31-أكتوبر-2023

ما هي آخر الأخبار يا رجل؟

لقد سقطت المدينة.

أي مدينة؟

نيالا.

نيالا سقطت؟ غير معقول؟

نعم، لقد سقطت وشبعت سقوطًا.

مونولوج: "كنت أعرف ذلك، كنت متيقنًا منه، منذ ستة أشهر كنت أدرك ذلك، ومنذ ستة أشهر كنت أسقط إلى القاع.. القاع السحيق جدًا".

أين ذهبت؟

إلى أين؟ نعم، إلى اللا مكان، نعم إليه.

- مقطع من مسرحيَّة قصيرة لم تكتب بعد.


السكك الحديد

يحكي شقيقي الأكبر، عاصم الصويم، ذكرى مؤثرة من طفولته برفقة الوالد إدريس الصويم –عليه رحمة الله ورضوانه– وعاصم حكاء بارع ومثقف من طراز نادر في هذه الزمان.

يقول متداعيًا: "ذات صباح من أحد أيام العام 1971، خرجت مبكرًا برفقة الوالد إدريس الصويم. كنت في السادسة أو السابعة من عمري، وكان أبي حريصًا على أن أكون أنيقًا ومشعًا في هذا الصباح المهم. أخذني إلى السوق. اشترينا عددًا كبيرًا من (باكوهات) السجائر ماركة بينسون. اشترينا عددًا كبيرًا من علب المربى والطحنية، والخبز والحلويات. اشترينا زوادة سفر تكفي أشخاصًا كثرًا، ثم اتجهنا إلى محطة السكك الحديد في نيالا. ومحطة السكة الحديد بنيالا، مكان حالم موح، يغذي الطفولة بأحلام السفر والرحلة الطويلة البديعة صوب الخرطوم الجميلة. هنا، في المحطة، تبصر بعين الطفولة كيف تبرق اللوعة بأعين المودعين، تحس ألم الفراق وفرح اللقيا، وترى نيالا؛ مجتمع نيالا الهجين بأكمله ملتفًا على الرصيف، لطفاء وظرفاء ومرحابين كان الناس في ذلك الأوان".

إلى أي وقت استمر حصار حامية الفرقة 16 نيالا قبل استسلامها أو سقوطها؟ كم من الأيام، والأسابيع، أو الأشهر، استغرق حصار هذه القلعة الحصينة قبل أن تنهار أمام الهجمات المتتالية لقوات الدعم السريع وشركائها من المقاتلين المحليين؟

"لكن في ذلك اليوم –يحكي عاصم– لم يكن في محطة القطار أحد سوانا أنا وأبي، وعسكري شرطة وحيد يتحاوم قريبًا منا وكأنه يراقبنا. وحيدين على الرصيف، وقفنا ننتظر حضور القطار، أنيقين ومتعطرين، ومحملين بباكوهات السجائر وزوادة المسافرين. وحين دخل القطار -تسبقه صافرته حلوة اللحن- إلى المحطة، كانت الهتافات مدوية تأتي من جوف عرباته، يتردد صداها القوي في المكان، ليرد عليها أبي بهتافات أقوى تتردد أصداؤها في المدينة، لأرددها بدوري محلقة في فضاء المحطة:

ملينا الدفتر الأول

وحنملأ الدفتر الثاني

وحنملأ الدفتر المليون

بكل عزيز وإنساني

كان القطار محملًا بالمعتقلين السياسيين. معتقلو "يوليو" الشيوعيين والاشتراكيين. كان هناك محجوب شريف، وعبدالله علي إبراهيم، والتجاني الطيب، وآخرون من أفذاذ اليسار السوداني، وكان هناك أيضًا ذلك العسكري الذي كان يراقبنا في دهشة، تحولت مع احتدام الموقف وثوريته إلى ما يشبه الخوف. شخصان في محطة القطار، أب وطفله، وقطار مليء بالمناضلين المحروسين جيدًا؛ إلا أن سماء مدينة نيالا ضجت في ذلك الصباح بالثورة وروح التغيير والتوق الأبدي إلى الاختلاف الذي ميزها أبدًا عن المدن الأخرى".

رحم الله أبي، لن يصدق أن هذه المحطة التاريخيَّة العظيمة، شهدت قبل أشهر قليلة أبشع المجازر البشريَّة في حرب السودان الأخيرة. أسر كاملة أبيدت قريبًا من خط السكك الحديد، فقط لأنها اختارت كوبري السكك الحديد ليكون حصنًا لها، ومكانًا واقيًا من الرصاص العشوائي والدانات المتفجرة، لكنهم ماتوا هناك قريبًا من محطة النضال: "السكة حديد نيالا".

حصار القلاع

إلى أي وقت استمر حصار حامية الفرقة 16 نيالا قبل استسلامها أو سقوطها؟ كم من الأيام، والأسابيع، أو الأشهر، استغرق حصار هذه القلعة الحصينة قبل أن تنهار أمام الهجمات المتتالية لقوات الدعم السريع وشركائها من المقاتلين المحليين؟ قد يقول البعض إن الأمر استغرق نحو أسبوعين أو ثلاثة من الهجمات العنيفة والمكثفة شبه الانتحاريَّة خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر، وقد يرى البعض أن الأمر أخذ أبعد من ذلك بقليل أو أقل منه، لكني أرى أن الحصار بدأ منذ اليوم الأول لحرب الخرطوم في الخامس عشر من نيسان/أبريل الماضي. ستة أشهر من الحرب المتواصلة، ستة أشهر من النيران الجهنميَّة، وهجمات المشاة الانتحاريين، وضرب المدافع، وتحليق الطائرات المسيرة، وتفجر المتفجرات، وخروج المكان من دائرة الإسناد العام. الأمر، يبدو من ناحية ما أشبه بمرويات التاريخ عن الحروب القديمة، حصار القلاع والحصون الذي يستمر لأشهر طويلة وربما سنوات، إلى أن يقود اليأس وانعدام الغذاء وجنون الجنود إلى استسلام القلعة أو المدينة. أشبه بتلك الأفلام السينمائيَّة التي تروي عن الحروب الصليبيَّة، والفتوحات الإسلاميَّة، وغزوات هولاكو والفايكنج التي دكت الحصون هنا وهناك في أرجاء العالم القديم. قصص كثيرة وحكايات تسربت عن هذا الحصار والصمود: صراع القادة داخل الحصن، القبض على القائد وتكبليه ورميه في السجن، ذلك الفيديو السينمائي المثير للقائد الآخر الذي يركض بين جنوده مناديًا الموت قبل أن يحفر قبره بيديه، متحديًا، ثم بعد أيام تغتاله أيدٍ ما. هل دفن في القبر نفسه؟ وما يرويه البعض من أبناء المدينة عن صمود الجنود، والتفافهم حول قائدهم متنازع الهويَّة، ودفاعهم حتى الرمق الأخير عن قلعتهم (حامية نيالا)، برغم قلة المؤن، ونفاد الذخيرة، وعنف وشراسة الهجمات، التي ما إن تتوقف إلا وتبدأ من جديد. وهل بالفعل تداعت "مجموعات محليَّة" محملة بأحدث الأـسلحة وبجنون القتال لتساند قوات الدعم السريع في الهجوم الأخير؟ هل خرجت الحامية تمامًا من خريطة الذاكرة لهؤلاء، أم أنها لم تكن سوى "كابوس" يخربش جدران هذه الذاكرة وحان الوقت لدحره والاقتصاص منه؟ ما الذي حدث حقًا داخل حامية نيالا، ومن سيروي لنا حقائق الأيام الأخيرة لسقوط الحصن الحصين؟

البيوت المقابر

في ركن قصي من مطعم سوداني في إحدى دول اللجوء السوداني، التقيت امرأة حزينة، الدموع تلمع في عينيها دونما سبب واضح. جلست إليها وتحادثنا قليلًا، قبل أن تروي لي قصة هروبها من نيالا خلال الشهر الثاني من الحرب. قالت إن ابنها الأكبر تعرض للطعن بسكين أثناء ذهابه لشراء الخبز، وأن محاولة إسعافه أخرتهم قليلًا، وإلا لكانوا من أوائل المغادرين للمدينة. قالت: "كنا قد انتهينا للتو من بناء البيت الجديد، طابقان، وطاقم جديد من الفرش، وسيارة جديدة. طابق أرضي بأكمله لنا، أنا وزوجي وأولادي الأربعة، والطابق الأول أجرناه مفروشًا لعائلة كبيرة، ماتت كلها، قتلتها الدانة المتفجرة التي أصابت البيت في ذلك اليوم، تسعة أشخاص تركناهم موتى في الطابق الأول من البيت وخرجنا، أنا وأولادي وأبوهم نحو الشارع. خرجنا جريًا، لم نحمل شيئًا، تركنا كل شيء خلفنا، شقاء العمر، والطمأنينة والحياة.. كل شيء تركناه وراءنا في بيت حلمنا، الذي تحول إلى مقبرة تسكنها أرواح تسع ضحايا، ماتوا هكذا؛ سَمْبَلة!".

تلك قصة قد يراها البعض مبالغًا فيها بعض الشيء، محبوكة جيدًا والقصد منها التأثير وخلق مستوى عالٍ من الصدمة، لكنها حقيقيَّة، وما نقلته الكتابة يقل كثيرًا عن حجم المأساة المتمثلة في هيئة تلك المرأة الحزينة الباكية، التي فقدت كل شيء ولم تفقد شيئًا. كل شخص من الخرطوم، أو نيالا، إن سألته ربما سيروي لك قصة مشابهة عن الموتى الذين قبروا داخل فناءات المنازل، أو القتلى المنسيين داخل بيوتهم وشققهم إلى أن تحللت أجسادهم، أو نهشتها الكلاب من دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منها. في نيالا تنوح البيوت الآن، تبكى قتلاها، يتيمة وحيدة وبائسة.

ذكرى الحامية

قبل سنوات طويلة، كنا صغارًا نعبر من أمام أبواب "حامية نيالا"، وإحساس بالرهبة والإعجاب يكسونا، فهنا يوجد ضباط الجيش الأنيقون وسيمو الطلعة بكل رمزيتهم السلطويَّة الجبارة، وهنا يوجد أيضًا أولئك المقاتلون الشرسون العائدون للتو من الجنوب، أو الذين هم في حالة تأهب واستعداد للسفر نحو "الجنوب"، حيث الحرب التي تحولت من كثرة استمرارها هناك إلى شيء طبيعي، أو كأنها دين مستحق على كل جندي تدرب في هذا المكان أو جذره من هذه الأرض. وفي سنوات لاحقة، إبان شبابنا الأول؛ وطور الشباب في نيالا، طور الجنون والفرح والتعلم من كل مشرب دون ارتواء، في حفلات "البارتي" البهيجة منتصف الثمانينات؛ صادقنا جنودًا يتبعون للجيش، يأتون ليلًا متسللين من أسوار الحامية، كانوا راقصين مجيدين، خفيفي الظل، يلعبون الكاراتيه، ويحبكون رواية النكات، جاءوا من كل مكان، الشمال، والوسط، وكردفان، وجبال النوبة، ومن الجنوب أرض الحرب ذاتها في ذلك الأوان، يقضون الليل برفقتنا ثم يتسربون عائدين مع الفجر إلى أسوار "الحامية" المحميَّة. الآن أتذكرهم، مات منهم جنوبًا من مات، ونزل منهم من نزل بأرض نيالا وذاب في سوقها وحياتها الضاجة، وجن منهم نفر قليل تائهًا في دروب الحياه الوعرة. لا أحد منهم باق هناك..

حامية نيالا، أغلقت الأبواب الآن، أو هدمت الأسوار، فالأمر سيان.

بانر الترا سودان