26-ديسمبر-2019

ثوار يحتفلون بالذكرى الأولى للثورة (Getty)

الثورة ضد الدكتاتوريات هي الفعل السياسي الأعظم الذي يمكن أن تقوم به الشعوب، فهي تدفع بنفسها إلى نقطة اللاعودة في مسعى نبيل وحالة مفارقة لطبيعة الإنسان المجبول على غريزة البقاء، فيضع الإنسان فيها حياته مقابل الحرية والخلاص من القيود التي أثقلت عاتقه.

خرج السودانيون والمجتمع السياسي تحديدًا من حِراك أيلول/سبتمبر 2013، بخيبة أمل وإحباط كبيرين انعكسا بصورة ما على تفكير الأحزاب السياسية

وللسودانيين تجربة تاريخية ذاخرة بالبطولات تمتد منذ عهد الثورة المهدية مرورًا بمناهضة المستعمر الإنجليزي والدكتاتوريات العسكرية، إلا أن الكفاح من أجل الديمقراطية والحكم المدني في ثورة كانون الأول/ديسمبرظل مستمرًا حتى بعد إسقاط نظام الإنقاذ. والذي لم يكن بالأمر اليسير حتى حِراك أيلول/سبتمبر من العام 2013 السلمي والذي قابله النظام بعنف غير مسبوق سقط خلاله أكثر من (250) شهيدًا في ثلاثة أيام فقط.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل في بريد النخبة (3)

خرج السودانيون والمجتمع السياسي تحديدًا من حِراك أيلول/سبتمبر 2013، بخيبة أمل وإحباط كبيرين انعكسا بصورة ما على تفكير الأحزاب السياسية السودانية حول خيار الثورة الشعبية كوسيلة لإنهاء سيطرة الإنقاذ على مجمل الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية، فانخرطت بعض القوى السياسية في حوار دون شرط ولا قيد مع نظام المؤتمر الوطني فيما عرف بعملية الحوار الوطني واتجهت أحزاب أخرى متحالفة مع حركات الكفاح المسلح في تفاوض مباشر مع النظام  بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا وظلت باقي الأحزاب في موقفها المعلن لإسقاط النظام بالثورة الشعبية.

في المقابل كانت شريحة الطلاب والشباب في حالة زهد شبه تام عن أي أفق وارتفعت الأصوات الداعية للخلاص الفردي والهجرة كهدف يشغل محور تفكير الشباب السوداني، مع حالة عزوفٍ تام عن الفعل العام أو حتى المشاركة في كل ما هو ذو علاقة بالعمل العام لدرجة جعلت الاقتراع في صناديق انتخابات اتحادات طلاب الجامعات يقتصر على طلاب النظام فقط.

إلا أن نهايات العام 2018 خالفت كل التوقعات حين خرج الشباب السوداني في مختلف المدن السودانية على نظام الإنقاذ وقاد ثورة سلمية بآمال وطموحات كبيرة وبدوافع مختلفة، وكان إسقاط النظام هو الهدف والهم المشترك بين الشباب السوداني، وبالفعل بعد أكثر من أربعة شهور استطاع الشعب السوداني عامة وفي مقدمته الشباب من الجنسين إنجاز التغيير وإسقاط واحدة من أعتى الدكتاتوريات في أفريقيا والشرق الأوسط.

والآن وبعد عام من انطلاق شرارة الثورة السودانية في كانون الأول/ديسمبر 2018، تبقى الأسئلة المُلحة وهي النقاط الجوهرية التي من خلالها يمكن أن نتنبأ ولو قليلًا بسناريوهات المستقبل، أين هم شباب الثورة؟! وما هو  دورهم في المشهد السياسي؟! وكيف يكون عليهم الرهان في المستقبل في بلاد تزيد فيها نسبة الشباب عن (67%) من التعداد الكلي للسكان السودانيين حسب التقارير الحكومية؟

اقرأ/ي أيضًا: في عيدها الأول.. لماذا تنتصر ثورة السودان؟

بعد سقوط نظام الإنقاذ في نيسان/إبريل 2019، لم يكن سهلًا على الشباب السوداني استيعاب تعقيدات السياسة السودانية والتقاطعات الإقليمية والتحديات الاقتصادية والخطر المحدق ببلد قد تنفجر فيه الأوضاع في أي لحظة، لكن هذا التعقيد والاشتباك في المشهد السوداني زاد من الوعي السياسي والإلمام بالتاريخ السياسي لدى الشباب السوداني.

ظهرت أصوات كثيره تنادي بتمثيل معتبر للشباب في أجهزة الفترة الانتقالية وذهبت أصوات أخرى تنادي بالعمل الجاد في لجان المقاومة التي تتواجد في كل حي ومدينة سودانية باعتبارها أنها أجسام ذات تعبير حقيقي عن الشباب السوداني. لكن تبقى هذه الأصوات خافتة في ظل سيطرة النادي السياسي السوداني القديم، مع العلم أن هذه الأحزاب لم تعد ملاذًا للشباب منذ زمن بعيد ولعل ذلك يرجع إلى حالة التضييق الأمني التي كانت تمارس على الأحزاب من قِبل أجهزة النظام البائد، بالإضافة لعدم قدرة الأحزاب تقديم نفسها كبوابة للوعي واجتماع حديث يتعالى عن القبيلة والطائفة والعرق.

كذلك لم تستطع الأحزاب أن توجد مناخًا ديمقراطيًا بداخلها يسمح للشباب بالصعود في السلم التنظيمي أو إضافة الأفكار الجديدة، فضاقت هذه الأحزاب حتى بمن فيها من المثقفين وأصحاب المراجعات والرؤى الجديدة.

شكلت منصات التواصل الاجتماعي برلمانًا مفتوحًا للثورة السودانية يضم أصواتًا مقدرة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار يتناول ويتفاعل مع مختلف القضايا في الساحة السودانية.

لكن من الملاحظ وبعد عام على الشرارة الأولى للثورة السودانية أن الساحة السودانية تشهد انقسامًا واصطفافًا آيديولوجيًا، وهو ليس بالأمر الجيد والثورة ما زالت تبحث عن موطئ قدم يُمكنها من القفز نحو التحول الديمقراطي.

اقرأ/ي أيضًا: هوس الامتلاك.. قراءة في سيكولوجيا "الزحف الأخضر"

بعد تحول مسار الثورة السودانية نحو الفعل السياسي والذي استمر طويلًا عبر عمل تفاوضي بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والندوات الجماهيرية التي تقيمها لجان المقاومة بالأحياء السكنية وورش العمل النقابية هي المنابر المتاحة للشباب السوداني، ليعبر عن تطلعاته وأشواقه وكذلك مخاطبة السلطة الانتقالية التي تشكلت بعد الاتفاق على الوثيقة الدستورية بين قوى إعلان الحرية والتغيير والمجلس العسكري .

إلا أن وسائل التواصل الاجتماعي وهي الفضاء المفتوح، لا يمكن أن تمثل حاليًا أكثر من وسيلة ضغط تجبر السلطة على السير في المسار الصحيح وهو ما حدث في عدة مواقف، لكنها وحتى اللحظة لم تُشكل مؤتمرًا عامًا للشباب السوداني على أرض الواقع يقوم على الحد الأدنى من الالتقاء ويفرض أجندته في الساحة السياسية على غرار مؤتمر الخريجين إبان فترة الاستعمار الإنجليزي، فأكتفى الشباب السوداني بوجوده كجماعة ضغط ليس لها وجود حقيقي على أرض الواقع، مع العلم أن صناعة الأجندة بالإضافة لدور وسائل التواصل الاجتماعي تحتاج إلى منظومة عمل حقيقية على أرض الواقع وهو ما نجح فيه الشباب السوداني قبل وبعد سقوط نظام الإنقاذ حتى اعتصام القيادة العامة للجيش، قبل الاتفاق بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري الانتقالي.

يبقى الرهان على تماسك الفترة الانتقالية والعبور نحو التحول الديمقراطي رهينًا باستمرار الشباب كمكون أساسي في العملية السياسية السودانية على أرض الواقع والانتقال من أفق الاحتجاج والمطالب إلى العمل السياسي وفرض الأجندة التي تعبر عن تطلعاتهم، فالتناحر الآيديولوجي والغبائن التاريخية تقل كلما توجهنا نحو الأجيال الشابة والتقارب الفكري والهم المشترك نحو الاجتماع السياسي السوداني وإنجاز اختراق تاريخي، تزيد فرصه كذلك وسط الفئات الشابة، فالتواصل بين الشباب السوداني وتقديم الهم المشترك والتلاحم الذي حدث في الثورة السودانية يمكن أن يمثل مخرجًا حقيقيًا لإنجاز السلام العادل ووقف الحرب والخروج من الضائقة المعيشية ومعالجة الأخطاء التاريخية والاتفاق على حد أدنى على ماهية الدولة السودانية واستيعاب التعدد والقدرة على إدارة الاختلاف.

النخبة الشبابية والطليعة السياسية السودانية مطالبة بدور أكبر من المراقبة والتعليق على الأحداث اليومية والتفاعل سلبًا وإيجابًا مع أفعال السلطة الانتقالية

فالنخبة الشبابية والطليعة السياسية السودانية مطالبة بدور أكبر من المراقبة والتعليق على الأحداث اليومية والتفاعل سلبًا وإيجابًا مع أفعال السلطة الانتقالية والانتقال بالشباب نحو الممارسة السياسية بأدوات السياسة المعروفة، كذلك مطالبة بوضع حجر الزاوية لنادي سياسي واجتماعي وثقافي جديد يستوعب تلك الطاقة الشبابية التي فجرتها ثورة كانون الأول/ديسمبر في وطن أنهكته الحروب وفساد الدكتاتوريات وتخبط النخبة المتعلمة لما يزيد عن (60) عامًا، وطن يحتاج لإعادة صياغة وبناءٍ جديد يمكن السودانيين من السير نحو المستقبل بآفقٍ جديدٍ كليًا يحافظ على تماسكه ووحدة أراضيه، أما إذا اكتفى الشباب السوداني بدور المراقب لا الفاعل فهذا يعني استمرار مسلسل فشل النخبة والأحزاب وهو ما سيقود إلى المزيد من الأزمات والحروب الأهلية والانفصالات وعودة الحكومات العسكرية الدكتاتورية من جديد.

 

اقرأ/ي أيضًا

تكامل أدوار مواقع التواصل الاجتماعي ولجان المقاومة

ديماغوغية "موكب الزحف".. أو أفول الإسلاموية