22-أكتوبر-2023
عمود دخان في سماء الخرطوم

(Getty)

أربعة أسباب رئيسة دفعتني إلى الخروج من منطقة "كرري" في مدينة "أم درمان" برغم الأمن وحالة الطمأنينة التي كان يحسها سكان هذه المنطقة وتجعلهم يتابعون أخبار الحرب الدائرة في الخرطوم والمناطق القريبة منهم في أحياء "أم درمان القديمة". فالإحساس العام الذي تكون لدى سكان "كرري" مع اندلاع الحرب وعبورها الأسابيع الأولى، هو أنهم في مأمن، وأن النيران لن تصلهم أبدًا، مبررين ذلك بأسباب يرونها قوية ومنطقية، أولها أن منطقتهم بعيدة عن تمركزات "الدعم السريع" الإستراتيجية، كما أنها واسعة وشبه محصنة لوقوعها على مسافة قريبة من القيادة العسكرية للجيش في منطقة "وادي سيدنا" العسكرية، التي تضم "معسكر كرري" بوحداته العسكرية المختلفة. وفي هذه المعسكرات بالتحديد حسمت المعركة منذ أول يوم لصالح القوات المسلحة، وطردت قوات "الدعم السريع" خارج النطاق. إذن، لنحو شهرين لم تشهد منطقة "كرري" وبشكل خاص حارات "حي الثورة"، المعروفة بـ "الثورات"، أي علامات محسوسة تدل على اشتعال الحرب، ثم تدريجيًا بدأت تظهر هذه العلامات الدالة على اقتراب النيران، انتبه البعض – كنت منهم – ونفى البعض الآخر الأمر مكابرًا بأن هذه المكان "أرض الأمان".

مربع شقلبان

ما الذي كنت أفعله في الأيام الأولى للحرب، أعنى تلك الستين يومًا الكابوسية الطويلة التي قضيتها حبيسًا في "مربع شقلبان" قبل أن أخرج نازحًا باتجاه شرق السودان؟ لأصف أولًا "مربع شقلبان"، ومحطة "شقلبان" هي المحطة الشهيرة في "شارع النص" بالثورة، أحد أشهر ثلاثة طرق تشق حي الثورة المتسع كمدينة. الشارعان الآخران هما "شارع الوادي" و"شارع الشنقيطي"، ولكليهما محطة شهيرة شهرة شقلبان وموازية لها في الخط الجغرافي، بحيث أنك لو سرت في خط مستقيم من محطة "الرومي" في شارع الشنقيطي ستصل مباشرة إلى محطة "مهداوي" في شارع الوادي وبينهما عند المنتصف تمامًا ستجد وتعبر محطة "شقلبان". و"مربع شقلبان" هو ذلك التشكيل المتميز الذي تتموضع فيه محطة "شقلبان"، إذ تقع بين وتربط أربعًا من أكبر الحارات في "الثورات"، وهي الحارات السابعة والثامنة والعاشرة والتاسعة، وبينها جميعها تضيء أنوار "أستوب المرور" الشهير، وعلى الجوانب الأربعة تقف مركبات وركشات المواصلات لتتزود بالركاب المتجهين إلى "السوق العربي" الخرطوم، و"السوق الشعبي" أم درمان، وسوقي "خليفة" والـ "17" المحليين، وبالطبع إلى محطتي "الرومي" و"مهداوي". المكان أقرب إلى سوق صغير نشط ضاج بالناس: ستات الشاي صاحبات المقاهي الوريفة، وبائعات اللقيمات المكافحات، أصحاب أكشاك السجائر والخردوات، ومغالق أدوات البناء والمعدات الكهربائية، السحانات والقشارات، وعشرات البقالات الصغيرة والكبيرة المتراصة على جوانب الطرق الأربعة، وبالطبع أفران الخبز البلدي والآلي ذات الأهمية القصوى في أشهر الحرب وما قبلها. حياة مثمرة ومستمرة ولا مبالية بما كان يجري برغم دوي المدافع وأخبار الحريق التي تتساقط من كل مكان.

سيد اللبن

نعم كان الجميع يحس بالأمان والطرافة، وبأن الحرب عابرة وستنتهي قبل أن تصل إلى هنا، إلى "شقلبان". قليلون وكنت منهم، كنا نحس بالقلق كلما طال أمد الحرب. وخلال جلسات الليل "الهادئة" كنت أجادل الرفاق – رفاق الحي – بأن هذا الأمر لن ينتهي قريبًا، ولم يكن يوافقني هذا الرأي إلا رفيق وحيد، وحين حاصرنا الآخرون بحتمية الانتصار – انتصار الجيش – واستحالة الهجوم على كرري؛ نصحته بالتزام الصمت وعدم مجادلتهم، لاسيما أن أصوات التخوين بدأت حينها بالارتفاع، ورب شخص عابر – ونحن جلوس في الشارع العام – ومهووس يرى في موقفنا تحيزًا ضد الجيش!

لكن كيف كنت أقضي يومي في تلك الأيام الكالحة؟ كيف يمر النهار الطويل بلا عمل أو أمل ووضوح في الرؤية؟ وليل الكوابيس كيف ينصرم، والنوم مثل أن تلج فرنًا من نيران الجحيم؟

القلق والتوتر والخوف وترقب ما لا تدرك، كلها تضافرت في تلك الأيام لتدك ببطء وتفاوت أجسادنا وتستنزف طاقتنا الروحية والنفسية

القلق والتوتر والخوف وترقب ما لا تدرك، كلها تضافرت في تلك الأيام لتدك ببطء وتفاوت أجسادنا وتستنزف طاقتنا الروحية والنفسية. من أهم ما حدث لي حينها اكتشافي بائعًا متجولًا للحليب يزور "شقلبان" على ظهر "كارو" صغير عند السادسة من صباح كل يوم، رجل لطيف وطريف، أصبح ركنًا ركينًا من برنامجي اليومي، ثم ازدادت أهميته حين اكتشفت أنه أفضل من ينقل أخبار المعارك الدائرة، فهو يأتي من جهة "بحري" حيث يرتكز جنود "الدعم السريع"، ويعبر كوبري "الحلفايا" صوب محطة "الصينية" حيث يرتكز جنود الجيش، وهو أيضًا يعبر في مسار سيره اليومي "شارع النيل" من أسفل كوبري "الحلفايا" وإلى أن يوازي محطات "مهداوي" و"شقلبان" و"الرومي"، وفي "شارع النيل" تدور معارك غرائبية لم تكن مفهومة لنا، وإن كنا نبصر آثار دخانها المتصاعد في كل يوم. صار الرجل مصدري اليومي لحليب الأطفال وأخبار الحرب. أسأله "أها الوضع كيف؟"، فيجيب: "والله مثل الجراد منتشرين في كل مكان"، أقول له مستدرجًا: "الجيش أمس ياخ نظف بحري كلها". فيضحك ويجيب: "وين دا يا زول أنا هسي جاي من هناك، كن رفعت حجر تلقى دعامي حاضن كلاشه". توطدت العلاقة بيني والرجل، نعم في كل يوم يضاعف من هواجسي وقلقي بأخباره، لكن وجوده اليومي أيضًا كان يمثل لي معنًى في الأمان، إلى أن غاب فجأة ولم يحضر بعدها قط. وكان هذا أحد الأسباب الأربعة.

قتيلا السادسة

 

غاب "سيد اللبن" وغاب الحليب وغابت عني "الأخبار الحربية" الصادقة، ولكن الوضع في "شقلبان" ما يزال كما هو، الحياة في فوران، والناس مطمئنون إلى أن أي أثر للحرب سيظل هناك في البعيد، الكل يمارس حياته كأنما لم يحدث أو سيحدث شيء، وإن أخفت تلك الحياة – المتوترة – قلقًا وخوفًا بدأ بالارتفاع لدى الجميع، وإن كابرت الأغلبية بـ "لا لن تصلنا النيران". قلت المؤن في البقالات، وشح الدقيق في الأفران، وانتشر السراق وقطاع الطرق بين أزقة الحارات. لكن "الشقلبانيين" لديهم الدواء لكل داء. نشروا الدوريات الشبابية في شوارع وأزقة الحارات، كونوا ما يشبه الجمعيات التعاونية الصغيرة لشراء الأغذية والخضراوات وجلبها من الأسواق الكبيرة، فهي ما تزال تعمل تحت قصف النيران. تقاسموا كل شيء وبدت الحياة ضاحكة وطريفة برغم شبح الموت الذي بدأ ينفث أنفاسه الكريهة لتلفح أوجه الجميع. مضت الحياة على وتيرة الاطمئنان ومكابرة الخوف وتحدي القلق، بالمزيد من لعب "الكوتشينة" و"الضمنة" والعشرات من فناجين القهوة والشاي، على وقع النكات والحكايات الطريفة التي تنبش وتخربش في سيرة الحرب نفسها، إلى أن زارنا الرصاص والذبح ذات مساء في مقتبله.

خرجت من البيت على أصوات الرصاص، وكنا وقتها إلى تلك اللحظة كلما سمعنا صوت طلقات نارية نخرج لنستطلع الأمر، لم نكن نختبئ تحت الأسرة مثلما يفعل الآخرون، أو نهرب إلى مكان آخر، بل نخرج جميعًا نتفقد بعضنا، وكأنما الجميع على توافق أن خطأ ما حدث، وأوصل الرصاص إلى هنا، لكنها ليست الحرب أو المعارك الدائرة هناك، بعيدًا عنا. خرجت وعرفت أن فريق استطلاع يتبع للجيش صادف عربة يشتبه أنها تتبع لـ "الدعم السريع"، وعلى متنها عدد من الأفراد المسلحين، وحدث اشتباك. "لقد قضوا عليهم"، "قتلوهم وذبحوهم"، "الجثث هناك ما زالت في مكانها"! أبصرت جموعًا متحركة صوب موقع الحادثة الذي لم يكن يبعد كثيرًا عن "مربع شقلبان". بدافع الفضول، أو الخوف، أو دافع الجنون! وجدتني – راجلًا – أمضي وسط الجموع صوب "موقع الموت"، وهناك أبصرتهما، شابين في مقتبل العمر، أو هما أقرب لطور الطفولة، لم ينبت لهما شارب، ولا أثر عميق لتجارب الحياة على وجهيهما. كانا ميتين، قتيلين، أحدهما ذبيح والآخر ثقب الرصاص جسده في أكثر من مكان. وقفت مصدومًا والناس من حولي في حالة هياج غريب، متوحش ومجنون في أغلبه. لقد وصلتنا الحرب تمامًا، هكذا حدثت نفسي وأنا أعود إلى مربعي الآمن. وذلك كان السبب الثاني لقرار الخروج.

اغتيال الأشجار

نويت الارتحال، لكني كنت مترددًا، فالحياة في "مربع شقلبان" عادت كما هي ممتلئة بالحياة وحركة الناس وضجيجهم. نعم تغيرت بعض مظاهر "شارع النص"، وصار مرأى اللصوص عائدين في الصباح الباكر محملين بالمسروقات من بيوت "أم درمان القديمة" أمرًا عاديًا وغير ملفت، بل إن البعض بدأ يستوقفهم ويساومهم لشراء المعدات الكهربائية "غسالات ومكيفات وغيرها"، ويشترونها منهم بأبخس الأثمان. الوجوه كثرت في الشارع وتغير الناس، وبات الحرام متداخلًا مع الحلال، لكننا صامدون في جلساتنا المسائية والليلية، نلعب ونحكي ونوسع من مشاريعنا التكافلية. ذات عصر من هذه الأيام السحرية – الفانتازية بمعنى الكلمة – كنا نجلس صامتين نتأمل حال الشارع ونتابع أصوت الطائرات الحربية المحلقة، ونتوقع بين لحظة وأخرى صدى أصوات المضادات المدفعية، ثم بوغتنا بهدير الرصاص قريبًا جدًا من آذاننا وكأنه يعبر بيننا، وبعدها أبصرنا أفرع وجذوع شجر الأكاسيا يتساقط، وكأن منشارًا عظيمًا انهال عليه في لحظة واحدة بالقطع والنشر والتمزيق. كيف حدث هذا؟ الشجر – شجرتان – كان أمامنا قبل قليل يقبع شامخًا ظليلًا في الجهة الأخرى من الشارع والآن صار أثرًا بعد عين! أي رصاص وأي سلاح هذا؟ ومن أين جاء وما الذي كان سيحدث لو أنه "نشرنا" نحن بدلًا من الأشجار؟ أسئلة وأسئلة توالدت في جزء من الثانية قبل أن تأتينا الإجابة بأن الرصاص "طائش" وصلنا من مسافة كيلومترات من الحدود الفاصلة بين منطقتي "أمبدة" البعيدة و"الثورات"، وأن هذا الرصاص لا شك رصاص "مدفع دوشكا".. يا للهول! وكان هذا سببًا ثالثًا عنيفًا ضاعف من رغبتي في الفرار.. نعم الفرار!

كوم تراب وبنزين

منذ اليوم الأول للحرب دخل الوقود حيز السلع النادرة والمفعلة لـ "اقتصاد الحرب". مجموعة كبيرة من الصبية والأولاد جعلوا من مربع محطة "شقلبان" سوقًا لهم لتسويق بضاعتهم من البنزين المهرب أو المنهوب المباع في السوق السوداء بأعلى الأسعار. دأب فرد أو اثنان من أفراد الجيش على مداهمة هذه السوق وتهديد الصبية وسرقة البنزين منهم! ومع الوقت وتطاول أيام الحرب تضاعفت أعداد باعة البنزين وتضاعفت معها أعداد الجنود الذين باتوا يداهمون المكان في كل الأوقات، مستقلين المواصلات العامة والدراجات النارية والمركبات الصغيرة، لم يأتوا ولو لمرة واحدة في مركبة رسمية ليضفوا ولو قليلًا من الرسمية على "عملياتهم الحربية" البئيسة. ذات يوم عند السادسة صباحًا خرجت متوجهًا إلى الفرن، تقلني كوابيس الليلة السابقة، وتشعرني بالغضب مظاهر التفسخ والتآكل التي باتت تحيط بالمكان. قريبًا من البيت صادفت باعة البنزين الصغار هاربين في فزع، ومن ورائهم يجري شخص بالزي المدني. من دون تخطيط قلت له: "أرهبت الأولاد ياخ". توقف الشاب، ترك الأطفال الفارين، وأخرج من بين طيات ملابسه مسدسًا صوبه نحوي وهو يصرخ: "أنا إرهابي؟ نحن إرهابيين يعني؟"، ثم كال لي وللشعب السوداني كيلًا من الشتائم البذيئة قبل أن يأمرني بالجلوس أرضًا. تركني ذلك الشاب – الطيب – أمضي إلى حال سبيلي حين أبصر رفاقه عائدين محملين بالغنائم "جالونات البنزين"، تركني في مكاني جالسًا ومضى.

قضيت يومًا سيئًا وأنا أحس بالمهانة والإذلال وبضرورة النجاة من هذا "الشرك". في المساء وأنا خارج لملاقاة الرفاق وجدت الشارع الضيق الذي يقود من "شارع النص" إلى داخل الحارة قد سد بأكوام من التراب، تخطيتها بصعوبة لأفاجأ بالشارع الذي يليه قد سد أيضًا بالتراب، ثم مضيت أتتبع "المتاريس الترابية" التي نصبها أهل الحارة والحارات المجاورة في "مربع شقلبان". كل الشوارع أغلقت الآن بأكوام التراب. "لن يجدوا مدخلًا"، هكذا خاطبني أحد المشرفين على عملية التتريس الكبرى. وكنت أحدق فيه صامتًا وأنا أتساءل: وهل يحتاج الرصاص أو تحتاج الدانات إلى طريق لتغتالنا أو تقتلنا كما قتلت الأشجار؟

النيران تصل شقلبان

خلال الأيام العشرة الأخيرة قبل خروجي من "مربع شقلبان"، لاحظت الحركة الكثيفة لأهالي "أم درمان القديمة" ممن نزحوا صوب حارات المربع. عشرات الأسر تركت منازلها في "أبو روف" و"المسالمة" وأحياء "السوق" و"ودنوباوي" و"الموردة" وغيرها من أحياء أم درمان التاريخية، وهبطوا في المربع. هل تبعد المسافة كثيرًا بين أم درمان تلك وأم درمان هذه؟ لا، فالمسافة أقل من رحلة طلقة "دوشكا" أو شظايا دانة متفجرة أو طنين طائرة محلقة.

"الدانات" تتساقط بعشوائية على كل الحارات. الثورات ما عادت آمنة

بعد ثلاثة أشهر من مغادرتي مربعي الأثير؛ "مربع شقلبان"، تصلني الأخبار الآن: مات صديقي الصيدلي متأثرًا بطلق طائش! تهدم بيت فلان وعلان جراء دانة متفجرة، وأصيبت قدم جاري بالرصاص وهو نائم. الدانات تتساقط بعشوائية على كل الحارات. "الثورات" ما عادت آمنة، فالنيران على أبواب شقلبان.