24-يونيو-2020

توقيع اتفاق السلام (TRT)

خلال فترة الحرب الأخيرة بين الحكومة والمعارضة المسلحة في جنوب السودان، حدثت تحولاتٌ كبيرة في ميزان العلاقات على مستوى الإقليم، فمنذ البداية استعانت الحكومة بالقوات اليوغندية في محاربة المجموعة المنشقة عنها لإبعادها عن العاصمة جوبا، وبررت لتلك الخطوة بوجود اتفاق تعاونٍ عسكري بينها وكمبالا، وهو تعاون قام في الأساس في إطار القوة المشتركة التي أسستها الولايات المتحدة بمدينة يامبيو لمطاردة جيش الرب والقضاء عليه تحت مسمى أفريكوم، وحينما بدأت المعركة السياسية والدبلوماسية بينها والمعارضة على طاولة التفاوض برعاية إيغاد، بدأت الحكومة تحدد علاقاتها مع دول الجوار، والاستعانة أيضًا بحلفاءٍ جدد لخوض تلك المواجهة الجديدة التي امتدت حتى المؤسسات الدولية مثل مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة.

العلاقة التي كانت تجمع بين جوبا والقاهرة بدأت بالدعم والتعاون في تقديم المشروعات التنموية البسيطة مثل مشروعات الري والكهرباء والبنية التحتية

ونسبةً لافتقار البلاد لسياسة خارجية واضحة السمات والمعالم والأهداف، أصبحت المشاورات والمقترحات المتضاربة هي السوق الرائجة في مواجهة التداعيات الدولية والإقليمية لتلك الحرب، فنشأ في البداية تحالفٌ واضحٌ بين جوبا، كمبالا والخرطوم، والتحقت به جمهورية مصر العربية بشكلٍ واضحٍ فيما بعد، فالعلاقة كانت تجمع بين جوبا والقاهرة بدأت في إطار الدعم والتعاون في تقديم المشروعات التنموية البسيطة، مثل مشروعات الري والكهرباء والبنى التحتية، حيث قامت مصر بحفر عددٍ من آبار المياه الجوفية وبناء المدارس والمرافق الصحية في عدة مناطق بإقليم بحر الغزال وأعالي النيل، وذلك في الأعوام التي أعقبت الاستقلال مباشرة. هذا بجانب المنح الدراسية المقدمة للطلاب الجنوبيين بالجامعات المصرية والتي تم زيادتها وترفيعها لمستوى دراسة الماجستير والدكتوراة.

اقرأ/ي أيضًا: جنوب السودان: تنامي جرائم الاغتصاب في أطراف العاصمة جوبا وصمت حكومي

ومع تطاول أمد الحرب بين الحكومة ومجموعة مشار، تعقد المشهد الإقليمي والدولي، وباتت الحكومة تنظر إلى دولة مثل إثيوبيا بأنها لم تعد محايدة في الصراع، وذلك بسبب إقامة مشار لفترات داخل العاصمة الإثيوبية في منزلٍ خاصٍ وفرته له الحكومة، علمًا بأن إثيوبيا كانت مقر التفاوض بين الطرفين، مثلما أن أديس أبابا تمثل أيضًا تمثل مقر الاتحاد الإفريقي، لكن التحليلات الرسمية في جوبا تقول بأن التعاون الإثيوبي مع مشار قد وصل مرحلة تقديم المساعدات اللوجستية والعسكرية، مثل تدريب قوات مشار بواسطة النوير المنضوين تحت الجيش الإثيوبي. وقد استدلت الحكومة على ذلك بالمواجهات العسكرية التي دارت بين قوات الحكومة ومشار في محيط القصر الرئاسي ظهيرة 6 تموز/يوليو 2015. وقد كانت تلك الأحداث بمثابة نقطة التحول في العلاقات بين البلدين، خاصةً من جانب جنوب السودان.

سلفا كير
سلفا كير

خلال تلك الفترة أيضًا، تطورت العلاقة بين جوبا والقاهرة لتصل مرحلة التعاون في بيع وشراء الاسلحة والمعدات الحربية المصرية، خاصةً بعد العقوبات التي فرضها مجلس الأمن الدولي على جنوب السودان بحظر الأسلحة، وهي القرارات التي طالما وجدت معارضة كبيرة من الجانب الروسي والمصري كذلك، بحكم العلاقة التي ربطت بينهما بعد انتخاب السيسي وما فرضته الولايات المتحدة على العملية برمتها، مما جعل القاهرة تيمم شطر موسكو بشكلٍ معلن، كما أنها لم تكتف بذلك بل شجعت جوبا أيضًا على بناء علاقات دبلوماسية وثيقة مع روسيا لمواجهة الضغوط الدولية، إذ أن سلطات جنوب السودان قد فسرت المواقف الخاصة بمصر وروسيا حيال المقترحات المقدمة من الولايات المتحدة في مجلس الأمن، باعتبارها تعاطفًا معها من تلك الدول، ويمكن أن يتطور فيما بعد ليصل إلى مرحلة التحالف.

رياك مشار
رياك مشار

على ضوء تلك العوامل المترابطة، توثقت العلاقة بين جوبا والقاهرة، وامتدت لتمثل حلفًا جديدًا في المنطقة، يمكن أن نطلق عليه حلف القاهرة، جوبا، عنتيبي، بعد أن دخل الرئيس اليوغندي يوري موسفيني على الخط بسبب امتعاضه من إثيوبيا التي يرى أنها استفردت بزعامة الإيغاد لفتراتٍ طويلة، وكذلك بسبب تعارض المواقف بينه والقيادة الإثيوبية فيما يتعلق بملف السلام بدولة جنوب السودان، ففي عديدٍ من جولات التفاوض، كانت رئاسة الإيغاد تلقي باللائمة على الرئيس اليوغندي بسبب تأثيراته على المواقف الحكومية الرسمية لجنوب السودان، بحكم علاقته مع الرئيس سلفا كير، ضد مشار، فهو يعتقد أن رياك مشار كان داعمًا لجيش الرب إبان فترة انشقاقه من الحركة في العام 1991 وتحالفه مع الخرطوم.

اقرأ/ي أيضًا: ولاية الجزيرة تعلن زيادة سعر الخبز المدعوم

توضح تلك التداخلات، كيف أصبح جنوب السودان، بسبب الحرب التي شهدها داخليًا، ساحة لتصفية الخصومات الإقليمية بصورة جلية، خاصةً بعد أن اختار السودان خلال فترة حكم الرئيس السابق عمر البشير، الوقوف إلى جانب إثيوبيا فيما يتعلق بقضية سد النهضة، نسبةً للتوتر المستمر في العلاقات بينه والقاهرة التي ترى في السودان واحدًا من بؤر نظام الإخوان، إلى جانب الموقف السوداني الخاص بقضية منطقة حلايب التي يتنازع عليها الجانبان حتى الآن، علمًا بأن السودان عكس جوبا، يعتبر من البلدان المتأثرة لأنها تقع في مجرى النيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة تانا الإثيوبية.

امتدح بيان الخارجية عمق ومتانة العلاقات التي تربط بين جوبا وأديس أبابا، لكنه  تجاوز بصورةٍ أو بأخرى الاشارة للموضوع الرئيسي الذي تحدث عنه الإعلام

وكانت قد رشحت عدة معلومات في وسائل الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي قبل أكثر من سنتين، تفيد بأن السلطات المصرية تخطط لضرب سد النهضة الإثيوبي من داخل أراضي جنوب السودان، خاصةً الحدود الشرقية لإقليم أعالي النيل، لكنها سرعان ما انزوت بعد أن تأكدت سيطرة مشار على تلك المناطق، حيث يتخذ من مدينة فقاك قاعدة رئيسية وعاصمة له، وقد برزت القضية للسطح مجددًا من خلال ما تناقلته وسائل إعلامية مصرية عن طلب تقدمت به القاهرة لبناء قاعدة عسكرية مصرية بمدينة فقاك على الحدود مع إثيوبيا، خاصةً وأن المنطقة قد أصبحت تحت قبضة الحكومة التي سيطرت عليها العام المنصرم بمعاونة جماعات منشقة عن مشار، وفي معرض ردها على تلك الأخبار المتداولة في الصحف ووسائل الإعلام، قالت سلطات وزارة الخارجية بجوبا إنها لم تمنح الجيش المصري قطعة أرضٍ في أي مكان داخل أراضي جنوب السودان، كما امتدح بيان الخارجية عمق ومتانة العلاقات التي تربط بين جوبا وأديس أبابا التي توسطت لإنجاز ملف السلام الجنوب سوداني مؤخرًا.

اقرأ/ي أيضًا: السودان لـ"الجامعة العربية": الخرطوم والقاهرة متوافقان على القرار العربي

لكن البيان تجاوز بصورة أو بأخرى الإشارة للموضوع الرئيسي الذي تحدثت عنه الميديا، وهو حقيقة وجود طلب رسمي تقدمت به الحكومة المصرية لتخصيص قاعدة عسكرية في فقاك، فالسؤال الذي يطرأ هنا هو لماذا تجاوزت سلطات جنوب السودان الإشارة للطلب المصري كقضية جوهرية؟ وهل قصدت السلطات المصرية تسريب تلك المعلومة لوسائل الإعلام لاختبار تلك العلاقات التي تجمع بينها مع جوبا، سيما وأنها علاقات ظلت قائمة على العطاء المصري الذي ينتظر أن تتم مقابلته بإحسان وقتما احتاجت القاهرة.

في ظل التصعيد المتبادل بين القاهرة وإثيوبيا سيكون من المطلوب أيضًا استجلاء موقف جنوب السودان من الحرب الكلامية وما يمكن أن يترتب عليها من تطورات لاحقة

صحيح أن هناك ثمة غموض في القضية في الجانبين، لكن تجلياتها ستظهر قريبًا في طبيعة العلاقات بينهما، هل ستستمر كما كانت أم سيعتريها بعض البرود؟ ففي ظل التصعيد المتبادل بين القاهرة وإثيوبيا، سيكون من المطلوب أيضًا استجلاء موقف جنوب السودان من تلك الحرب الكلامية، وما يمكن أن يترتب عليها من تطوراتٍ لاحقة.

اقرأ/ي أيضًا

الحزب الشيوعي: لقاء وفد الحزب مع السفير المصري جاء بطلب من السفارة

الشرطة تطلق الغاز المسيل للدموع لتفريق احتجاجات بعطبرة