08-أغسطس-2020

عبد العزيز أبوداؤود

في ذكراه السنوية، وفي ذكراه السادسة والثلاثين، نتذكّر أنّ عبد العزيز محمد داؤود، لم يكن محض مغنٍ فقط، وإنّما مارس طوال حياته، العديد من الفنون، فغنى حتى ملك قلوب وقِياد مستمعيه، وحتى ملأ آذانهم بالغناء حتى فاضت وتدفقت. ومدح أبوداؤود وأنشد، حتى لتخاله شيخًا من شيوخ الطريقة، أو مجذوبًا شتت شمل وجده، وجمعته، المحبة الإلهية، والمحبة النبوية. 

ستغرق حتمًا في وجدٍ صوفي وأنت تسمعُ لـ"أبْ داوود"، وهو يؤدي "الُسرّاي/ السُرّاي/ الجافو النوم وعقدوا الراي". وهو قبل ذلك كان مقرئًا للقرآن، ومؤنسًا بطريقته التي تخصه، وراويًا وحاكيًا للنكتة، ومنشدًا للدوبيت، وعازفًا على علبة الكبريت، للدرجة التي تحوّلت فيها العلبة إلى آلةٍ موسيقيةٍ كاملة التنغيم والسلالم.

إن قدر لك أن تستمع إلى تغني "أبْ داوود" منغمًا أغنياته مستعملًا علبة الكبريت، فسترى ألوانًا من العبقريات، وصنوفًا من التطريب الفريد

من عبقرياته المتعددة، وحكاياته للنكتة التي يُرسلها في الحال، أنّه أراد أن يُغني "ثنائي" بصُحبة الفنان عبد الكريم الكابلي أمام إسماعيل الأزهري، في الستينات، فما كان منه إلا أن تقدّم نحو المايكرفون قائلًا للجمهور ولأزهري، "سنُغني لكم اليوم ثنائي أنا وعبد الكريم الكابلي، يعني بلاك آند وايت".

اقرأ/ي أيضًا: كلية الموسيقى والدراما.. رحيل العمالقة وتساقط الأشجار

أما إن قدر لك أن تستمع إلى تغنيه منغمًا أغنياته مستعملًا علبة الكبريت، فسترى ألوانًا من العبقريات، وصنوفًا من التطريب الفريد. أما عن طرائفه مع الكبريته، فيذكر علي المك، خِدن روحه، ومحبه الكبير، أنّ عازف الكمان المقتدر "عبد الله عربي" سأله يومًا بدار الفنانين عن عبد العزيز داؤود، ولمّا رد عليه بأنّ عبد العزيز سافر لإحياء حفلةٍ في عطبرة، ما كان من عبد الله عربي إلا أن أشار إلى عازفي أبوداؤود الموجودين بالدار، متسائلًا "طيب السافر معاهو منو؟"، حينها رد عليه علي المك بعبارته "قال ما عايز عازفين، اشترى كروسة كبريت من دكان اليماني وسافر".

 

أما وقد جاءت سيرة علي المك، فقد شكلت مقالاته التي كتبها عن عبد العزيز محمد داؤود، ناضحةً بالجمال، ومسكوبة بالمحبة، واحدةً من الوثائق المهمة في تجربة "أب داوود". وعلاقتهما فيها من الغرابة الكثير، والقرابة والمحبة الأكثر. فقد عُرف "أب داوود" بعلاقاته المتعددة بكل طبقات المجتمع، من مناطقهم الصناعية، إلى فنانيهم، إلى بروفسيراتهم. 

كتب علي المك مؤرخًا لأول تجارب وظهور لعبد العزيز محمد داؤود، وتحديدًا في العام 1943، حاكيًا على لسان أحد أصدقائه، الذي قال:

"كان ذلك في عام 1943، كنا ماشين عرس في القطينة، مجاملة لصديق، أجّرنا تاكسي فورد، اتفقنا مع فنان مشهور، مشينا ليهو ما لقيناه، العريس والقطينة كلها منتظرين، وبعدين قام صديقنا عبد الله محمد صالح قال يا جماعة ولا يهمكم، أنا بعرف واحد بغني كويس، بس ما مشهور، المهم نعدّي الحفلة. أنا شخصيًا ما كنت مقتنع بي كلامو، لكن قبلت، قلنا ليه يا عبد الله زولك وين؟ قال طوالي بكون قاعد في قهوة الزيبق. مشينا للقهوة، زولك عبد الله نزل القهوة، جانا راجع معاهو واحد أزرق زي الكُحل، طويل، عريض، لابس طاقية، جلابيتو نُص لياقة، ولابس شبشب. ما معقول يكون ده الفنان يا عبد الله؟ قلت ليهو بالراحة: ده فنان ولا ربّاط؟ المهم زولك ركب معانا، ونهضنا على القطينة، ومما ركب كان بغني وبغني، أطربني شديد، قلت ليهو الناس حتعرفك بعد عشرين سنة".

 

وكما كتب علي المك مبشرًا، ومتغزلًا في عبقرية "أب داوود"، شاءت الأقدار أن يكتب كذلك راثيًا صديقه بحروف تتدفق ألمًا، وحُرقة، وحسرة. كتب المك: 

"صباح السبت 4 آب/أغسطس 1984 كان ذاك العام بما‎ ‎فيه وما انقضى منه ثقيلًا بأحداثه، بطوارئه، ‏وقضاة طوارئه، وقد استحال بذلك إلى قرن‎ ‎من الزمان. صباح ذاك السبت طرتُ‎ ‎إلى الخرطوم بحري لحين أن بلغت دار عبدالعزيز كان ‏الطبيب قد عاده في المساء، ووصف‎ ‎له دواءً، أفاده شيئًا حين أطل الصباح، لعل أنفاسه هدأت ‏بعض شئ، حين رأيته قلت: (الحمد‎ ‎لله)". 

اقرأ/ي أيضًا: صالح الضي.. الجميل الحلو

في المساء جاء إلي محمد أحمد حمد زميل ‏دراستي،‎ وجار عبدالعزيز. أهناك وقت للتحية؟ نظرت في وجهه، لحظ في وجهي، لا ريب، أثر ‏الفجيعة‎ ‎يوشك هو أن يُطلق عنانها خبرًا. قال إن عبد العزيز حالته خطيرة، ذهبنا إلى الطبيب ما‎ ‎وجدناه، وقال لي إنهم حملوه إلى المستشفى في بحري، قلت له: (انطلق بي)، وحين وصلنا إلى‎ ‎المستشفى لم يكن على أبوابها جمع حاشد، أوقفنا السيارة قبل أن نسأل، سمعنا رجلًا‎ ‎فقيرًا ما ستر ‏الليل فقره يحدث بائسًا مثله في أول ليل بحري يقول له (أبو داؤود‎ ‎مات). 

لـ"أب داوود"، أسلوبه الذي يخصه، ليس في أغنياته، ولكن حتى في أغنيات الآخرين

وأنا أكتب، كان صوت عبد العزيز محمد داؤود يتفنن في تأدية أغنية "أنّة المجروح"، لسيد عبد العزيز، يشرحُ فيها عبر أدائه الرشيق "معنى الجمال"، يلين اللحن مرة، ويحلق مرات عبر صوته، ثم لما يصل "عدل الطبيعة جعل/ جور الحبيب مسموح/ أنا أهدي ليك الحب/ حب من فؤاد مجروح/ حب الشحيح للمال/ حب الجمال للروح"، يصل الصوت غاياته ومراقيه العليا، ويدخل على الأغنية رويدًا رويدًا، حتى يستعمرها كليةً، فتصير طوع صوته، وتصير نسيجًا من صوته، ويضع عليها بصمته، حتى إن أراد غيره التغني بها، لم يتسن له ذلك إلا عبر طريقته.

 

 

ولـ"أب داوود"، أسلوبه الذي يخصه، ليس في أغنياته، ولكن حتى في أغنيات الآخرين. فقد تصادف أن غنى مرةً "أذكريني يا حمامة"، لعبد الحميد يوسف. بطريقته، حتى لتكاد تظن أنّك تستمعُ لأغنيةٍ أخرى غير التي سمعتها. 

 

 

وغنى العديد من أغنيات البنات الرائجة في ذلك الوقت، ألبسها حُلةً "أب داؤود"، وخرجت إلى الناس بحُلةٍ ولونٍ زاهي، وصار عاديًا أن تسمعُ أغنيات على شاكلة: "غالي علَي يا يمة، غالي علَي حبيبي"، و"العجب حبيبي" يُغنيها الناس في مناسباتهم، ويُرددها من بعده المطربون من بعده في الحفلات العامة، بل ويسجلها المطربون الشباب في ألبوماتهم الغنائية.

اقرأ/ي أيضًا: مكاتيب التعذيب الإنقاذي

سيظلُ الاسم: "عبد العزيز محمد داؤود"، عليه رحمة الله، ولعقودٍ طويلة قادمة، مسجلًا ضمن قوائم أناسٍ وهبوا موهبتهم وعمرهم من أجل إسعاد الآخرين، والفناء من أجل هذه الغاية الإنسانية العالية، فقد عرف نفسه، ومنذ أن كان صبيًا في فصول الدراسة، أنّ طريقه هو الغناء، وجد من بعد السير فيه، حتى آخر أيامٍ في حياته.

سيظل النّاس لعقود طويلة قادمةٍ، يذكرون نخلةً عالية السُموق، كستهم من الشجون الكثير، ولا تزال، اسمها "عبد العزيز محمد داؤود"

وسيظل النّاس لعقود طويلة قادمةٍ، يذكرون نخلةً عالية السُموق، كستهم من الشجون الكثير، ولا تزال، اسمها "عبد العزيز محمد داؤود". رمت بفناءاتهم الكثير من ثمر الطرب، والغناء الشفيف، والنُكتة الحاضرة المبذولة. فقد خلّد عبر صوته، وأدائيته المتفردة، وأغنياته العذبة اسمه في سجل من أعطى ولم يستبقِ شيئًا. رحل عبد العزيز، ولم تخرج الخرطوم بحري إلى الآن من ‎"بِيت الحَبِس".

اقرأ/ي أيضًا

مترجم| سيلفيا بلاث: لا تحاول أبدًا خداعي بقبلة

صورة المرأة في الرواية السودانية.. التمرد وانكشاف الكينونة الأنثوية