07-أكتوبر-2023
نازحون سودانيون وتوب سوداني

(Getty)

في مشهد عبثي وجنوني وتلخيصي للحرب الدائرة الآن في السودان، يهاجم أحد مقاتلي الدعم السريع بضراوة هيكل طائرة بدون طيار "درون"! بينما يتقمص مقاتل آخر شخصية مذيع تلفزيوني، يقدم تعليقًا متكلفًا فحواه أنهم تمكنوا من إسقاط الطائرة، بينما يواصل الأول هجومه على الهيكل ركلًا وضربًا بالأيدي، ثم فجأة تتصاعد حدة الهجوم بتدخل فردين آخرين، ويبدأ نزاع عنيف حول الهيكل المعدني إلى أن يتفكك إلى ثلاثة أجزاء، بيد أن ذروة المشهد تحدث حين يمسك أحد الأفراد جزءه من الهيكل المعدني ويهجم عليه بفمه محاولًا عضه بأسنانه وتمزيقه، وهو يخاطبه -الهيكل- متوعدًا ومنذرًا بالويل والثبور.. نعم، كان يصارع طائرة الدرون المفككة المعطوبة ويخاطبها وكأنها كائن عاقل قادم من عالم الترانسفورمرز الخيالي!

سوق الله أكبر

يطلق السودانيون على سوق العمل التجاري "سوق الله أكبر"، وتقترن التسمية دائمًا بمن يختار العمل التجاري خيارًا أخيرًا لمجابهة الحياة وضغوطها، فحين يسأل أصدقاء ومعارف هذا الشخص عنه وعن أحواله يرد المقربون بأنه "دخل سوق الله أكبر"، كناية عن أنه دخل معترك التجارة ورأسماله الفعلي وجوده الكينوني "لسانه، وذكاؤه، وعلاقاته الاجتماعية، وما عرف عنه من صدق مولد للثقة والمسؤولية"، إضافة إلى رد هذا النشاط إلى تقدير إلهي ينبغي أن يتقبله المؤمن ويتعبد به، إنه الآن في "سوق الله أكبر"، والله هو الرزاق الوهاب.

بعد اندلاع الحرب بشهرين تقريبًا انتشرت في الخرطوم بنواصيها الثلاث مجموعة من الأسواق العشوائية متباينة الأحجام ذات البضائع المختلفة والمتنوعة والطريفة بما في ذلك الأسلحة الآلية الخفيفة. أطلق السودانيون على هذه الأسواق "أسواق دقلو"

بعد اندلاع الحرب بشهرين تقريبًا انتشرت في الخرطوم بنواصيها الثلاث مجموعة من الأسواق العشوائية متباينة الأحجام ذات البضائع المختلفة والمتنوعة والطريفة بما في ذلك الأسلحة الآلية الخفيفة. أطلق السودانيون على هذه الأسواق "أسواق دقلو"، كناية عن كونها معارض لبيع المسروقات التي نهبت من بيوت المواطنين أو "أسواق الله أكبر"، ومن البنوك والمؤسسات والشركات الكبرى، والمعروض عامة نتاج عمليات سرقة واسعة غطت العاصمة بأكملها شارك فيها لصوص من مختلف الجبهات "عساكر من مختلف الجيوش السودانية، وحرامية ونهابون محترفون، وصغار لصوص ونشالون، ومواطنون عاديون؛ دفعت بهم الفاقة إلى مد اليد وأخذ ما في المتناول وكأن الحرب خلصت الجميع من عبء الوازع".. تروى حكايات كثيرة عن هذه الأسواق وأسعارها الحرام المنخفضة، وأساليب العرض الساخرة التي تتبعها مثل عرض المسروقات حسب مناطق سرقتها، فالأسعار ترتفع إن كان منبع البضاعة أحد الأحياء الراقية، وهكذا تقاس أسعار جميع المسروقات هبوطًا وعلوًا وفق آلية عرض صوتي جاذب. هذه أسواق بلا شك تستحق مسمى "سوق التفكك"، لكنها رغمًا عن ذلك أقل سوءًا ودمارًا من سوق أخرى يمكن أن نطلق عليها بلا تردد "سوق إبليس الجهنمية"!

القوة المميتة

حين أعلن قادة القوات المسلحة السودانية في لحظة تهديد دراماتيكية؛ أن صبرهم نفد، وأنهم سيستخدمون -بعد هذا- القوة المميتة لحسم المعركة وتنظيف الخرطوم من الأوباش، أول ما خطر على بالي بعد هذا التصريح هو السؤال التالي: كيف تبدو هذه القوة المميتة؟ وسرعان ما شكلت ذاكرتي سلسلة من الصور التي تصلح أن تكون تعبيرًا سديميًا عن هذه القوة القاتلة. هذه الصور المستدعاة من الذاكرة تداخلت خلال أيام مع صور أخرى انتشرت سريعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، نشرها أنصار الجيش لتدلل على وجود هذه القوة وقدرتها المميتة. بدا الأمر مثل كابوس كافكوي مرعب يتشكل في الدماغ: أرتال وأرتال من السيارات والمركبات الحربية والدبابات والمدرعات العسكرية المنطلقة في الصحارى والغابات، تتمازج وتنصهر فيما بينها وتتشكل مع جرارات ضخمة على ظهورها صورايخ ومدافع بأحجم ناطحات السحاب، وأخرى تجر مدافع بفوهات مثل أفواه الجحيم، كل هذا يذوب ثم يتشكل من جديد في شكل كائن ترانسفورمري عملاق على كتفيه نجوم من نار يطارد صبية وشبانًا في أزقة وشوارع الخرطوم، ثم يشتبك مع ترانسفورمرات أخرى في وديان وهضاب دارفور، ثم أراه يقذف حممًا من نار على أعالي عمارات الخرطوم التي باتت تسكن بنايتها القطط الفزعة.. كنت أصارع لأزيل هذا الكابوس الجهنمي من أمامي وأنا أتساءل: وهل هناك موت أو إماتة أكثر موتًا مما حدث ويحدث الآن؟

تاجر البندقية

مشهد آخر عبثي من مشاهد هذه الحرب اللعينة، لكنه هذه المرة يقترب من الكوميديا الرمادية - الكئيبة: جندي -من الدعم السريع طبعًا- يقبض بيده سلاح رشاش خفيف يهزه بقوة ويقول ساخرًا: "بالله دا سلاح؟ دا سلاح؟!" كررها أكثر من مرة بكل ازدراء واحتقار لنوعية السلاح "المميت" الذي استولى عليه في معركة ما. بالطبع كان يشير من طرف خفي إلى أن أفراد الجهة المقابلة -المساكين- يحاربون بمثل هذه الأسلحة الصدئة التي تجاوزها الزمن، بينما يستخدم هو ومجموعته أسلحة أخرى أكثر حداثة ومرونة وخفة وقدرة على الفتك وإن اشترك السلاحان في كونهما قاتلان؛ إلا أن أداته القتالية أكثر ذكاء وتعاونًا! ربما لم يتساءل هذا المحارب ولو مرة واحدة في حياته العسكرية الملتهبة هذه عن من أين تأتي هذه الأسلحة الحديثة الذكية التي تقترب من كونها أدمغة مبرمجة للقتل. فهو غير معني بهذا السؤال ولا يعنيه السعر الذي بيعت به هذه الأسلحة ولا الجهة الحقيقية التي اشترتها وباعتها وقدمتها أداة للقتل وسفك الدماء.. كم السعر، وكم قطعة صغيرة ذكية الدماغ يحتاجها جيش مكون من مئة ألف جندي أو يزيد؟

في المقابل لا تبدو الصورة كما يحاول تسويقها هذا المحارب الاستعراضي المتعالي والمتباهي بسلاحه الحديث. فالجيش الذي في الجهة الأخرى -القوات المسلحة- يمتلك من الأسلحة ومصانعها ما يتيح له التنافس بجدارة في "أسواق إبليس"، فشركاته ومصانعه تنتج بنادق الرشاش الآلية الخفيفة والمدافع بأنواعها المختلفة ثقيلة وخفيفة، وكل أنواع الذخائر والمركبات المقاتلة سريعة الحركة من شاكلة المدرعات، وربما كانت تمضي بقوة إلى إنتاج طائرات الدرون الذكية لولا الاشتعال المأساتي لحرب الشريكين الدمويين. فما تنتجه أهلها بجدارة لاقتحام سوق الموت، وإن كان مسرحها خلفية العالم، عند أحراش القارة الأفريقية مهدرة الدماء.

الدرون في سوق الله أكبر

هل تحول السودان إلى سوق ضخمة لسماسرة وتجار الموت والدمار والفناء؟ هل تحول إلى سوق الله أكبر واسعة لبيع الحديد والنار والكائنات الآلية القاتلة؟ هل تحول السودان إلى "سوق دقلو" لا مبال تعرض آلياته القاتلة حسب "حضارة" موطنها المنتج؟ أم تراه تحول إلى سوق إبليسية كبرى مسيجة ومشيدة بنيران جهنم تسعى إلى حرق وإفناء الجميع؟

كم عدد طائرات الدرون التي تحلق الآن في سماء الخرطوم ونيالا ومدن وقرى أخرى من بقاع السودان المختلفة؟ لا شك أنه عدد كبير

يبلغ سعر طائرة الدرون الروسية (Zala Lancet) حوالى ثلاثة ملايين روبل ما يعادل (30) ألف دولار للطائرة الواحدة، أما الدرون من ماركة بريقدار (Bayraktar TB2) تركية الصنع فيبلغ سعرها خمسة إلى ستة ملايين دولار. كم عدد طائرات الدرون التي تحلق الآن في سماء الخرطوم ونيالا ومدن وقرى أخرى من بقاع السودان المختلفة؟ لا شك أنه عدد كبير، كبير جدًا إلى الحد الذي دعا أنصار الجيش في لحظة من لحظات الموت العبثي إلى إقامة حفل ضخم في فضاءات الميديا احتفالًا بوصول طائرات الدرون من ماركة بريقدار إلى السودان وأنها بيد الجيش الآن - فالحرب انتهت يا ناس هيا نحتفل! لكن يبدو أن التنافس الحاد في "سوق إبليس" أخرج البريقدار من ساحة البيع والشراء، أو أن سعرها كان أعلى من المتوقع، فحلت بديلة عنها درون أخرى، جاءت هذه من المرة من ساحة "حرب حضارية" تقع في الجانب الآخر من الكرة الأرضية وتشغل العالم هناك بعكس حرب "السودان البدائية"! هذه المرة لم يستطع أحد من الطرفين أن يحتفل، ولا رأينا جنديًا مهووسًا يهاجم بأسنانه المجردة معدن الطائرة، فالدرون اشتغلت بفاعليتها الكاملة عارضة إمكانياتها في أرض السوق الإبليسية: تفرج أيها العالم، تفرجي أيتها البلدان المتحاربة في أفريقيا وآسيا وكل بقعة من الأرض. هنا دقة التصويب، والتصوير والرصد؛ بل الانتحار، فالدرون المشتغلة الآن مثلها مثل "مهاويس داعش" على أهبة الاستعداد لتفجير جسدها المعدني الضامر ضمن من تفجر من بشر ومنشآت ومركبات عدوة.. يا للقوة المميتة!

بانر الترا سودان