الإجماع السائد الآن في البلاد بعد مرور عامين على توقيع اتفاقية أيلول/سبتمبر 2018 للسلام هو أن موقعيها لم ينجزوا شيئًا مما كان مأمولًا منهم لإنهاء معاناة الشعب. هذا التقييم المبدئي لا ينفي نجاحهم في تجاوز عقبة رئيسية كقضية عدد الولايات التي أخذت وقتًا طويلًا من الشد والجذب. جاء تشكيل الحكومة الاتحادية الانتقالية منذ شباط/فبراير الماضي، في أعقابها، مع احتفاظ كل طرفِ بمواقفه ما أثر على استكمال هياكل السلطة الأخرى، المجلس التشريعي الاتحادي، نسب التمثيل في حكومات الولايات والإداريات الثلاثة، جراء الاختلافات المستمرة، في الوقت الذي لا تقل فيه الأوضاع سواءً عن الفترة التي سبقت توقيع الاتفاقية ذاتها.
عقب تشكيل الحكومة صارت الصراعات الأهلية ونزاعات الأراضي تتصدر العناوين دون أن تحرك السلطة ساكنًا
تأثرت البلاد بالتقدم البطيء في تنفيذ بنود الاتفاقية، فتزايدت حدة الاضطرابات الأمنية، الصراعات المجتمعية، ونزاعات الأراضي، إذ باتت هذه الأحداث المؤسفة تتصدر عناوين الأخبار المحلية دون أن تحرك السلطة ساكنًا. كما تجددت المعارك بين الجيش وقوات جبهة الخلاص غير الموقعة على الاتفاقية، في مناطق ولاية الاستوائية الوسطي، ما يستدعي التساؤل، هل نحن في حالة سلامٍ أم هي هدنة لبعض أطرافها بينما تشتعل الحرب ضد التنظيمات الأخرى؟
اقرأ/ي أيضًا: حادثة تعذيب وقتل "فيصل".. القصة الكاملة
إن السلام يصنع بهدف وقف وحقن الدماء وليس استمرار تدفقها، إلا الواقع في حالتنا يخالف هذا المبدأ. يشير ذلك إلى محدودية المشاركين في العملية الانتقالية، وهي مسألة لها تداعياتها الأمنية والسياسية والإنسانية، وبالتالي هي إحدى العقبات التي لم توليها الوساطة آنذاك أي اهتمامٍ، ما دفع شركاء في المجتمع الدولي لقيادة مبادرة أخرى في روما العاصمة الإيطالية للتفاوض مع هذه القوى غير المشاركة لدمجها ضمن اتفاقية السلام.
إن استمرار هشاشة الوضع الأمني ما هو إلا جزءً من مجريات هذه الأزمة، التي تنبي بمصير قاتم إذا اتسعت الأعمال العدائية. فانعدام الثقة بين المجموعات المشاركة وغير المشاركة في الحكومة، يؤثر على المشهد، ويبعد هذه المجموعات عن قضايا مهمة التنفيذ، وهي مسائل تخاطب جذور الصراع، مثل المصالحة والعدالة الانتقالية وتحقيق العدالة للضحايا وذويهم والمحاكم لمرتكبي الجرائم خلال الفترة الماضية. وللمفارقة، كانت النخبة الحاكمة الآن، تثير هذه المواضيع إبان الحرب ضد الحكومات المركزية في الخرطوم، ولم تكن تمل من تكرار الحديث عنها.
على الصعيد الاقتصادي نشهد تراجعًا خطيرًا بانهيار العملة الوطنية أمام الدولار الأمريكي، نتيجة انخفاض صادراتنا من النفط المورد الأساسي في رفد الميزانية العامة بالنقد الأجنبي، وهي ضمن التحديات التي أفردت لها الاتفاقية تفصيلًا كاملًا عن ضرورة أهمية إصلاح القطاع النفطي، بيد أن قيادة الدولة لم تستوعب أهمية ذلك، واستمرت على ذات النهج القديم في إدارة هذا المورد الأمر الذي يعرض اقتصادنا للصدمات مثل ما يحدث حاليًا بسبب تداعيات جائحة كورونا. هذين المؤثرين السابقي الذكر، الأمني والاقتصادي، يمثلان خلاصة تقييم الكثيرين لانعدام الأثر الايجابي لهذه الاتفاقية على معايش المواطن ومشاغلهم اليومية. صحيح مثلما أسلفنا بالإشارة، أن جائحة كورونا ساهمت بدورها في انحدار الأوضاع مثلما شهدت دول أخرى. ولكن هذه الحقيقة الجزئية، لا تفسر كليًا أخطاء إدارة الاقتصاد في دولتنا.
لم يتبق الكثير من الوقت في عمر الاتفاقية التي حددت جداول زمنية تتعلق بإجراء تغييرات جوهرية في السلطة
هناك قواسم متصلة تتعلق بأهمية إجراء الإصلاحات المنصوصة عليها لعودة الاستقرار بمعناه الكلي، إن خلافات شركاء اتفاقية السلام حيال قضايا تقاسم السلطة والذي أخذ نحو عام ونصف، يعيق هذه الأطراف من السعي الجاد لانتشال البلاد من الهاوية، وهو مؤشر على عدم جديتها نحو الالتزام بنصوصها. لم يتبق الكثير من الوقت من عمر الاتفاقية التي حددت جداول زمنية تتعلق بإجراء تغييرات جوهرية في مؤسسات الدولة. ويبدو واضحًا الآن أن المدة المتبقية من عمر الاتفاقية لن تشهد أي تغيير يخالف ما يحدث من تباين، فأجندات أطرافها مختلفة البتة، وتغليبها مصالحها الذاتية على حساب الوطن.
اقرأ/ي أيضًا: فصل صغار الموظفين وإغلاق مكتب كهرباء بالمناصير بحجة تفكيك التمكين
كذلك لم يسلم تنفيذ الاتفاقية من تأثيرات المتغيرات الإقليمية التي كان لها أثارًا واضحة، من حيث قدرة الوساطة على متابعة سيرها، بالإضافة إلى ما هو معروف عن تأثير جائحة كورونا، جرت تطورات إقليمية أخرى. ففي السودان، إحدى الدولتين الضامنين للاتفاقية، قامت ثورة أطاحت بنظام البشير الذي ساهم في مناقشات المفاوضات الأولوية في الخرطوم بالتوافق مع نظيره الرئيس الأوغندي يوري موسفيني. أراد بها البشير انقاذ نظامه من شبح السقوط. هذا التحول في المشهد السياسي السوداني بعد الثورة شكل عنصرًا إضافيًا في نقل العلاقة بين حكومتي جوبا والخرطوم إلى مصاف التعاون الكامل، وما استضافة جوبا لمفاوضات السودان سوى فصل من فصول هذه التغييرات الإيجابية التي يمكن أن تساهم في استقرار البلدين. وعلى خلاف هذا التطور، تتخذ علاقة الحكومة في جوبا بالمجتمع الدولي بعدًا مغايرًا، فحالة التشكك في جدية الطرف الأول وحرمانه من الدعم اللازم جعل البون بينهما شاسعًا.
ترى دول الترويكا عدم جدية الأطراف في تنفيذ الاتفاق. كذلك تؤكد في بياناتها الصحفية المتعددة بأن فرص التحوّل الديمقراطي في البلاد ما تزال أمرًا بعيد المنال، في ظل إمكانية تجدد النزاع مرة أخرى كسيناريو مطروح، لذلك من المتوقع أن تضغط الترويكا الحكومة الانتقالية لحثها على إنجاز الملفات العالقة والتمهيد للانتخابات العامة في نهاية الفترة الانتقالية لكسر دائرة الحروب الأهلية واتفاقيات السلام وتقاسم السلطة والعودة للمربع الأول، الحلقة التي باتت مسارًا مألوفًا منذ توقيع نيفاشا.
من المتوقع أن لا تشهد البلاد أي تغيير بعيدًا عن تجارب الماضي وفق ما نراه من تباينٍ بين الشركين الرئيسين
من المهم إدراك حجم التعقيدات على الأرض ومعادلة موازين القوى المختلفة. ونتيجة لهذا التقدير يمكن توقع سيناريوهات عديدة، أقربها للواقع هو أن لا تشهد البلاد أي تغيير كبير بعيدًا عن تجارب الماضي وفق ما نراه من تباينٍ بين الشركين الرئيسين، كير ومشار، ومواقفهما من تأويل نصوص الاتفاقية. كما أن مبادرة روما المكملة لمسار السلام تعاني من الغموض وسقفها وحدودها المقتصرة على القوى غير الموقعة والسلطة الانتقالية.
اقرأ/ي أيضًا
حوار| قضايا السلام والانتقال الديمقراطي مع رئيس الجبهة الثورية
حوار| الوسيط ضيو مطوك يفتح ملف التفاوض وتفاصيل وتحديات اتفاق السلام السوداني