11-مايو-2024
معرض الفنان التشكيلي السوداني فضيل في العاصمة الأوغندية كمبالا

معرض الفنان التشكيلي السوداني فضيل أحمد في العاصمة الأوغندية كمبالا

نيران حرب لم تترك خيارًا لجموع كبيرة من السودانيين سوى الخروج الكبير في دروب الآلام التي لا تنتهي داخليًا حيث يطاردهم الرصاص حتى في نزوحهم، ويداهمهم الحنين في المنافي البعيدة. وسط ذلك الشجن المتراكم يلملم الفن التشكيلي أطراف ألوانه لإعطاء للسودانيين حياة ذات أبعاد أخرى، وفي العاصمة الأوغندية كمبالا التي كانت منفى للعديد من الفنانين التشكيليين المعارضين لحكم الإنقاذ، وزاد عليها توافد العديد من الفنانين التشكيليين عقب الحرب، والذين سرعان ما اندمجوا فنيًا في المدينة التي تلونها الخضرة ومياه الأمطار بشكل طبيعي.

على سفح هضبة ماكيريري التي تتشكل في قمتها غابة تتوسطها جامعة ماكيريري العريقة، تقع كلية الفنون ضمن قاعة ضخمة للمعارض التشكيلية حيث عرض فنانون سودانيون لوحاتهم

على سفح هضبة ماكيريري التي تتشكل في قمتها غابة تتوسطها جامعة ماكيريري العريقة، تقع كلية الفنون ضمن قاعة ضخمة للمعارض التشكيلية، حيث فرض الفنان التشكيلي فضيل أحمد نفسه عبر لوحاته التي تضج حياة يستعيد فيها الوطن قبل الخراب، ويتخيله ما بعد السلام.

يقول الفنان التشكيلي فضيل أحمد عن معرضه الذي افتتح في قاعة كلية الفنون بجامعة ماكيريري إن المعرض باسم "حكايات من السودان"، والفكرة منه أن يعمل على لفت النظر إلى الوطن. اللوحات تسرد الجانب الإيجابي للحياة العادية، بجانب خلق صورة متخيلة لما يفترض أن يكون عليه السودان. وأضاف لـ"الترا سودان": "المعرض فرصة، حتى يتمكن السودانيون الفارون من الحرب في بلادهم، من الشعور بالأمل عند زيارة المعرض، وتأمل اللوحات التي تعيدهم لسودان ما قبل الحرب، وما هو متخيل لسودان ما بعد الحرب.

إعطاء الأمل

أردف فضيل بالقول إنه تجنب أن تسرد اللوحات قصص الحرب القائمة، وإنما سعى للاحتفاظ بالذاكرة القديمة للسودان عبر اللوحات التجريدية التي تصور أشكال الحياة. وأضاف: "الفنان والفن لا يفضلان خانة رد الفعل، لذلك حاولت أن لا يأخذني التلوين ناحية الحرب، ولا أريد أن يُفرض واقع القتال على العمل الفني، وإنما السعي والتمسك بالأمل والتغيير الجمالي". وأشار التشكيلي السوداني فضيل أحمد في حديثه إلى "الترا سودان"، إلى أن الفن تقع عليه مسؤولية كبيرة في الفترة الحالية، والتبشير بالسلام والتسامح الاجتماعي وصناعة الجمال في وجه القبح، والاحتفاظ بذاكرة جمالية لفترة ما بعد الحرب.

معرض الفنان التشكيلي السوداني فضيل في كمبالا الأوغندية
معرض الفنان التشكيلي السوداني فضيل في كمبالا الأوغندية

وفي وقت ضياع الكثير من الموروث الثقافي السوداني، يقول فضيل إن الفن يؤدي دورًا في حفظ الذاكرة البصرية والمادية للسودانيين، ولحياة ما بعد الحرب، وأنه يؤثر حتى في الوجدان المشترك للشعوب والقبائل، ويعد ذلك جزءًا أصيلًا من مسؤولية الفن. وأضاف: "أنا أركز على التسمك بالذاكرة الإيجابية، والحرب يجب أن لا تكون سببًا في خلق التباين. علينا التمسك بالإيجابية؛ وهذه مسؤولية للفن بجانب دعم السلام"، بحسب تعبيره.

وأشار إلى سعي الفنانين في المنفى إلى توثيق الحياة في السودان وعرضها على شعوب مختلفة للتعريف بالحضارة السودانية والعادات والتقاليد السمحة، بجانب صناعة الذاكرة المتخيلة والمنشودة، بجانب تحفيز الشعوب على الأمل. يقول: "هذه من التدخلات المهمة للمبدع وللفن عمومًا".

ذاكرة الحرب

يشارك أيضًا في خلق ذاكرة للسودان في المنفى، الفنان التشكيلي نصرالدين الدومة الذي هرب من جحيم الحرب في السودان إلى أوغندا، ونتيجة ذلك فقد أعماله الفنية، حيث أقام في السابق أكثر من (150) معرضًا تعبر عن الموروث الثقافي و التاريخي للسودان.

وصل الدومة لكمبالا لتسحره المدينة، حيث أخذه جمالها للتشكيل، وتتبع حياة الأوغنديين في قاع المدينة ليشكل لوحاته التي تلتقط الحياة في شوارع كمبالا.

يقول الدومة إن الحرب أجبرته على الخروج من السودان، رغم خططه القديمة للمجئ إلى شرق أفريقيا، ولكنه يقول ليس بهذه الطريقة التي خرج بها عبر إثيوبيا. وأضاف في حديثه مع "الترا سودان"، أنه بعد الاستقرار بدأ في العودة إلى الرسم على الرغم من أنه فقد أغلب أدواته في الخرطوم، وقال: "على الفنان أن يكون في حالة مواصلة في الأعمال، حتى لا يحدث له انقطاع". ويشير إلى أنه نجح في الحصول على إقامة فنية لمدة ثلاثة أشهر عبر مركز ثقافي أوغندي.

نجح الدومة أيضًا خلال فترة إقامته، في بناء تصور فني لحياة الأوغنديين العادية، رغم عدم معرفته بالسياق الثقافي للمجتمع، لكنه استطاع عبر التجوال في شوارع المدينة أن يترجمها عبر لوحات فنية ليقيم بعدها معرضًا تشكيليًا قدمه للمجتمع الفني الأوغندي بجانب السودانيين المقيمين في كمبالا.

لوحة من أعمال الفنان التشكيلي السوداني الدومة في كمبالا
من أعمال الفنان التشكيلي السوداني نصرالدين الدومة

يقول الدومة أن على الفنان أن لا يستسلم وأن يحاول مواصلة العمل بما هو متاح رغم التحديات التي يشير إليها من عدم وجود مواد ذات خامات جيدة، مؤكدًا أن التواجد في بيئة فنية جديدة وبلد مختلف يمثل إضافة مهمة للفنان. وزاد: "أعمل خلال تواجدي في كمبالا على التعرف أكثر على أشكال الحياة والعميق في السياق الاجتماعي". مؤكدًا أن الفنون في أوغندا متقدمة، لكن التحدي في خلق اسم فني مثل الذي صنعه في السودان، لافتًا إلى الحاجة إلى بيوت خبرة فنية تقدم الفنانين السودانيين بشكل احترافي للمجتمع الفني الأوغندي.

ضد الحرب

وسط الانقسام في المجتمع الفني حول الموقف من الحرب، حيث انخرط فنانون في دعمها وآخرون يرون بوجوب وقفها، يقول الدومة إن الفن دائمًا يقف مع السلام والأشياء الجميلة؛ ومن ثم الفنان يجب ألا يكون مع الحرب وعليه العمل على نبذ العنف والكراهية، وأن لا يحرض على القتل.

إلا أن الدومة يستدرك بالقول: "أنا رافض للحرب والدمار، ولكن علاقة الفنان بالسلطة تمثل موضوع نقاش كبير، وكثير من الفنانين انحرفوا، ولكن هذا سلوك شخصي للفنانين ولا علاقة له بالفن؛ لأنه بعيد من العنف".

ويصف الدومة الحرب القائمة في السودان بأنها مشروع لتصفية الثورة السودانية المجيدة التي شاركت فيها شتى أطياف الشعب السوداني، بينما وقف أطراف الحرب من جيش ودعم وحركات مسلحة ضد الشعب والثورة. وقال إن الأوضاع الحالية جعلت البعض في مواقف مرتبكة، حيث يقف معارضون الآن في صف الجيش، ويتصورون أن معركتهم مع الحركة الإسلامية مؤجلة، ويجب الآن مواجهة الدعم السريع. وأوضح أن موقفه من الحرب هو أن الجيش والدعم السريع لا يصلحون لإدارة البلد، وأنه يجب العمل على بناء جيش جديد مهني يمثل فيه السودانيون بشكل حقيقي.

ذاكرة الشعب

وحول دور الفن في حفظ الذاكرة للشعوب والتوثيق لها، يقول التشكيلي والأستاذ السابق بكلية الفنون الجميلة، الأمين محمد عثمان، إن الاتجاهات الموجودة في الفن المعاصر هي "اتجاهات حداثة"، لا تعمل على توثيق الأحداث توثيقًا مباشرًا، لذلك لا يمكن أن نقول إن الفنانين السودانيين بعد الحرب سينتجون فنونًا تعبر عن الحرب، ولكن قد تتمظهر في بعض الأعمال الفنية مثل التصميم الإيضاحي والرسومات المتحركة.

تشكيلي: الجانب الإيجابي لتواجد الفنان في المنفى والغربة والعيش خارج السودان يكمن في التفاعل مع بيئة جديدة وتيارات فنية مختلفة

ولفت في حديثه مع "الترا سودان"، إلى أن الفن التشكيلي على مستوى المنطقة يعبر عن الرؤية البصرية التي ينتجها الفنان. وزاد: "صحيح توجد بنية رمزية قد تتأثر بالواقع، لكن لا يمكن أن تكون تجسيدًا له، بينما تتبنى بعض المدارس الرسم لشرح الواقع بشكل مباشر، وأبرزها الواقعية الاشتراكية التي خطفت الأضواء فترة الثورة الشيوعية في روسيا، وقد تظهر أعمال تجسد الحرب مثل النحت والرسومات التي تصور وجوهًا يلونها الحزن.

ويرى عثمان أن الجانب الإيجابي لتواجد الفنان في المنفى والغربة والعيش خارج السودان يكمن في التفاعل مع بيئة جديدة وتيارات فنية مختلفة، ويمكن للتشكيلي أن يرسم ويقدم أعمالًا فنية في البيئة الجديدة مثله مثل أي فنان آخر، وتكمن الصعوبات في إيجاد الأدوات المستخدمة في الإنتاج الفني وتوفير المعارض والمساحات للرسم، حيث يعيش أغلب الفنانين اللاجئين في أماكن ضيقة لا يستطيعون العمل فيها بشكل مريح.