19-يوليو-2020

أغلفة (ألترا سودان)

شهدت السنوات الأولى؛ بعد انقلاب الإنقاذ في 30 حزيران/يونيو 1989م، ضربًا وسحقًا وقتلًا للخصوم السياسيين، لم يكن له مثيل طوال التجربة السياسية السودانية. وساهمت عدد من المكاتيب في التوثيق لهذه الفترة والأحداث. وباتت أحد أساليب مناهضة هذه الممارسات المخالفة لأعراف الإنسانية، وأخلاق الأديان.

 السنوات الأولى من حكم الإنقاذ كانت الأقسى والأبشع في تاريخ الدولة السودانية

لنتفق أولًا، أن السنوات الأولى من حكم الإنقاذ، الذي وصلت له الجبهة الإسلامية القومية، عبر انقلاب حزيران/يونيو 1989، كانت الأقسى والأبشع في تاريخ الدولة السودانية. وأن القسوة والبشاعة الإنقاذية، لم تشابهها في أمثلتها إلا العسف الذي كان ممارسًا في فتراتٍ من الدولة المهدية، في النسخ السودانية. ​​

مجلس قيادة ثورة الإنقاذ "انقلاب 1989"
مجلس قيادة ثورة الإنقاذ "انقلاب 1989"

أما في النسخ الإنسانية بشكلٍ عام، فلم يشابه ما جرى إلا تشكيل البابا إينوسينت الرابع، في 1252، لما عرف وقتها وفيما بعد بمحاكم التفتيش. وهو المرسوم الذي أصدره لتجويز تعذيب المتهمين بالهرطقة للحصول على معلوماتٍ منهم. ونقلت كتب التواريخ تعليق المتهمين بالهرطقة بالحبال على سقوف الغرف حتى تنخلع أكتافهم، للحصول منهم على اعترافات.

اقرأ/ي أيضًا: تصنيف السودان ضمن 25 دولة مهددة بمستويات قياسية من الجوع

تحتفظ سجلات التاريخ السوداني، بفتراتٍ اعتقالٍ متطاولٍ للخصوم السياسيين، وحتى أن بعضهم كان السجن والمعتقل نهاية حياته. لكن لم تمارس عمليات التعذيب للخصوم السياسيين، بالطريقة الممنهجة، كما مورست في سنوات الإنقاذ الأولى.

لكن الشاهد الكبير، أن أغلب هذه التجارب؛ ظلت حبيسة التداول الشفاهي، والتناقل السماعي، ولم تأخذ حيزها من الكتابة والتوثيق، إلا في حالاتٍ نادرة. وهي حالاتٌ وصفت من قبل الراصدين بالندرة، فقط بالمقارنة مع كم التجارب التي لدى أصحابها. وبالمقارنة مع التعذيب البشع الذي مورس في هذه المعتقلات، لدرجة الموت تحت التعذيب، أو الاختفاء القسري. أو بالمقارنة كذلك، مع الذين زاروا قسرًا بيوت ومعتقلات التعذيب الإنقاذية. فما السبب؟

اقرأ/ي أيضًا: مقترح لإلغاء امتحانات الشهادة نهائيًا.. والقرّاي: لا يمكن تنفيذه إلا بعد قرون

أول هذه المكاتيب، بحسب متابعين وراصدين لها، كان "الإنقاذ.. الأكذوبة والوهم"، لكلٍ من: إسماعيل أحمد محمد، ووديع إبراهيم، والذي صدر في 1990، بعد عامٍ واحدٍ من انقلاب الإنقاذ. وبحسب البحث والتقصي، فإن كلا الاسمين مستعار. فالأول صاحب دار نشرٍ معروفة، والثاني صحفي راحل. وليس من العسير الإجابة على الاسمين المستعارين، إذ أن القبضة الأمنية كانت على أشدها، وأي مكتوبٍ ضد السلطة التي تمارس التعذيب وقتها، كان خطرًا ما بعده خطر.

يوثق "علي فضل شهيدًا" لحادثة اغتيال الطبيب علي فضل في نيسان/أبريل 1990، كواحدةٍ من أشد فصول التعذيب الإنقاذي بشاعةً

وأتت بعد "الإنقاذ.. الأكذوبة والوهم"، عددٌ من المكاتيب التي توثق لممارسات التعذيب التي كان تتفنن فيها الإنقاذ. من هذه المكاتيب: "بيوتٌ سيئة السمعة"، للكاتب علي السخي، والذي أصدرته المجموعة السودانية لضحايا التعذيب، وحرره الكاتب والصحفي: حسن الجزولي

ومن المكاتيب أيضًا: "من أجل مشروعٍ قومي لمناهضة التعذيب في السودان"، و"علي فضل شهيدًا"، للكاتب عبد القادر الرفاعي. والأخير يوثق لحادثة اغتيال الطبيب علي فضل، نيسان/أبريل 1990، كواحدةٍ من أشد فصول التعذيب الإنقاذي بشاعةً، حيث فاضت روحه، التي لم تحتمل الجروح الغائرة في رأسه، والضرب المتواصل على أجزاء متفرقةٍ من جسده لما يقترب من الشهرين. وما يجدر ذكره هنا: أن الكتاب تحول إلى دليلٍ بعد سنواتٍ في قضية اغتيال علي فضل. وهو ما يعزز من قيمة هذه المكاتيب.

الشهيد علي فضل
الشهيد علي فضل

تقريرٌ مهم، ونحن نرصد مكاتيب التعذيب لحقبة الإنقاذ، وهو ما أصدره مركز النديم للتأهيل والعلاج النفسي لضحايا العنف، في العام 2004م. والذي ضمن فيه مئات الشهادات لناجين من بيوت الأشباح سيئة السمعة، التي كانت تشرف عليها أجهزة أمن الجبهة الإسلامية القومية، بداية التسعينات، وبعد الانقلاب العسكري مباشرةً. الشهادات التي حوتها هذه المكاتيب، كان وستظل دليلًا دامغًا ومظلمًا على بشاعة التعذيب التي لم يسبقها مثيلٌ في تاريخ السودان، منذ استقلاله.

على أن أكثر هذه المكاتيب شهرةً، وصدمةً كان "أوراقٌ من زمن الواحة"، الصادر في العام 2006، وهو توثيقٌ كتبه على حلقاتٍ، الصحفي محمد سيد أحمد عتيق، لخص فيها أيامه التي قضاها في بيوت الأشباح. وهو أحد الأسماء التي راجت للمعتقلات التي كان يساق إليها خصوم الإنقاذ السياسيين، ويعذبون فيها. وفي حالاتٍ أخرى، غير الخصوم السياسيين.

وسبب التسمية لا يخلو من طرافةٍ وعبثٍ ورعب. ففي شرح الصحفي محمد سيد أحمد عتيق، أن المشرفين على التعذيب، كانوا يلجأون إلى تغطية جميع وجههم ما عدا عيونهم، خشية أن يتعرف عليهم المعتقلون فيما بعد. وبالتالي تحولت ملامحهم إلى أشباحٍ في هذه البيوت.

علي الماحي السخي
علي الماحي السخي

التعذيب كان له مسوغات دينية، ورد في ثنايا هذه المكاتيب، وفي شهادات كثيرين كانوا ضيوفًا فترةً ما على هذه المعتقلات، وهي أن المشرفين على التعذيب كان يتم تأهيلهم لأداء مهامهم بفتاوى ومبررات دينية، تجوز لهم تعذيب المخالف سياسيًا، وربما قتله. ففي كليهما –تعذيبه وقتله- ليس الذنب، وإنما الأجر والتقرب إلى الله. وتبدى ذلك في انفعالاتهم، وهم يمارسون التعذيب، ثم يأتون إلى الذين عذبوهم لإمامتهم في الصلاة، وكأنها تعبدٌ امتدادي لعبادة تعذيبهم خصومهم السياسيين.

اقرأ/ي أيضًا: الصحافة السودانية ما بعد كورونا

المكاتيب لم تقتصر على هذه العناوين السابق ذكرها فقط، وإنما يمكن شمل الخطابات التي كتبها سياسيون في قامة: فاروق محمد إبراهيم، الصادق المهدي، علي الماحي السخي، وسعودي دراج. ليس هؤلاء فقط، وإنما أيضًا: خطاب العميد محمد أحمد الريح، من معتقله بسواكن، إلى وزير العدل -وقتذاك- عبد العزيز شدو. وبالرغم من أن العميد ود الريح؛ لم يطلق سراحه بعد ذلك الخطاب إلا بعد أربع سنوات، إلا أن الخطاب يعد أحد المكاتيب المهمة، التي فضحت الممارسات البشعة التي كانت تتم في معتقلات الإنقاذ، ويقوم بها جهاز أمن الجبهة الإسلامية القومية.

ألم يحن الأوان لفتح هذه الملفات، ولمرتكبيها أن يعترفوا بما ارتكبوا من جرائم، ويحاسبوا عليها؟

ليس من ختامٍ أفضل، من قطف فقرةٍ كتبها جعفر محمد صالح، في كتابه: من أجل مشروعٍ قومي لمناهضة التعذيب: (الجروح الغائرة التي أحدثتها ممارسات التعذيب، لا يمكن أن تداوى فقط باعترافٍ أو اعتذار. بل يجب عمل كل الترتيبات لإزالة آثار الظلم الفادح الذي وقع، حيث لا تفيد مقولة العفو عند المقدرة، ونسيان الماضي، وعفا الله عما سلف).

وعليه، ألم يحن الأوان لفتح هذه الملفات، ولمرتكبيها أن يعترفوا بما ارتكبوا من جرائم، ويحاسبوا عليها؟ لأن ذلك يشكل ضمانةً لعدم تكرارها مستقبلًا.

اقرأ/ي أيضًا

المبتعثون للخارج.. ظروف قاسية والتعليم العالي: الأزمة في طريقها للانفراج

مترجم| سيلفيا بلاث: لا تحاول أبدًا خداعي بقبلة