسه لما نعرفه عن طبيعة الحفيد والعلاقة التي تربطه بجده.
وعندما يسرد الجد وجهة نظره التي هي بمثابة وجهة النظر الاجتماعية، يقوم السارد بإدخالها في مقابلة مع مجازه الشخصي؛ إذ لا يهمه دوافع الجد في الاستحواذ على الأرض، فهي ليست بالنسبة إليه إلا مسرحًا لأحلامه بغض النظر عن مالكها، وما يسوقه الجد كممثل لنظام اجتماعي لا يأخذ برسن العالم المجازي للطفل، بل بالعكس، يثير فيه خوفًا ما، وتدفع دفق شعوراته بالعاطفة فيتمنى لو أن جده لا يشتري بقية الأرض. ورغم ما يحيله هذا التمني إلى قلة حيلة السارد (وهو ما يبدو منطقيًا لطفل) إلا أنه لا يمنع عالمه المجازي من أن يكون ندًا لهذا الواقع الذي يمثله عالم الجد.
لا تحتمل القصة الوزن الزائد؛ فوجود كل شخصية هو من الأهمية بمنزلة الحكاية نفسها. فيأتي "مسعود" كآخر مختلف عن عالم الجد؛ كي يتيح مقابلة جديدة، وفي تذكر السارد "غناء مسعود وصوته الجميل وضحكته القوية التي تشبه صوت الماء المدلوق" يكتشف أن جده "لم يكن يضحك أبدًا".
لا تحتمل القصة الوزن الزائد؛ فوجود كل شخصية هو من الأهمية بمنزلة الحكاية نفسها
وبهذه المقابلات، يتجه السارد بواسطة الشعور وحده إلى تشكيل عالمه المجازي. وعندما يقرّ بجهله السبب الذي يدفعه إلى تقيؤ التمر، وندركه نحن، فلأن ما يمكننا به تبرير فعله وقتها هو خارج عن المكان الوحيد الذي يمكن فيه للسارد أن يوجد ويتفاعل أو يقوم بفعل ما (العالم المجازي)، ومن ثم سيصبح في حاجة إلى إتيان فعلٍ داخل عالمه المجازي، لكنه يجد أنه لا يملك إلا الشعور الذي سيشبّهه وقتها بحمله سرًا يود التخلص منه؛ إنه شعورٌ مبهَم (السِّر)، لا يمكن تفهمه (البوح)، إلا في العالم المجازي خاصة السارد "حافة النهر قريبًا من منحناه وراء غابة الطلح".