20-أغسطس-2020

كجراي (ألترا سودان)

قليلون في تجربة الشعر السوداني، الذين تداخلت تجاربهم الشعرية، مع مواقفهم في الحياة، بالقدر الذي اتصفتْ به تجربة الشاعر محمد عثمان محمد صالح، الشهير بـ"كجراي". هي تجربة توزّعت بذات الفرادةِ، والأناقة، والإيمان، بين ميادين الأدب، والتعليم، والمقاومة. وهو ما أهّله ليكون شامةً وعلامةً في كل هذه الميادين. نتذكّره في شهر آب/أغسطس، الذي رحل فيه، قبل (22) عامًا، لكن ما تزال أجراسهُ الشعرية، والنضالية ترن، بذات قوتها وسلامة جِرسها.

"كجراي" تعني "المحارب" في لغة البجا، وقد بدأ حياته التعليمية بحفظ القرآن في الخلوة وهو في سن (14) عامًا

تقول السيرة الذاتية، للشاعر محمد عثمان محمد صالح، أنّه من مواليد مدينة القضارف بشرق السودان. لكن ما ذاع من اسمه هو كجراي، والتي تعني "المحارب" بلغة البجا. وتضيف السيرة أنّه بدأ تعليمه الأولي بحفظ القرآن الكريم بالخلوة، وهو في سن (14) عامًا. ثم انتقل فيما بعد لإتمام دراسته بالمعهد العلمي بأم درمان.

كجراي

اقرأ/ي أيضًا: أبوداؤود.. يا من كسانا شجون

قصة الاسم، "كجراي"، الذي اشتهر به بين الناس، مردّها إلى المفتش الإنجليزي الذي اعتقله، في شبابه الباكر، وبدايات تجربته في الكتابة والنضال لأجل الإنسانية ورفض الظلم. حيث تمت ترجمة واحدة من قصائده الرافضة للاستعمار للمفتش الإنجليزي، وكان فيها ما فيها من التحريض ضد الاستعمار، والدعوة لمقاومته.

فناده المفتش الإنجليزي ليسأله من اسمه فقال له: اسمي كجراي. ومنذ ذلك الحين ذاع صيته بهذا الاسم، الذي يعني في لغة البجا "المحارب أو المقاتل. ومن هناك التحق بمعهد بخت الرضا، ليتخرج معلمًا، حيث تنقل في عددٍ وافر من المدارس السودانية في المرحلتين التعليميتين الوسطى والثانوية.

إحدى أهم الوقائع التي شكّلت نقطة تحوّلٍ في حيات كجراي، كانت عندما أصدر المفتش البريطاني بالقضارف أمرًا بإضرام النار في قريتهم الصغيرة، عقابًا لهم على تهريبهم السلاح. وبالتالي احترق المتجر الصغير الذي كان يعمل فيه كجراي وإخوته. وكانت الحادثة بمثابة نقطة تحوّل بالنسبة لكجراي في كُره الاستعمار، ومنه انطلق في محاربته.

وتمتد السيرة الدسمة لكجراي، في تقدمه في ميدان سلك التعليم، حيث تلقى دراسات تأهيلية، حتى وصل درجة موجّه فني. على السياق الأدبي، ذاع صيت الشاعر كجراي، وهو الاسم المستعار الذي اختاره لنفسه، وبه نشر قصائده الأولى في الصحف والمجلات السودانية والعربية. بدأ النشر منذ العام 1948، أي قبل استقلال السودان بثمان سنوات. وتقول سيرته أنّ أول قصائده المنشورة كانت قصيدة السأم والأحلام الميتة، بمجلة الرائد الكويتية. وبعدها توالت قصائده.

أما في ميادين العمل الثقافي، فكجراي هو صاحب فكرة جمعية أولوس الأدبية بكسلا وأحد مؤسسيها، وكان معلمًا مشهودٌ له بالتميز. بجانب أنّه كان عضوًا باتحاد الأدباء السودانيين، وعضوًا برابطة أدباء كسلا. ولفترةٍ طويلةٍ، كان السكرتير العام لجماعة أولوس بمدينة كسلا.

 ومن آثاره الشعرية، أنّه أنتج أربعة دواوين شعرية، وهي الصمت والرماد، الليلُ عبر غابة النيون، في مرايا الحقول، وإرم ذات العماد. هذا بجانب قصائد كثيرة، وأعمال أدبية أخرى مثل ترجمته لرباعيات عمر الخيام، وخماسيات أبو شول، وهي عبارة عن قصص للأطفال.

اقرأ/ي أيضًا: كلية الموسيقى والدراما.. رحيل العمالقة وتساقط الأشجار

من المحطات المهمة في حياة الشاعر كجراي، اتصاله بالمقاومة الإرتيرية، وفي هذا يقول عنه جابر حسين مؤلف كتاب "كجراي: عاشق الحرية والقول الفصيح" إن الثورة الإرتيرية جزءُ من تكوين كجراي، إذ لا يوجد فاصل بين الانتماء السوداني والإرتيري، ويضيف حسين: "مرحلة أسمرا التي ذهب إليها بحثًا عن الحرية تختلف شعريًا عن مرحلة السودان فقد كان يحس بالقهر في السودان".

ويتبدى هذا الاتصال والإيمان بالمقاومة الإرتيرية، وبإرتيريا نفسها، في أشعاره:

"لي جذور هنا

لي جذور هناك

في ائتلاف السنا

واقفٌ كي أراك

فافتحي البابَ

لون الزمان تغيّر

وازدهر العشق في ليلة قمريّة

هذه شرفتي

هذه غرفتي

ها أنا أتساءلُ يا أسمرا

بنت من هذه الغادة الغجرية".

وقناعة كجراي برفض الظلم، ومقاومة الاستعمار، كانت واحدة من مداخله للإيمان بقضايا الشعب الإرتيري. وله اتصالٌ قوي بالمناضلين الإرتيريين، وكتب عيونًا من القصائد في محبة الإرتيريين وحثهم على المقاومة، وعدم الاستكانة للنعرات العنصرية ورفض الآخر بمبررات نفسية وقبلية بغيضة، فكتب:

"يا رفاق الأمنيات الخالدة

قد رضعنا ثدي أمٍ واحدة

لم تمشون على درب الهوى

في مياه النعرات الراكدة

عنصريات الدجى نرفضها

في نضالات الكفاح الرائدة"

وليس هذا فحسب، وإنّما يُعتبر كجراي الشاعر والمدرّس صاحب مساهماتٍ واضحة في مناهج اللغة العربية التي تدرس في المدارس الإرتيرية، في عقد الستينيات. كما برزت اتجاهاته في العمل السياسي المنظّم في تأسيس مؤتمر البجا في الستينات.

ويُصنّف النقّاد تجربة كجراي الشعرية، ضمن قوائم روّاد الشعر الحديث الحُر، على مستوى الوطن العربي، ويأتي في تصنيفات هذه القائمة من الشعراء السودانيين كلٌ من، جيلي عبد الرحمن، محمد المهدي المجذوب، صلاح أحمد إبراهيم، محي الدين فارس، وغيرهم. ويعتقد الدارسون لاتجاهات الشعر في السودان، أنّ هذه المجموعة كان لها التأثير الكبير في حقبتي الستينات والسبعينات، في وضع أُسس حركة الشعر العربي الحديث في السودان فيما بعد.

وتضجُ في أشعار كجراي الفصيحة، الأساطير والأحاجي، والميثولوجيا الإغريقية. وله توظيفات تُصنّف في درجات الجودة المتقدمة، لهذه الأساطير والرمزيات. أما في شعره بالعامية السودانية، فيمتليءُ بالبساطة، والقدرة على النفاذ إلى مكامن العاطفة المعنية، والشعور بشكلٍ مباشر وجلي. يتبدى ذلك في قصائده الغنائية التي أدّاها المغني الراحل إبراهيم حسين: "بسمة النوّار"، و"شجون". وأخريات منحها المغني الراحل محمد وردي، إلا أنّ أكثر قصائد كجراي شُهرةً لدى وردي هي "ما في داعي".

 

اقرأ/ي أيضًا: صالح الضي.. الجميل الحلو

وللحق، فإنّ كجراي ينتمي إلى الجيل الثاني من الستينات، فجيل الستينات الأول يضم أربعةً من الشعراء، هم جيلي عبد الرحمن، الفيتوري، تاج السر الحسن، وصلاح أحمد إبراهيم. أما جيل الستينات الثاني، فيضم بجانب محمد عثمان صالح كجراي، محمد المكي إبراهيم، محمد عبد الحي، الحسين الحسن، النور عثمان أبكر، وغيرهم كُثر.

وليس أدل على عمق وفرادة تجربة كجراي الشعرية، أكثر من جملة الناقد والشاعر عبد الله حامد الأمين في شعر كجراي: "أتحدى من يجد بيتًا غير موزون، أو كلمة غير عربية". أو تعليق الأديب الدبلوماسي عبد الهادي الصديق، الذي علق بأنّ كجراي يعتبر صوتًا مهمًا من أصوات الشعر العربي السوداني الحديث.

محمد وردي: التقيت كجراي في صيف 1962 بمدينة واو حيث كان يعمل ناظرًا بمدرسة ابتدائية، وكتب لي قصيدة "ما في داعي"

وعلقت دار النسق للطباعة والنشر التي نشرت ديوانه الأول "الليل عبر غابة النيون"، على الديوان: "إننا نستمد حماسنا من النصوص المدهشة التي أمامنا، ومن أصدقائنا الكتّاب الذين يشدون من أزرنا ويتوقعون منا الإنجاز، والشاعر محمد عثمان كجراي في هذه الباقة الشعرية نموذج رفيع لحوافزنا الروحية".

يقول وردي في مطلع إحدى التسجيلات لأغنية "ما في داعي" إنه التقى كجراي في صيف 1962 بمدينة واو بجنوب السودان، وكان يعمل ناظرًا بمدرسة ابتدائية بالمدينة، حيث كتب تلك القصيدة خصيصًا لوردي، الذي لحنها وغناها لاحقًا.

اقرأ/ي أيضًا

مكاتيب التعذيب الإنقاذي

مترجم| سيلفيا بلاث: لا تحاول أبدًا خداعي بقبلة