14-فبراير-2020

اعتصام القيادة العامة (Getty)

درجت النخب السودانية، من مثقفين وسياسيين من أتباع النظام البائد، وأيضًا بعض قوى المعارضة المدنية، منذ ما قبل الثورة، درجت على وضع أحداث السودان ضمن أنساق ونماذج تاريخية، محلية وإقليمية سلبية ومخيفة، تتشابه في ظاهرها مع الأوضاع في البلاد، دون وضع اعتبار لخصوصية الحالة السودانية، وكأنما ليس لبلادنا بتنوعها وتعقيداتها، قدرة على التفرد.

هاهم الآن يستلهمون النماذج من تاريخنا وإقليمنا، بنفس طريقة النظام البائد، ليثبطوا العزيمة وليوقفوا حركة التاريخ، بما يناسب طموحاتهم السياسية المنكفئة

 كانت تلك النماذج التي تخوفنا بها النخب، تبدو ظاهريًا مماثلة لما يجري على الأرض، ولكن كل ذلك كان على السطح فقط، وفي حدود خصائص وعوامل معينة، ولكنها تختلف عن واقع الحال في أوجه كثيرة، ربما على رأسها تفرد وخصوصية النموذج السوداني المعاصر بعناصره الفريدة ووضعيته التاريخية والاجتماعية المختلفة. هذا التفرد ليس خصيصة محلية بالكامل، فالتاريخ مثلما يحمل من التشابهات التي تجعل المرء يصيح "كأنه هو" كل مرة، فإنه أيضًا دائمًا ما يحمل من الإختلافات العميقة والجذرية، ما يجعله في سيرورته، منقطعاً ومختلفًا عن كل ما سبقه وعن كل ما هو سواه. ربما لذلك لا يتعلم الناس من التاريخ شيئًا، فالتاريخ مراوغ، لا يمكن التنبؤ به أو توقع مجراه، أو كما يقول درويش: "التاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله".

اقرأ/ي أيضًا: الخروج من حالة الخدر مابعد الكولونيالي السعيد

يعمل العقل البشري بطبيعته الغريزية، على تضمين الأشياء داخل تصانيف نموذجية، أنواع وأنماط يعرفها ويفهمها. ذلك يساعده على التبسيط والاختزال لإختصار الطريق على الفهم والاستيعاب. وهذه ليست ظاهرة حديثة في الفكر البشري، وليست محصورة على العقل السوداني. وقد انتبه لها الأولون قبل المتأخرين؛ فقد أرجع أفلاطون قديمًا، كل الأشياء لنماذج مثالية، توجد في عوالمها  الخاصة المنفصلة عن الواقع؛ عوالم المُثل.

هذا النمط من التفكير والذي يسود في أوساط النخبة السودانية، يسمى بالتفكير "التايبولوجي" أو التفكير التصنيفي، وهو تفكير اختزالي ميتافيزيقي غير عقلاني، يحرف الأسباب ويتجاهل الاختلافات لصالح النماذج والأمثال. وهو قد يخطئ ويصيب، وقد ينجح ويخيب، ولكن يكون ذلك بقدر عقلانية المفكر ودقته في رصد الاختلافات وقدرته على وضع الحساب لها في مخرجاته.

كان رأس النظام البائد وزبانيته، لا يفوتون الفرصة لضرب المثال في كل مرة، بغرض تخويف السودانيين الثائرين من النماذج في المنطقة. فأحيانًا كان النموذج سوريا الجريحة، وأحيانًا كان الجارة ليبيا النازفة، وحتى مصر والعراق واليمن. كان كل ذلك لبث الإحباط وهزيمة الأمل في نفوس الثائرين من الشيب والشباب.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل في بريد النخبة

ولكن عزيمة وإرادة الثوار لم تتوانى عن المضي قدمًا في طريقهم الذي اختاروه، ليثبتوا في آخر الأمر، بصمودهم البطولي في الشوارع والميادين، فرادة النموذج السوداني الخالصة. فكان الدرس وكانت العبرة، والتي أصبح بعدها صناعة التاريخ، حدثًا عاديًا في شوارع السودان.

ولكن بعض النخب في بلادنا لم تستوعب الدرس، وسرعان ما بدأوا الكفر بالثورة السودانية وفقدوا الإيمان بالثائرات والثوار. فهاهم الآن بين الفينة والفينة، يستلهمون النماذج من تاريخنا وإقليمنا، بنفس طريقة النظام البائد، ليثبطوا العزيمة وليوقفوا حركة التاريخ، بما يناسب طموحاتهم السياسية المنكفئة، وآفاقهم المحدودة الضيقة، و مصالحهم الأنانية المؤقتة.

الآن مجددًا بدأت تنتشر في الساحة هذه الروح التخويفية، مستخدمةً التفكير التصنيفي، الذي يبدو متماسكًا للوهلة الأولى ولكنه يسقط أمام الفحص والتدقيق وربما حتى المنطق البسيط. ولكن الغرض منه لم يكن في يوم من الأيام سبر أغوار الواقع واستكشاف المستقبل، وإنما فقط بث الرعب واثارة الهلع وسط الجماهير من السناريوهات المفترضة والنماذج البائدة. النماذج التي تبدو مشابهة رغم الاختلافات العميقة والدقيقة بينها وبين الواقع الماثل. هذه الدعاية هي تكتيك سياسي قديم، يجيِّر الواقع المعاصر لصالح المثال، بأن يعلى من شأن التشابهات بين الأحوال، والتي قد تكون من باب الصدفة المحضة، ويسقط الإختلافات المهمة، والتي قد تكون جوهرية وجذرية، عن النموذج الحالي المختلف والمتجدد والذي نعمل جميعًا على صياغته وصناعته دائمًا.

لافتة الشهيد كشة "نخاف على ثورتنا من النخب"
لافتة الشهيد كشه "نحاف على ثورتنا من النخب" منذ بدايات الثورة

ليس التخويف هو الخطر الأوحد من التفكير التصنيفي، ولا تثبيط الهمم هو الناتج الوحيد عنه وإن كانا كافيان لذمه وصده. ولكنه أيضًا يقتل الطموح ويئد القدرة على الخلق والإبداع. بل ويعمل على صناعة نموذج شائه، لا يشبه القديم الذي عرفناه وألفناه ثم رفضناه، ولا يصنع الجديد الذي نطمح له ونحلم به وثرنا لأجله.

على كل حال، بالنسبة للعقل البشري، فإنه لا مفر من التفكير التصنيفي، فهو من طرق عمله الطبيعية التي ساعدت الإنسان على النجاة في الأزمنة الغابرة. ولكن قدرة الثورة -أي ثورة- على خلق الجديد والخروج عن الأنساق القديمة لهي من أهم وأعظم خصائصها. ولا يمكن لثورة أن تمضي قدمًا إذا ما ارتهنت للماضي وسكنت إليه، ولربما يكون نصيبها من النجاح بقدر نصيبها من القطيعة مع الماضي والابتعاد عنه، والثورات في ذلك درجات ودركات.

التفكير التصنيفي في كل حالاته لا يفيد الثورة في شيء ولا يقدم أي جديد للواقع المعاش. إنه دائمًا في مصلحة قوى الماضي وخطاب الانتكاس والارتكاس والتراجع. وهي توجهات لا تشبه الثورة السودانية الممهورة بالدم والدموع، بل هي التوجهات التي انتفضنا عليها، ثم أسقطناها عن طريق الابتكار والإبداع والتفكير خارج الصندوق.

وفي الوضع لحالي، الصعب والدقيق، ذلك هو ما نحن في أشد الحاجة إليه. أن نتجرد من سلطات الماضي، طرقه وأساليبه، وتوجهاته وقيوده. وأن نأتي بالجديد في كل شيء، وفقا لواقعنا المعاصر المعقد، بعوامله المتعددة والمتشابكة والمختلفة جذريًا عن كل ما مضى. لأن هذه العوامل، وبكل بساطة، تحمل كل الماضي بما فيه من تعقيد وتشابك، بالإضافة لناتج حركة التاريخ الكفيلة بتحويله وتغييره، ثم الثورة التي أتت بقواها الجديدة الفاعلة وقواعدها الصلبة والتي قلبت كل ذلك رأسًا على عقب.

بقوة الحق والإيمان لا الخوف والارتهان، سنستطيع تحقيق ما نصبوا إليه. أما التاريخ فلا، لن يعيد تكرار نفسه، ولكنه قد يصنع كارثة جديدة

 إن الثورة هي خلق مستمر. هي تطوير وارتقاء بما لدينا في أيدينا الآن. هي الخروج عن النسق. هي الإبداع والتجديد الجذري والدائم في الوسائل والغايات والرؤى والتصورات، وذلك كل ما نحتاجه الآن لنصل ببلادنا إلى بر الأمان. وبقوة الحق والإيمان لا الخوف والارتهان، سنستطيع تحقيق ما نصبوا إليه. أما التاريخ فلا، لن يعيد تكرار نفسه، ولكنه قد يصنع كارثة جديدة كل مرة بإصرار ما لم يحدث من قبل، أو يصنع المعجزة، وبنفس الإصرار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

البشير في لاهاي.. الجريمة والعقاب

حوار الأحزاب السياسية واجب المرحلة