هاتف الفجر
رن الهاتف في الفجر، إنه موعد زوار الأمن في أوقاتهم المعتمة. الثالثة صباحًا.. من المتصل؟ ولمَ هذا الإصرار على الاتصال؟ الرنين تكرر أكثر من مرة، وتوقف، ثم عاد وتكرر في اتصال كأنه لن يتوقف أبدًا. جلس على الفراش محدقًا بشاشة الهاتف لثوانٍ قبل أن يعي ما يدور حقًا. "إنه القنصل الأمريكي"، القنصل الأمريكي بنفسه، ما الذي يدفعه إلى الاتصال في هذا الوقت المبكر. "إذن إنه لأمر جلل".
قال الإمام جذلًا، وهو يفرك يديه: "ابشر.. ستنجب رئيس البلاد، وخاتم الانقلابات"
من الجانب الآخر للهاتف جاءه الصوت قلقًا: "هناك شيء غير طبيعي يجري الآن". تساءل: "ماذا تعني سيادة السفير؟" جاءه الصوت مهموسًا، ومشحونًا بالتحذير: "رصدنا مجموعة كبيرة من القوات العسكرية في حركة غير طبيعية.. هناك ما يشير إلى محاولة انقلابية". لماذا يهمس وهو يتحدث في الهاتف؟ وأي انقلاب وقد كنت مع قائد الجيش قبل ساعات؟ سأله: "هل أنت متأكد سيادة السفير؟"، تجاهل سؤاله، ارتفع صوته قليلًا، خرج من مرحلة الهمس إلى مرحلة الجهر القوي، قال: "هل يمكنك الاتصال بالسيد قائد الجيش ورئيس المجلس، حاولنا الاتصال به أكثر من مرة لكنه لا يرد.. اتصل به ونبهه، وحذره". أغلق السفير الهاتف من جهته، فنهض عضو المجلس من الفراش وأشعل سيجارةً، ثم اتصل بالسيد القائد الرئيس: "عفوًا سيادتك، أعتذر للإزعاج"، جاءه صوت القائد مرتويًا، لا أثر للتعب أو النعاس به: "ليس من مشكلة، تفضل"، جذب نفسًا من سيجارته وقال: "هناك معلومات تشير إلى حركة غير طبيعية لبعض وحدات الجيش.."، قاطعه السيد الرئيس القائد: "لا شيء من هذا يحدث، اطمئن وارجع إلى نومك". أغلق الهاتف وتركه يسحب ما تبقى من سيجارته، وهو يرى أضواء الفجر الشحيحة تبدأ بالانبثاق. رن الهاتف مرة أخرى وما تزال السيجارة بين أصابعه. إنه السيد السفير يعاود الاتصال، هل لديه أخبار جديدة أم إنه يريد معرفة ما أجاب به السيد القائد؟ "ماذا قال؟"، "نفى حدوث أي شيء مما ذكرت".. "لهذا يرفض التواصل معنا".. "ماذا تعني؟".. "أؤكد لك أن الحركة الانقلابية واقعة، وأن الانقلابيين على وشك استلام كل المقار العسكرية المهمة"، "....."، "عد واتصل به وأخبره أن بدراوي وزمرته استلموا المدرعات ووادي سيدنا، وهم الآن على أبواب القيادة". انقطع الاتصال. عقب السيجارة انطفأ بين إصبعيه. ما الذي يحدث بالضبط؟ أعاد الاتصال بالسيد القائد الرئيس. "نعم، ماذا أيضًا؟"، "المعلومات التي لدي تؤكد أن المحاولة الانقلابية جارية الآن".. ارتفع صوت القائد وبدا متهيجًا وهو يقول "ليس هناك (ود مرا) بقلبها علينا، قلت لك اذهب ونم، واترك لنا أمر البلاد". انقطع الاتصال. هذه لغة بدائية متعالية، وغير مطمئنة البتة. هناك أمر جلل يحدث مثلما قال السفير. رن الهاتف للمرة الثالثة، السيد السفير، ماذا يريد هذه المرة؟ "كرر نفيه، وحاول إفهامك أن الوضع تحت السيطرة؟"، "نعم، أكد أن الأمن مستتب"، "كنا نتوقع هذا، والقادم أسوأ إن لم تتحرك الآن". انقلاب ضد القائد، بقيادة القائد وضده، كيف هذا؟ وكيف أتحرك وليس أمامي سوى هذا الهاتف؟ أشعل سيجارة أخرى، أضاء الشاشة وولج موقع فيسبوك، وقبل أن يدوّن حرفًا واحدًا تعثر بالمنشور الأول، وقرأ الآتي:
"هبوا لحماية ثورتكم".
الكابوس
لم يبح الشيخ بما حلم به من أول مرة. كتم الأمر أيامًا عديدة، لكن حين تكرر الحلم رأى أنه لا بد من أن يقصصه على الآخرين. حينها لم يكن له أبناء، ولم يكن يفكر أصلًا في الزواج. كان شابًا في بداية الشباب، عاملًا كادحًا يجمع رزق اليوم باليوم. بعد أن تكرر الحلم وأصبح حملًا ثقيلًا عليه، ذهب إلى إمام المسجد، فهو الرجل العالم العارف بالدين الوحيد الذي يعرفه ويثق به. والدين مليء بمرويات الأحلام وتفسيرها، وضخ ماء الحياة في اتجاه سريانها. قال للإمام: "أكثر من شهرين يا سيدي والحلم يتكرر، لم يغب قط. في كل ليلة وقبل أذان الفجر تتراءى لي الرؤيا نفسها. أستيقظ مخنوقًا، جسدي يكسوه العرق والخوف يشلني. أعجز تمامًا عن النهوض من الفراش، ويمتد عجزي إلى الغياب عن المسجد لأداء صلاة الفجر حاضرة. أظل مقيدًا بلا قيود على فراشي إلى أن يطلع النهار، وأسمع أصوات الناس في الشوارع، وتبدأ ملامح الأشياء في الاستبانة، ووقتها فقط تزول من أمامي الصور والمشاهد، وتتبدد من أذني أصوات الأبواق والطبول العالية".
يسأله الإمام إذ بدأ الفضول ينهشه نهشًا:
"ماذا ترى يا ولدي؟"
يقول:
"امرأتي، أقصد امرأتي هناك، فأنا متزوج في الحلم، وهي في طور الولادة، في شهرها التاسع، بطنها مكور مثل بطيخة ضخمة، وأنا قربه ألاعبه، أي بطنها، وأدخل معها –زوجتي– في حوار مهزار (إن ولد نسميه السمان، وإن بنت نسميها، إنعام)، وترد هي (إن بنت بسميها على أمك ملكة وإن ولد بسميه على أبوي الخمجان)، نضحك سعيدين وهي بين يدي، قبل أن يتحول ضحكها فجأةً إلى بكاء وعويل، وأنا أجري هنا وهناك. حمارة وامرأة عجوز، ورتينة تضيء المكان. لا نساء، لم أرَ أي امرأة، لا أم، لا عمات، ولا حتى نساء المكان. أبصرها معلقة على حبل أشبه بحبل المشنقة، جسدها يتفصد عرقًا والمرأة العجوز تجذب الجنين وتجذبها. امرأتي –في الحلم– كانت تبكي وكنت أبكي، والعجوز بنشاط شابة عشرينية تجذب وتجذب إلى أن يشتد صراخ الجنين ويطغى على صراخنا، ثم تهمد امرأتي، أراها ميتة، مبيضة العينين، والعجوز كالممسوسة تحدث الجنين وقد صمت تمامًا، ومن حولنا ترتفع أصوات الأبواق النحاسية والطبول، ثم أصوات خشنة تغني، أو تنشد، شيئًا مثل أناشيد الجيش، مثل طبول العسكر وموسيقاهم المنذرة، ترتفع ضاجة تصم الآذان قبل أن تختلط بدوي المدافع وهسيس النيران وأصوات ملايين البشر يستغيثون".
قال الإمام جذلًا، وهو يفرك يديه:
"ابشر.. ستنجب رئيس البلاد، وخاتم الانقلابات".
رجل الصحراء
قبل سنين عديدة، وقبل أن يمتلك البلاد من شرقها إلى غربها، وقبل أن يغرقها بالمال والذهب من جنوبها إلى شمالها، وقبل أن يوزع على نواصيها من كل اتجاه قطع الأسلحة والسيارات المقاتلة كمن يوزع زجاجات شراب الليمون؛ قبل كل ذلك بسنوات عديدة، اختلف الرجل ذات يوم مع أصحاب قافلة الإبل المتجهة إلى ليبيا. تركهم وخرج غاضبًا يدفع أمامه إبله مقررًا خوض غمار الرمال وحيدًا. لم يستطع أحد أن يثنيه عن قراره. لم يستطع أحد أن يقترب منه وهو هناك عند أعلى تلة من الغضب الرملي القاتل. خرج وحيدًا في الصحراء. تاه هناك، فالرمال مثل أمواج البحر لا أمان معها وإن كنت خبيرًا بدروبها ومفازاتها. خرج "الفزع" بحثًا عنه، وعاد من دونه. يئس الأهل والأصدقاء والقبيلة من أوبته، وأقاموا سرادق العزاء. لكنه هناك، بين تلال الرمال وكثبانها كان يمضي شاقًا طريقًا لا يدري إلى أين تقوده. الرمال ذهبية وفضية تمتد أمامه في تموجات لا نهاية لها. يموت كل يوم من العطش والجوع ألف مرة، لكنه يجد نفسه في اليوم الذي يليه حيًا لم تيبس روحه بعد. متوحدًا مع النجوم وغطاء السماء السرمدي تمضي أمسياته ولا تنقضي. شجيرات هنا وهناك تعترضه، زقوم أم أناناس؟ أم هي أشجار سدر تلك التي أبقته حيًا طوال ما لا يدريه من أيام؟ بمن التقى هناك؟ الصحراء أرض الأنبياء، والصحراء منبت الشياطين أيضًا!
من قلب الرمال خرج ذات يوم عائدًا إلى الأهل والعشيرة، على وجهه وجهان: وجه للصلاح الملائكي، ووجه آخر للدمار الشيطاني الذي بلا أمد ولا نهاية. من أقصى البلاد إلى أقصاها، كان يرمي حبات مسبحته الألفية، ومن أقصاها إلى أقصاها الآخر كان يقذف طلقات مدافعه القاتلة والمحرقة التي لا تبقي ولا تذر.
