06-نوفمبر-2023
امرأة تحمل طفلها خلال حرب السودان

ما يزال السودانيون يعيشون أهوال الحرب في الخرطوم ودارفور وأجزاء من كردفان (ألترا سودان)

مع اندلاع الحرب في الخرطوم، استلهم كثير من كتاب القصة القصيرة والرواية أحداثها المأساوية في معالجات سردية تبرز فنيًا أحوال الناس، وتقرأ بالتوازي التحولات العميقة التي أحدثها الاشتعال شبه المباغت للقتال بين الجيش السوداني والدعم السريع في ولاية الخرطوم. وهي المرة الأولى التي تشهد فيها العاصمة الخرطوم حربًا بهذه الشراسة وبهذا الطول الزمني. وبلا شك تقدم هذه النصوص ضمن ما تقدم أسئلتها النقدية التي تغطي الحالة السودانية بوجه عام، منذ استقلال السودان وإلى اللحظة الراهنة والحساسة من التاريخ السوداني. هنا –في هذا المقال– اخترت نموذجين قصصيين لكاتبين شابين، لتناول أثر الحرب من وجهة نظر سردية، وجاء اختياري لهما لما التمسته من عمق منظوري في المعالجة السردية، بناءً وتقنية ولغة، بالإضافة إلى قدرة كبيرة على الإحالة وتوليد الأسئلة المتعلقة بهذه الحرب وتداعيتها المرعبة على الواقع السوداني.

نجح هذان النصان القصصيان في تناول تأثيرات الحرب من دون هتافية تسقط العمل في فخ التقريرية، وهو ما يكشف عن قدرات عالية لكاتبي القصتين

النص الأول: رصاصة في الجبين

القصة الأولى نشرها كاتبها محمد حسن النحات على صفحته على "فيسبوك"، من دون عنوان. وهي قصة مكثفة استلهم فيها الكاتب مأساة الحرب الدائرة في الخرطوم، بكل أبعادها الغرائبية المتداخلة ما بين وضعية الجيش السوداني المهتزة أمام المواطن، وموقف الدعم السريع المثير للحنق لدى المواطن ذاته. إذن هي قصة تطرح أسئلتها باستخدام أقصى طموحات أو أحلام (المواطن الخرطومي)، في مقابل المعركة العبثية الدائرة بين الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية. يستلهم الكاتب –تاريخيًا– قصة اكتشاف أمريكا ويجعل منها مدخلًا لقصته، ونتيجة دراماتيكية في نهاية القصة، أي أن مدخل القصة (التمهيد) ونهاية القصة (الذروة) يتطابقان ويتفارقان في الوقت ذاته، استلهامًا من المأساة الشخصية في "قصة اكتشاف أمريكا" التي تتحول من مأساة شخص واحد (مواطن ما) إلى مأساة شعب كامل يواجه جنون القائدين المتقاتلين (البرهان وحميدتي) وسخفهما وعبثهما، وتطابق موقفهما المتآمر والقاتل لـ(المواطن) ومدينته (الخرطوم).

https://t.me/ultrasudan

ولمحدودية زمن القصة –(163) كلمة فقط– والقدرة السردية الفائقة للنص، والتلخيص التراجيدي للحرب الدائرة الآن، رأيت إيراد النص كاملًا أدناه:

"سيأتي اليوم الذي يتجرأ فيه مواطن "خرطومي" على استكشاف كامل المدينة سيًرا على الأقدام، ومثل "خوان دي تريانا" الواقف على صاري سفينة "سانتا ماريا" صارخًا في تمام الساعة الثانية صباحًا:

- (أرض... أرض).. ظانًا أنها اليابان بينما كانت في الحقيقة أمريكا.

سيصرخ مواطننا "الخرطومي": لا يوجد جندي دعم سريع.. لا دعم سريع.

وبينما ذهب خوان دي تريانا في صباح يوم اكتشاف الأراضي الأمريكية إلى الربان الأميرال كريستوفر كولمبوس ليأخذ مبلغ الجائزة المعلنة لأول رجل يرى اليابسة والمقدرة بـ(10) آلاف مارافيدي (نقود من الذهب والفضة)، فواجهه كولمبوس بخسة مذهلة، وادعى أنه كان أول من رأى الأرض، عند نحو الساعة العاشرة مساءً. وتابع كولمبوس: "في الليل رأيت وهجًا صغيرًا مثل الشمعة. كان معي رجلان". وسارع أحد أقاربه وخادمه إلى تأكيد أقواله.

وبالطبع سرق من خوان دي تريانا الجائزة وسمعة الاكتشاف.

أما مواطننا "الخرطومي" فسيظل يصرخ: لا يوجد دعم سريع، حتى يصل إلى القائد البرهان. ولن يدعي الأخير أنه أول من اكتشف اختفاء الدعم السريع، بل سيطلق رصاصة بين عينيه ويقول:

بل يوجد دعم سريع".

النموذج الثاني: إنكار – إبراهيم جعفر

في هذا النص، وعلى خلاف النص السابق الموغل في الترميز والإحالات، يدلف بنا الكاتب مباشرةً إلى أجواء الحرب الدائرة الآن في الخرطوم، مستعيرًا صوت امرأة تنتظر زوجها المتغيب لساعات بعد أن خرج لشراء بعض المؤن والخبز: "خرجَ زوجي منذ أربع ساعات لجلب المؤن، ولم يرجع". استخدم الكاتب تقنية ضمير المتكلم، إذ يفتتح النص بصوت نسائي يخاطب المتلقي مباشرة في ما يشبه المنولوج الداخلي: "أوصيته بغلظة، وحسنٌ أني فعلت، أن يختبئ داخل أقرب ملجأ فور سماعه دوي المدفعية"، صوت قلق يشكو ويحكي ويعاتب في الآن نفسه. "أعرف حقيقة زوجي، وأعرف أنه لم يستطع كبح رغباته وقصد كشك التبغ في الجانب الآخر من الحي". تطرح المرأة سلسلة احتمالات لتغيب زوجها في مشواره القصير رغم ارتفاع حدة القصف واشتعال المعارك من حولها، احتمالات مختلفة بعضها يرمي إلى لومه وبعضها تؤنب فيه نفسها وأخرى تظهر غيرتها ومدى حبها له، احتمالات ترمي جميعها إلى نجاته، نافيةً الاحتمال الأكبر والأكثر توقعًا في مثل هذه الحالة، وهو الموت قتلًا بقذيفة (دانة) أو طلقات طائشة أو دهسًا تحت أقدام الجنود: "لكنه سيتعمد إغفال تفصيلة رئيسية مهمة، من باب الخشية أولًا، ثم لأن المداراة تضاعف لديه التمتمة.. ولن يطلعني على ما دار بينه وبين جارتنا (المفعوصة)". القصة اعتمدت الجمل القصيرة المكثفة سريعة الإيقاع، متكئة على وتيرة القلق والتمني، مما رفع من مستوى تشويقها إلى أن تصل بالقارئ إلى نهايتها المفتوحة على احتمال وحيد خارج احتمالات المرأة الخائفة المتوجسة.

لفنية النص وحساسيته العالية، سأورده أيضًا كاملًا أدناه:

 إنكار

"خرجَ زوجي منذ أربع ساعات لجلب المؤن ولم يرجع. إلا أنني لستُ قلقة عليه، فهو بلا شك قد اختار الطريق الشاق لتجاوز منطقة الاشتباك العسكرية، وفَاصَلَ تجار الأزمات للحصول على سعر أفضل، وذلك تطلب –إن وضعنا في الاعتبار عرج ساقه وتأتأته– ساعة كاملة. ولأنني أوصيته بغلظة، وحسنٌ أني فعلت، أن يختبئ داخل أقرب ملجأ فور سماعه دوي المدفعية، والتي بدأت باكرًا اليوم واستمرت ثلاثين دقيقة.. فذا يجعل الزمن حتى الآن ساعة ونصف.

لكنني أعرف حقيقة زوجي، وأعرف أنه لم يستطع كبح رغباته وقصد كشك التبغ في الجانب الآخر من الحي.. يا لرعونة الرجال عندما يخاطرون بحياتهم لأجل "سفة".. وليت الأمر اقتصر على هذا، فأنا متأكدة أنه جلس وتجادل مع أصدقائه لينفس عن ذاته –لعلّي بالغتُ قليلًا البارحة في تكدير الجو– واستفسر عن أخبار السرقات والوفيات، وأحصوا شادين أزر بعضهم البعض عدد الذين ما يزالون مرابطين في بيوتهم.. وإن افترضنا أنه تناول كوب شاي، فتلك ساعة ثانية ضاعت في التسويف.

ربما عليّ منذ هذه اللحظة أن أُبلّد مشاعري، فَبَعْلِي ونصيبي التعس من الدنيا –والحمد لله على النعمة– حين عودته المنشودة سيحكي تفاصيل ما قام به من بطولة، مُهولًا القصة، ثوم وبهار من الإنجازات، وسيتوجب على المسكينة التطبيل والاندهاش لجراءته – هذا إن أردتُ أن أحافظ على ما بقي من شعرة معاوية.

لكنه سيتعمد إغفال تفصيلة رئيسية مهمة، من باب الخشية أولًا، ثم لأن المداراة تضاعف لديه التمتمة.. ولن يطلعني على ما دار بينه وبين جارتنا "المفعوصة".. إنها ليست غيرة، لا تخطئوا الظن، فالبائسة تترصده منذ أن خرجت من عدة طلاقها، معتقدة أن تحت القبة فكي، وأنا –مهما سرت الإشاعات– أغض الطرف، فما جدوى التضحية معه إن انهدمت الثقة.. إذن، لنضف عشر دقائق من السلام والسؤال عن الحال، وعشر دقائق أخرى لأنها اِلتمسته إحضار الخبز، وعشر دقائق إضافية لأن الغبي حين ودعها وتغنجت له رفض أخذ المال.. وأراهن أن وضعهما المخل لم يتعدَ ذاك، فكيف يتجرأ وهو يعلم أنني سأقتله.

إن زوجي لم يسبق له التعطل أبعد من هذا الحد، مهما بلغ به الإهمال، بيد أنه لا ضير من بعض التشاؤم وتصور تفسيرات محتملة، لسد فارق الوقت؛ فمن الوارد أن دورية تفتيش اشتبهت به –فهيئته أصلًا مثيرة للريبة ولا أدري كيف تزوجته– فأوقفوه وفحصوا محتويات ما يحمل، ولأن الأحمق نسي بطاقة الهوية، فقد حققوا معه واتهموه بأنه ضابط مخابرات، وضربوه بسياطهم على ظهره –يا زوجي المسكين– موجهين أسلحتهم تجاه رأسه، ثم أطلقوا النار –متيقنة من أنني سمعت الصدى– من فوقه، لا ليقتلوه وإنما كي يضحكوا عليه وهو يولول ويعرج.

لكنهم لم يعتقلوه، كلا، بل اكتفوا –في أسوأ الفروض– بمصادرة كل شيء منه، حتى الملابس، ثم مثخنًا بالجراح رموه ككلب عند نهاية الشارع.. فداه روحي وعمري. وها هو زوجي العزيز، قرة عيني وحشاي، يتسحب منكسرًا وعاريًا، تمنعه الخيلاء من الدخول إلى البيت، وإلا، فما الذي يؤخره!".

هذان نصان قصصيان نجحا –في رأيي– في تناول تأثيرات الحرب من دون هتافية تسقط العمل في فخ التقريرية، وهو ما يكشف عن قدرات عالية لكاتبي القصتين ومدى تمكنهما من أدواتهما السردية، فالواقع الآن أكثر حساسية وغموضًا من تناوله سرديًا – فنيًا بهذه السرعة والقدرة على الملاحقة والكشف.