20-ديسمبر-2019

جانب من موكب الزحف الأخضر (Getty)

يدرس علماء النفس، علم نفس الحيوان المقارن لفهم سلوك البشر، خصوصًا في الفقاريات العليا كالشمبانزي والغوريلا باعتبارها قريبة في السلم التطوري من البشر، فبينما للكثير من الحيوانات ما يعرف بمجال البيت، أو المجال الحيوي للصيد والغذاء والتكاثر، فإن الغوريلا عادة لها مجال حيوي واسع، وتعتبر من الكائنات الرحل التي لا تتقيد كثيرًا بالمجال الحيوي. وسيكولوجية المجال الحيوي عند الحيوان لها تطبيقات كثيرة في علم النفس الاجتماعي، استشهد بها علماء كثر، ككونراد لورنتس في فهم النزاعات والحروب بين البشر.

حين تشعر بالضيق لأن شخصًا ما يجلس في مقعدك المفضل في المطعم أو فصل الدراسة، فهذا شيء له علاقة بأنك تعتبر المقعد منطقة تخصك

النزوع للسيطرة المناطقية يحتل موقعًا عميقًا في الدماغ البدائي الذي لديه نزوع نحو الحماية والبقاء، فمن أجل الحفاظ على المجال الحيوي قد يضطر الحيوان للقتال والعنف، لتأكيد أحقيته بالمكان وفي الغالب للمجال الحيوي علاقة بالبقاء، إذ أنه يرتبط أيضًا بالتكاثر وخلق بيئة آمنة لتربية الصغار.

حين تشعر بالضيق لأن شخصًا ما يجلس في مقعدك المفضل في المطعم أو فصل الدراسة، فهذا شيء له علاقة بأنك تعتبره منطقة تخصك، وبالطبع هنالك فرق بين منزلك، منطقتك الأساسية، ومقعد تفضله في مكان عام، ولكن رغم ذلك هنالك هذا النزوع للسيطرة المناطقية عميقًا في الدماغ البدائي الذي لديه نزوع نحو الحماية والبقاء، وبالطبع مفهوم المجال الحيوي في الإنسان مفهوم متحول من مجرد مكان، ربما إلى شخص آخر أو سيارة او وظيفة أو نحوه، و يتعقد مفهوم التهديد من مجرد منافسة حقيقية على الغذاء أو الأنثى، لمنافسة قد تكون حقيقية أو متوهمة على هذا المجال الجديد. وبالتالي يؤدي هذا الشعور بالتهديد إلى ردود فعل عنيفة أو متطرفة أحيانًا على حسب طبيعة ومصدر التهديد، كما تعتمد أيضًا على قيمة هذا المجال وما يمنحه من مزايا ومكاسب، وبالتالي متى ما رسخت قيمة المجال الحيوي لدى الشخص ليس من المستغرب ما يظهره من ردود فعل عنيفة أو متطرفة.

اقرأ/ي أيضًا: ديماغوغية "موكب الزحف".. أو أفول الإسلاموية

تابع السودانيون بدهشة كبيرة الدعوات للخروج لما أطلق عليه اسم "الزحف الأخضر"، ردًا من منسوبي النظام البائد على قرارات حل الحزب وإنهاء سياسة التمكين في البلاد، والتي جعلت المال والسلطة والوظيفة وكل الصلاحيات في يد قلّة التزمت بالولاء للرئيس المقتلع وحكومته، ومصدر الدهشة أنّ العالم كله كان شاهدًا على ثورات الشعب السوداني التي استمرت (30) عامًا توجت بثورة كانون الأول/ديسمبر المباركة، والتي نزف فيها بنات وأبناء الشعب السوداني الغالي من الدماء من أجل الحرية والكرامة، في استفتاءٍ واضح لخروج الحزب الحاكم ومنسوبيه من قلوب السودانيين مغضوبًا عليهم بما اقترفوه في حق البلاد والعباد والمعبود.

غير أن هذه الجماعة، سرعان ما أعادت تنظيم صفوفها مستغلة قيم الثورة السمحاء، وانشغال الحكومة الانتقالية بإدارة البلاد التي جرّفوها هم من قبل وتركوها على شفا جرف هار، وخرجت علينا اليوم بشعارات دينية من شاكلة (لا لدنيا قد عملنا/نحن للدين فداء، فليعد للدين مجده/أو ترق كل الدماء)، و(لن يجمّد حزب محمد) ونحو ذلك من شعارات تجعل الناس تتساءل: هل هم مدركون لما يقولون؟ أين كان حزب محمد من دماء الإبادات الجماعية، واغتصاب النساء والرجال، وتعذيب المعتقلين، وفصل الناس وتشريدهم وسرقة البلاد، والرشوة والمحسوبية، وأكل أموال الناس بالباطل والفساد في الأرض.. إلخ، من الذي أحال "حزب محمد" إلى خرق ترتديها النساء ولحى زائفة وجرّده من قيمه الروحية السمحاء في العدل والمساواة والكرامة والحرية والسلام؟

هذه الأسئلة وغيرها هي جانب من دهشة الناس الذين يرون جماعة انكشفت عورة مسلكها وهي تدري أنها عارية، ولكنها تتصرف بطريقة من شدّة تجاهلها لفكرة عريها، تجعل الناس تتساءل هل هم مدركون لحقيقة وضعهم؟ خياراتهم؟

اقرأ/ي أيضًا: الدعم السريع.. حصاد دولة ما بعد الاستقلال

في كثير من الأحيان يدهشنا البشر بردود أفعالهم وطريقة سلوكهم، لأننا نتوقع أن يفكروا بصورة "منطقية" والحقيقة أن البشر يفكرون بطريقتهم، والتي قد تكون عرضة لانحيازات معرفية تحكم سلوكهم وقراراتهم، تتم في قالب معقد من العمليات النفسية الأخرى.

فبعد المفاصلة الشهيرة بين الإسلاميين وما عرف لًاحقا بالمؤتمر الوطني، انحسر الغطاء الأخلاقي والديني المزعوم عن النظام البائد وظهر على حقيقته، مجرد تحالف باهت بين الانتهازيين وأصحاب المصالح والكثير من العاطلين عن الموهبة والكفاءة، والذين كافأهم الحزب على ولائهم بالمال والسلطة والامتيازات للكثير من السنوات، التي جعلتهم يركنون إلى حقيقة أن هذه البلاد هي مجالهم الحيوي للغذاء والتكاثر. فالشمبانزي التي لم تكن ملتزمة كثيرًا بفكرة المجال الحيوي، عندما أجريت عليها بعض الاختبارات التي تضمنت منحها مكان تحصل فيه على نصيب وافر من الموز يوميًا ولفترة كافية طور المكان عندها هذه النزعات الأولية، وصار هذا المكان هو مجالها الحيوي الذي تستميت في الدفاع عنه لأنه يحفظ وجودها بالغذاء والتكاثر، وفي تقديري تنفذ بعض الأشخاص العاطلين عن الكفاءة، والعاجزين عن المنافسة الشريفة في مؤسسات الدولة المختلفة بالشهادات والدرجات العلمية المناسبة، وغياب المحاسبة والتشجيع على الفساد بقوانين التحلل ونوعه وفساد أولي الأمر، واستمرار هذا الحال لسنوات عديدة رسخ مفهوم المجال الحيوي، الذي فيه منسوب الوطني ليس مجرد شخص ثري عادي، بل هو شخص ذو ذات متضخمة ونفوذ، يأمر فيطاع، وتطوع له القوانين، ويبرر له المعوج من السلوك، وتتم تغطية أخطائه الكبيرة والصغيرة، وحوله بطانة يتملقونه ويسهمون في خلق تصور وهمي عن الذات، متضخم في الظاهر لكنه واه وهش ومفرغ من الداخل، حيث لا فكر ولا قضية ولا معنى، وأي تهديدٍ حقيقيٍ أو متوهم لهذه الذات الهشة، يفجر مكامن الخوف ويظهر كل ماكينزمات الدفاع النفسي غير الناضجة، من إنكار للسوء وإسقاط وإزاحة للعنف على كل من يسلطهم الله عليه.

وهذا يشرح ردود الفعل العنيفة من اغتيالات وتعذيب واغتصابات وعنف ونحوه، كونها حسم لمواطن التهديد النفسي المادي المتمثل في الثورة والثوار، الذين ينازعونهم ما يعتبرونه هم مجالهم الحيوي بالتملك والامتياز.

الصيحات الدينية "للزاحفين" محاولة لردم الفراغ الروحي وبحث متألم عن معنى وهوية، وإسكات للأفكار النقيضة التي ترى الواقع الثوري

إن الصيحات الدينية التي أطلقها الزاحفون هي محاولة لردم الفراغ الروحي، وبحث متألم عن معنى وهوية، ومحاولة لإسكات الأفكار النقيضة التي ترى الواقع الثوري وتدرك أنها النهاية الوشيكة.

أوضحت تطبيقات النظرية المعرفية في علم النفس، أن هنالك علاقة لصيقة بين الطريقة التي يفكر بها الإنسان وشعوره وسلوكه، إذا تأخر الرجل من منزله مثلًا فإن "شعور" والدته بالخوف والقلق هو في العادة جراء فكرة عابرة "ربما حدث له شيء"، وبالتالي قد يكون سلوكها هو أن تتصل عليه عشرات المكالمات أو تتصل على رفاقه ومن يتحرك بصحبته، وطريقة تفكير الأم إذا حللناها وجدناها مليئة بالانحيازات المعرفية التي أربكتها العاطفة، أو القلق الزائد الذي يجعلها تفكر بطريقة متشائمة، أو تقفز إلى النتائج الاعتباطية "طالما لم يرد علي المكالمة فلابد أنه في خطر"، ملغية كل الاحتمالات الأخرى القريبة والمطمئنة: كأن يكون هاتفه مغلق"، أو "تركه في مكان"، أو " لديه اجتماع والهاتف في الصامت".

الشيء الذي يجعل شخصًا يلغي الحقائق البديهية والماثلة للعيان "من أن الشعب خرج عليه لأنه فاسد وفاشل"، والدليل على ذلك كل هذه الثورات في أركان البلاد المختلفة، مسلحة وغيره والآلاف الذين ماتوا وهم يناضلون ضده، ويستبدلها "بفكرة أنه حامي الإسلام ولم يخرج ضده إلا الشيوعيون والعلمانيون ومعهم الأغلبية الصامتة"، -من سمّاها حسين خوجلي 2% في أفضل الأحوال، ورد عليه شاعر الثورة أزهري محمد علي ساخرًا ومؤكدًا على ثقل الحشود: (قول لي حسين هناك في الشرفة/حمد الله الوصلنا سلامة/زي يوم الوقوف بي عرفة/والناس الهناك أيامها/شاهرين الهتاف سلمية/رافعين الأيادي علامة/اثنين بالكتير في المية والباقي بنتمو شهامة).

عملية التقليل من الحشود التي تفوه بها حسين خوجلي، وطريقة تفكير الذين زحفوا ضد الشعب، هي ما أسماها ليون فستنغر خيار التفكير البديل، الذي يختلقه الشخص ليبدد المشاعر غير السارة المصاحبة للفكرة الأخرى، "فخروج الناس بالملايين للشارع باذلين دماءهم ليسقط النظام البائد" تخلق شعورًا غير سار بالرفض، والتهديد للذات التي تصحو على حقيقة أنها مبغوضة بسبب ما اقترفته من شرور وآثام، تناقض فكرة "أنها حامية الإسلام والخيرة والمحبوبة"، ولإزالة هذا التناقض الإدراكي كما يسميه "فستنغر" يولد الشخص فكرة بديلة تطمئن ألمه ومخاوفه، وهي إما أن تقلل من حجم الحشود أو تجردهم من إنسانيتهم وتحيلهم إلى شيء في عرف الزاحفين، كفر وشيوعية ويجب سحقه وعدم الاكتراث لما يقوله.

اقرأ/ي أيضًا: الثورة السودانية.. حراكُ مستلهٌم من إرثٍ تليد

التناقض الإدراكي هو لحظة مهمة من لحظات البشر، لأنها لحظة تتيح فرصة للتغيير، فالشخص الذي يعيش وهم أنه خير رغم ما ارتكبه من شرور وما يسوقه من مبررات، حين تواجهه غضبة الشعب الذي يضعه أمام تناقض واضح، يثير لديه مشاعر مؤلمة، كان من المفترض أن تطرح لديه أسئلة عن أخطائه التي ارتكبها، أو توقظ أي بذرة للخير فيه وتستدعي شعور الذنب والندم، بدلًا عن حالة الإنكار والانحيازات، والأخطاء في التفكير التي تجعل الإنسان يتمادى في غيه وسوء سلوكه.

الشخص الذي يصحو ضميره ينشغل بالتوبة والاستغفار من الله والشعب، ويرجو النجاة من الله وغضبة الشعب ومحاسبة القانون، حتى يطمئن شعور الألم الناجم من حقيقة أنه ارتكب الكثير من الآثام والشرور في حق الشعب و الوطن.

حين نهدئ التناقض الإدراكي بالفكرة التصالحية البديلة ونتحول للإنكار، نفوت فرصة المراجعة والتغيير، وفي حالة منسوبي النظام البائد الذين يصرخون لدين محمد، هم حقيقة يبرهنون على أنهم يقفون في لحظة إنكار مظلمة تعيق نموههم الروحي، وتهربهم من ذنوبهم ومحاسبة أنفسهم قبل أن يحاسبوا في دين الله ودين الوطن.

من المهم أن نفهم أن الذين زحفوا لديهم معركة بقاء والثورة تهدد أمنهم المادي والنفسي، إذ أنها ستحاسبهم على ما اقترفوه وما كسبوه دون وجه حق

حين يدافع الحيوان عن مجاله الحيوي، فإنه يخوض معارك محسوبة يعتمد فيها على تقديره لحجمه وسلاحه وحجم وسلاح الخصم، وخبرته الماضية في مواجهة هذا الخصم أو خصم شبيه، وقد يلجأ للحلفاء في مساندته للقضاء على خصمه، ينسحب الحيوان أحيانًا إذا كان سيصاب إصابة عنيفة، أو طالت مدة القتال وأهدرت طاقة كبيرة فيه، أي أنه يقرر المواصلة في الدفاع عن مجاله الحيوي أحيانًا ما دامت المكاسب أكبر من الخسائر.

من المهم أن نفهم أن الذين زحفوا لديهم معركة بقاء والثورة تهدد أمنهم المادي والنفسي، إذ إنها ستحاسبهم على ما اقترفوه وما كسبوه دون وجه حق، ولأنهم يشعرون بالاستحقاق وأن البلد مجالهم الحيوي، وأن الشعب منازع في هذا الاستحقاق فسيستميتون في الدفاع عن مجالهم الحيوي، وقد يلجؤون للعنف، والتحدي أمام الثورة أن تحمي نفسها، وتحاسب أعداءها بالقانون، دون أن تهزم قيمها.

 

اقرأ/ي أيضًا

النخب الإسلاموية في السودان.. الظالمون المتظلمون

بروفايل ثوري.. سلسلة كتابات لا نهائية