بناء على مقالنا السابق حول سؤال الاستقرار ومركزيته في الفعل السياسي للنخبة وتصدع الذات الفاعلة سياسيًا بين النخبة الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي وكتلة رجل الشارع ومطالبه البسيطة المباشرة، ننتقل مباشرة إلى سؤال عن كيفية ولادة الفعل السياسي أولوياته؟ وما انعكاسات ذلك على الاستقرار السياسي وقضية التوافق وتقليل الاستقطاب؟ وما أثر ذلك على قضيتنا الأسمى وهي؛ بناء مجال سياسي جديد بثقافة سياسية مختلفة.
السلام من القضايا التي يجب دعمها والمضي قدمًا في تحقيقها، بإيقاف الجرح والنزيف الذي تسببت فيه الحرب
عرضت الحكومة الانتقالية أولويات مرحلتها عبر نقاط عديدة ابتدأتها بقضية السلام كأولوية أولى، وهي من القضايا التي يجب دعمها والمضي قدمًا في تحقيقها، بإيقاف الجرح والنزيف الذي تسببت فيه الحرب. ولكن في ذات السياق يمكننا تقسيم الأولويات إلى نوعين: أولويات رسمية وهي التي تطلقها الجهات الرسمية كخطة عامة لسياساتها وأولويات غير رسمية وهي التي تتشكل من خلال عمليات التفاعل اليومي للرأي العام. وهذا التفاعل يكون أحد ميادينه الرئيسية عبر الفضاء الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي كما أسلفنا.
اقرأ/ي أيضًا: في عيدها الأول.. لماذا تنتصر ثورة السودان؟
في الغالب بعد الثورات تسود حالة من التشفي العام والغضب العارم على كل ما يمت للنظام السابق بصلة، ويكون الصوت الأعلى دومًا وأبدًا هو صوت الهدم والمزايدة والتشفي، وعمومًا هذه الحالة طبيعية فيما بعد الثورات، لكن الغير طبيعي هو أن تطول هذه الحالة وتكون لها قدرة توجيهية لمسارات الفعل السياسي التي من المفترض أن تمسك بناصية البلاد والمجتمع إلى الأمان. سيادة حالة التصفيق العامة على وسائل التواصل لكل أفعال مسح آثار النظام السابق شيء طبيعي، فبالإضافة لقبولنا لأهمية محو أثر النظام السابق عن البلاد وتصفية تمكينه، يهمنا كذلك وبصورة كبيرة ألا نغرق في غمرة التصفيق وأن نظل نسأل الأسئلة الصحيحة، وهي في الغالب من شاكلة الأسئلة البنائية لا الأسئلة الهدامة، وجميعها تصب في صالح استقرار هذه المرحلة الانتقالية الحساسة التي تهيئ الجو لما بعده، وهي مثل:
قضية التوافق السياسي والمجتمعي
لم يرض عدد معتبر من الثوار الجذريين على الاتفاق الذي تم بين المجلس العسكري بمكوناته وقوى الحرية والتغيير، حيث وصفه البعض بالهبوط الناعم وما إلى ذلك، وأعتقد أن أقرب تسمية لواقعنا هي أن نسميه "التسوية السياسية"، وهذا أمر طبيعي تفرضه توازنات السياسة. فلا القوى المدنية تستطيع تجاوز القوى العسكرية كليًا ولا القوى العسكرية تستطيع التجاوز الكلي للقوى المدنية المحركة للشارع، وبالتالي فالاتجاه الأنسب هو اتجاه التسوية التي تمت مهما اتفقنا أو اختلفنا على محتواها وحدودها وبعض محتوياتها.
لكن في سياق قضية التوافق السياسي والمجتمعي هناك تسوية وتوافق من جانب آخر، هو التوافق المجتمعي وهو يكون في الغالب بين القوى المدنية بعضها البعض، ولا أعني هنا التوافق أو التسوية مع حزب النظام البائد وإنما أعني المكونات الإسلامية التي لها ثقل اجتماعي معتبر، فحالة الهياج الثوري الشديد والغير مرشد تجاه كل ما يمت للاتجاه الإسلامي بصلة هي حالة غير صحية وتحتاج إلى ترشيد، فعندما نتحدث عن اتجاه إسلامي فنحن نتحدث عن إسلاميي الرصيف (شباب المؤتمر الشعبي الذين خرجوا على حزبهم وانخرطوا في الحراك وضحوا في الثورة مثلًا أو الأكاديميين والسياسيين الإسلاميين الذين خرجوا وانشقوا عن النظام البائد ومنابر الجمعة وبعض اتجاهات المتصوفة وغيرهم).
التركيز الآيديولوجي على اتجاه معين أو النبرة العدائية تجاه قضية "الشريعة" أو التصريحات الوثوقية تجاه قضية مثل علاقة الدين والدولة والفصل الحتمي بينهما، كل ذلك من شأنه أن يوتر الفترة الانتقالية ويقود إلى القضية التالية:
اقرأ/ي أيضًا: رسائل في بريد النخبة (2)
الاستقطاب السياسي الآيديولوجي
يتحدث البروفيسور حسن حاج علي أستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم في ورقته البحثية المعنونة "مراحل انتقال الثورات: مدخل مؤسسي للتفسير"، عن أن أحد إشكاليات ما بعد الثورة المصرية كانت تكمن في انشقاق المجتمع السياسي في فترة كان هو أحوج ما يكون فيها للالتئام المجتمعي وقفل كل الطرق والذرائع على البيان رقم واحد "الانقلاب العسكري" والذي دومًا ما يأتي مدعوما بحجج ومبررات انقسام وفشل المجتمع السياسي، الاستفزاز الآيديولوجي لرمزيات فصيل اجتماعي معين دون آخر من شأنه تأجيج هذا الاستقطاب حتى عند أولئك الذين زهدوا في السياسة منذ وقت طويل، فشعور تهديد المعتقد والاتجاه الفكري يقود الفاعل السياسي والاجتماعي إلى الانخراط بقوة في الشأن العام مدافعًا عن اتجاهه.
ما يشترك في التصفيق له بين مجتمع الخرطوم ومجتمعات الأصقاع البعيدة في بلادنا هو رفع عبء المعيشة والتقدم الاقتصادي الذي لا يتأتى إلا بالاستقرار السياسي والاجتماعي.
وهنا يمكننا الاستناد إلى إحدى المسلمات التأسيسية في مقالنا الأول وهي؛ إن في شكل الدولة الحديثة الماثل والحاكم على اجتماعنا السياسي في عصرنا الحالي، ما يغنينا عن هذا الاستقطاب ولو مرحليًا، فالجانب الخدمي هو ما يهم المواطن البسيط وتخفيف الضائقة المعيشية عنه، وهذا الانقسام والاستقطاب في المجتمع السياسي يعطل قضية المعيشة والتقدم، وأقتبس هنا من كتاب "يوميات إجهاد الثورة" لأحد أبرز وجوه الثورة المصرية وهو الدكتور محمد يسري سلامة عليه رحمة الله، وهو يتحدث ناصحًا المجتمع السياسي المصري- وما أشبه المجتمع السياسي المصري بالمجتمع السياسي السوداني لدرجة تجعلك تعتقد أن ما كتب عن تلك الفترة مكتوب أيضًا لواقعنا- يقول "إنني أدعو جميع المتنافسين على المقاعد والمناصب لأخذ جولة في عشوائيات مصر وأحيائها الشعبية ونجوعها ليذكروا حقيقة أن الشعب يعيش في وادٍ وجميع النخب السياسية تعيش في وادٍ مختلف تحت وطأة الجهل والفقر والمرض، لعل ذلك يدفعهم لفهم أولويات هذا الوطن وحاجاته الملحة ليسود منطق التكاتف والتآلف بدلًا من الصراع والمغالبة". قال الدكتور هذا الكلام في نيسان/أبريل 2012، ومن يرى المآل المؤسف للثورة المصرية لا يكاد يظن أن ثمة أصوات عقلاء قد ضاعت وسط صخب الجماهير وليتهم استمعوا له ولكثيرين غيره، ولكن كما قال الشاعر "بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى.. فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد".
اقرأ/ي أيضًا