27-يوليو-2022
قلم على ورقة

الكتابة الرومانسية عند الشعراء والأدباء

"إذا ما الأديب عاش هنيئًا ذات يوم؛ فلم يكن بالأديبِ"، لم أقع في حب هذه الجملة عندما سمعتها في المرة الأولى على لسان الشاعر الراحل محمود أبوبكر؛ ربما لم تعجبني لأنني لا أحبذ تنميط الأدباء والكتّاب أو ربما لم ترقني لأني أخذت نقيض كلمة الهناء -شقاء- فحسب ولم أمضغ المعنى جيدًا.

 الزاهي في خدرو ليست مجرد أغنية أداها أحمد المصطفى بإجادة؛ لكنها حكاية شاعر ترك حضن زوجته إلى براثن الحرب

ثم حدث أن تيقنت من وجهة نظري عندما اصطدمت برأي الكاتب العظيم غابرييل غارسيا ماركيز الذي نسف هذا المفهوم النمطي للكتابة بقوله: "حتى تكون كاتبًا جيدًا فعليك أن تكون واعيًا تمامًا في كل لحظة من لحظات الكتابة وبصحة جيدة".

 في تلك الأثناء التي كنت فيها أسيرًا تائهًا بداخل صراع اعتيادية الكتابة/ الأدب وميتافيزيقيتها، شغّل صديقي أغنية "في انتظار الحب" (Waiting For Love) للسويدي الراحل آفيتشي (Avicii) يتغنى فيها بـ"إذا كان هنالك حب في هذه الحياة فلن تكون هنالك عوائق". لم يكن وقع هذه الكلمات عليّ عاديًا؛ لأنني -كما ذكرت- كنت حبيسًا لرأي ماركيز والصاغ محمود أبوبكر، كانت مثل كلمات مفتاحية توصلك إلى الإجابة التي تسعى إليها بثبات، مثل محارب علم للتو أنه قد شق الشريان السباتي لخصمه.

https://t.me/ultrasudan

كان هذا الحب المقصود هو ذاته الذي دفع الشاعر الصاغ محمود أبوبكر إلى كتابة أشهر أغانيه وأكثرها صدقًا؛ فالزاهي في خدرو ليست مجرد أغنية أداها أحمد المصطفى بإجادة؛ لكنها حكاية شاعر ترك حضن زوجته إلى براثن الحرب.

أصل الحكاية

في أربعينات القرن المنصرم كان الجيش السوداني يسمى قوة الدفاع السودانية (SDF) وهي قوة مجندة محليًا بقيادة بريطانية تشكلت في عام 1925 لمساعدة الشرطة في حالة الاضطرابات المدنية، وللحفاظ على حدود السودان تحت الإدارة البريطانية. خلال الحرب العالمية الثانية، خدمت هذه القوة أيضًا خارج السودان في حملة شرق أفريقيا وفي حملة الصحراء الغربية رفقة جيش الحلفاء ضد ما كان يعرف بـ"دول المحور". كانت تسعى هذه القوة إلى الحد من تسرب الطليان للقارة الأفريقية وضمن تلك القوة كان محمود أبوبكر الذي ترك زوجته -قسرًا- وحيدة في اليوم الثالث من شهر العسل.

عبر القطار، كان هدف قوة الدفاع في ذلك الوقت أن تستقر بمنطقة كفرة في الصحراء الليبية، وسواء اتكأ الصاغ محمود على نافذة القاطرة ونظر عبر المفازة البرتقالية أو أن صور زوجته فاطمة كانت تحكم مخيلته؛ فإنه كتب أغنية (الزاهي في خدرو) تحت مؤثرات قوية وحب نقي.

زوجته فاطمة

 فاطمة محمد مدني، زوجة محمود تحدثت في لقاء منذ عدة سنوات عبر التلفزيون القومي عن زوجها الراحل. ذكرت فيه كم كان يحبها وكم كان داعمًا لها في مشاوير الدراسة، خصوصًا في عطبرة حيث دفعها إلى دراسة اللغة الإنجليزية مع زوجة رئيس المحلية وكان بريطاني الجنسية. وأظهرت امتنانها له بقولها "لم يكتب محمود شعرًا في سواي"، وأعربت عن فخرها بأنها -وحدها- ملهمته. كان الحوار ثريًا دعت فيه أيضًا إلى عدم تصدير صورة زوجها كـ"شاعر رومانسيّ" فحسب؛ فهو -بحد قولها- يمتلك قصائد وطنية قوية للغاية، وذكرت على سبيل المثال قصيدته ذائعة الصيت (صه يا كنار).

التنميط

بالعودة إلى حوار تنميط الكتاب والأدب بصفة عامة، نجد أن فاطمة نفسها قالت إنها تلقي الشعر عند الضرورة ولعلها كانت تقصد هنا الدافع سواء كان خفيًا أو مصرحًا به، مثلما قالت أنها كتبت القصيدة الآتية في لحظات خوف على زوجها من ويلات الغدر والحرب: "سمعنا همس ووشوشة، قايم الصباح وجاي العشاء، فارس أملنا المرتجى، الخاتين علينا كل الرجاء، قالولنا سافر للقاء، بقت قلوبنا معلقة، وعيونا مشلقة، مرفوعة لي رب السماء يرعاهو فارس الملتقى".

بدايات الصاغ

 الجدير بالذكر أن محمود نفسه كانت بدايته في الشعر ارتجالية. وورد في فيلم وثائقي مختصر عن حياته أن أول بيت نطق به كان تكريمًا لصديقه مصطفى أحمد الكمالي، عندما كان يدرس بكلية غوردون في العام 1932 فكتب: "بلال الريق في طيب المعاني.. فيا لك مصقعا ذرب اللسانِ".

عندما قاربت وردة مصطفى أبوبكر من الذبول وفيما تمضي روحه بحزم إلى نهايتها ومدفوعًا بأحاسيسه القوية، ربما وجدتُ خيطًا من معناه المختبئ لمّا قرأت له: "ويأيها القوم الذين ترفقوا كما زعموا بي حين عانيت دائي، إذا مت شقوا لي ضريحًا بغفرة من البيد لم تعرف سوى الطير غاشيا.. ويا طير إن ما جئت تروي رسالتي فأبصرت قبرًا قاصي البعد ثاويا فذلك قبري فابتدر فيه شاديًا وقف باكيًا في شاهديه مناجيا.. فإنك إن آسيتني في منيتي تجدني يوم البعث خلًا مواسيا.. وإنك إن جافيتني في منيتي فوا أسفي حتى الأغنُّ جفانيا، جفاني وما جافيته عن كلالةٍ ولكنه الموت المُشِتُّ طوانيا".

ربما رأي محمود حيال الأديب سديد، وربما قتال ماركيز لهذه الفكرة أيضًا صحيح، ولعل الأصح هو القليل من هذا وذاك، لكنني لن أؤيد أحدهما مطلقًا، سأكون مع هذا حينًا ومع الآخر في حينٍ آخر، لكنني سأذهب مع الحب دائمًا، فحيثما نجد الحب لن تكون هنالك عوائق.

النهايات

حين سئلت فاطمة عن الأغنية بعد عقود، تغيرت ملامحها وطلبت من الناس أن يتغنوا حتى لا ينسى أحد الصاغ

 في مساء السبت في 26 حزيران/ يونيو من العام 1971، غادرت روح محمود أبوبكر إلى عوالم أكثر خفة. وبعد وفاته بعدة عقود، وبعد أن تخطت فاطمة مدني خريفها الستين وحينما سألها أحدهم عن أغنية (الزاهي في خدرو)، تغيرت ملامحها برفق مثل اضطراب خفيف على سطح الماء وطلبت من الناس أن يتغنوا حتى لا ينسى أحد الصاغ محمود أبوبكر، زوجها الذي خطفته نيران كفرة.