04-فبراير-2021

بدأ الجيش السوداني انتشارًا في المناطق التي تسطر عليها مليشيات إثيوبية كانون الأول/ديسمبر الماضي (العربي الجديد)

بالرغم من تأكيد السودان وإثيوبيا أكثر من مرة عدم نيتهما الدخول في مواجهة عسكرية، إلا أن أزمة الحدود بين البلدين، والتي تعود إلى الوراء بجذورها إلى أكثر  من مئة عام، أضحت أكثر تعقيدًا في الآونة الأخيرة، وطفت إلى السطح بعد أعوام طويلة من الهدوء وعدم الرغبة في التصعيد من قبل الأنظمة الحاكمة في البلدين.

واتخذت أزمة الحدود بين البلدين في الأشهر القليلة الماضية شكلًا مختلفًا لما كانت عليه، نظرًا للمتغيرات العديدة الداخلية والإقليمية ذات الصلة بالبلدين اللذين يعيشان في صفيح ساخن من الأحداث السياسية، كما أظهرت السياسات الإثيوبية طمعًا في أراضي الفشقة السودانية، وأظهر الجانب السوداني انتشارًا للجيش كان يندر في عهد نظام المخلوع البشير، والذي في عهده تم غض الطرف عن التمدد الإثيوبي في المنطقة، نظير السكوت عن مغامرات نظامه التي كلّفت السودان جزءًا من أراضيه في الشمال أيضًا كما في الشرق في الفشقة.

إلى أين تقود الأوضاع الراهنة خطوات إثيوبيا في لعبتها السياسية في المنطقة، وهل تضمر إثيوبيا أطماعًا في أراضي الفشقة الخصبة؟

فما الذي استجد، ليبلغ الأمر أن تطلق نيران مدفعيات ثقيلة قادمة من الأراضي الإثيوبية ليرد السودان عليها بمثلها، وإلى أين تقود الأوضاع الراهنة خطوات إثيوبيا في لعبتها السياسية في المنطقة، وهل تضمر إثيوبيا أطماعًا في أراضي الفشقة التي تعتبر من أخصب المناطق الزراعية في أفريقيا؟

حقائق تاريخية

منطقة الفشقة هي أرض سودانية بحسب اتفاقيات ترسيم حدود، كما يرفض السودان وصفها بأنها منطقة "متنازع عليها" نسبة لاستناده على ما عرف بـ"خط غوين" وهي الخريطة التي أعدها مسّاح بريطاني يدعى غوين في العام (1901)، بعد أن كلفته السلطة البريطانية الاستعمارية على السودان آنذاك بذلك، فرسم حدود الدولة السودانية في شرق السودان متضمنة منطقة الفشقة، ثم قامت بريطانيا نيابة عن السودان بالتوقيع على الوثائق والخرائط برفقة إثيوبيا في عهد الإمبراطور منليك الثاني، وهو ما تم تأكيده بين الجانب السوداني والإثيوبي أكثر من مرة خلال المئة عام الماضية، عبر عدد من التفاهمات والاتفاقيات خلال حقب السودان وإثيوبيا المختلفة.

اقرأ/ي أيضًا: إثيوبيا.. حرب أهلية أم إقليمية؟

وأبرز المحطات التي تمت فيها مناقشة الاتفاقية وفتح الحوار حولها في عهد الأنظمة الوطنية بين البلدين، في العام (1972) من القرن الماضي في عهد كل من الرئيس السوداني السابق جعفر نميري وإمبراطور إثيوبيا وقتذاك هيلا سيلاسي، الذي أرسل الأخير وزير خارجيته مذكرة إلى السودان تقر بحدود خريطة (1972) مع مقترح بعض التعديلات الطفيفة، إلا أن اللقاءات لم تستمر.

ثم شهد الأمر عددًا من اللقاءات التمهيدية لترسيم الحدود تمت خلال الأعوام (2000-2013) وفيها كلها تم التأكيد على الرجوع للخرائط التي أعدها "غوين".

الوجود الإثيوبي في منطقة الفشقة حقيقة تاريخية أيضًا، فقد تواجد الإثيوبيون كمزارعين في منطقة الفشقة ما بعد ترسيم الحدود بفترة طويلة، حيث بدأ توافدهم في الخمسينات من القرن الماضي، عبر عمل العديد من الإثيوبيين في زراعة وفلاحة الأرض الخصبة في الفشقة. وتساهلت الحكومة السودانية في البداية مع هذا الوضع  نسبة للتعداد البسيط للعاملين في الزراعة في المنطقة من الإثيوبيين خمسينات القرن الماضي، حينما لم يجاوزوا بضع عشرات، وعلى مدى أعوام تضاعفت الأعداد تدريجيًا ليبلغ التعداد الآلاف في بدايات الألفية، وتزايدت أعداد المزارعين الإثيوبيين بعد النصف الأخير من تسعينات القرن الماضي، بسبب تراخي السلطة الحاكمة آنذاك، وسحبها للجيش السوداني من المنطقة الحدودية، في الفترة ما بعد العام (1995)  خوفًا من ملاحقة النظام الإثيوبي لقادة النظام السوداني آنذاك، على خلفية تدبير محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا في العام (1995).

الوجود الإثيوبي في الفشقة، حديثًا، لم يقتصر فقط على المزارعين، فالعصابات والمليشيات الإثيوبية المسلحة التي تتخذ من أراضي الفشقة مجالًا لممارسة نشاطها الإجرامي، ظلّت تمارس عمليات السلب والنهب وطلب الفدية بحق مواطنين سودانيين لأعوام طوال، مع تعمد نظام المخلوع البشير تعتيم الأمر إعلاميًا استرضاءً للجانب الإثيوبي، طوال الأعوام الأخيرة التي شهدت نشاطًا متزايدًا للعصابات. وشكل هذا الوجود العدائي أحد المبررات التي دفعت الجيش السوداني لإعادة الانتشار في المناطق الحدودية في نيسان/أبريل من العام الماضي، بعد تكرار أحداث الاعتداءات خلال العام الماضي، في خطوة أقدم عليها الجيش السوداني هي الأولى من نوعها خلال أكثر من عشرين عامًا.

اقرأ/ي أيضًا: قوى التهافت على المناصب!

بعد انتشار الجيش في المنطقة لم يجد النظام الإثيوبي نفسه في مكانٍ يخوله إبداء أي ردة فعل اعتراضية، كون أن المليشيات المسلّحة يصورها الخطاب الرسمي لإثيوبيا بأنها خارجة عليه وينفي أي صلة بها، لكن مراقبون عديدون يقولون أن المليشيات تعمل تحت نظر الجيش الفيدرالي الإثيوبي، وأن ثمة تفاهمات بين ما تقوم به والنظام السياسي في إثيوبيا، وأكد ذلك ما صرّح به وزير الثقافة والإعلام، الناطق الرسمي باسم الحكومة الانتقالية في السودان، فيصل محمد صالح، حينما ذكر أن تقديرات القوات المسلحة السودانية للهجمات من الجانب الإثيوبي تدل على مشاركة قوات مسلحة رسمية نظرًا لنوع السلاح والعتاد الذي استخدم، فيما يصر النظام الرسمي الإثيوبي أن ينسب الاشتباكات مع الجيش السوداني إلى العصابات.

الهجمات الأخيرة من الجانب الإثيوبي، جاءت في الوقت الذي أعلن فيه السودان بسط يده على مجمل الأرض الواقعة ضمن حدود السودان

الهجمات الأخيرة من الجانب الإثيوبي، والتي تصاعدت حدتها نوعيًا حد القذف بالمدفعيات الثقيلة، جاءت في الوقت الذي أعلن فيه السودان بسط يده على مجمل الأرض الواقعة ضمن حدود السودان في اتفاقية وخرائط العام (1902) وتزامن سيطرة الجيش السوداني على المنطقة مع اتهامات من الجانب الإثيوبي بالتسبب في مقتل وخسائر لمدنيين إثيوبيين كانوا يمارسون الزراعة في المنطقة، كما ادعت إثيوبيا أن اتفاق (1972) ينص على أن الأوضاع على الأرض تظل كما هي حتى الوصول إلى حل ودي، في إشارة إلى تضرر المزارعين الإثيوبيين الذين يعملون في المنطقة، والذين رجعوا إلى إثيوبيا مع انتشار الجيش في كامل المنطقة الحدودية.

الخطوة التي أقدم عليها النظام السوداني ببسط سيطرته الكاملة على الفشقة مما اضطر المزارعين الإثيوبيين لمناطقهم الزراعية والرجوع إلى إثيوبيا، قطعت الطريق تجاه المخطط الإثيوبي الآمل في استمرار الاستفادة من منطقة الفشقة واستمرار عمليات التوطين.

إثيوبيا والحدود السودانية.. خطاب رسمي متأرجح

تاريخيًا لم يكن الخطاب الإثيوبي المتعلق بقضية الحدود مع السودان يتخذ شكلًا واضحًا، ففي كل حقبة سياسية من تاريخ إثيوبيا يتغير الخطاب ويتأرجح وفق طبيعة القوى الاجتماعية المسيطرة على مقاليد الحكم هناك، فالدولة المتعددة الأعراق والقوميات متعددة الوجهات والمآرب السياسية كذلك، وبالنسبة لاتفاق (1902) وخرائطه التي تضم الفشقة إلى أرض السودان، تعددت الأصوات الإثيوبية تجاهه، فمرة تصدر إثيوبيا خطاب طاعن في الاتفاقية، كما تفعل الآن، متخذة ذات الحجة التي طعنت فيها إثيوبيا في اتفاقية تقاسم مياه النيل، والتي هي عصب الخلاف بخصوص سد النهضة، فتقول إثيوبيا أن اتفاقية 1902 تم وضع ملامحها بشكل فردي من قبل الاستعمار البريطاني نيابة على السودان، وتارة تقول أن الاتفاقية التي تم التوقيع عليها لم تتضمن عملية رسم الحدود على الأرض، وتصورها بأنها اتفاق مبدئي وليس نهائيًا. لكن وزير الخارجية البريطاني دومينيك راب، أكد في مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الخارجية السوداني عمر قمر الدين، في الحادي والعشرين من كانون الثاني/يناير المنصرم، أن حدود السودان الشرقية من أكثر الحدود وضوحًا في العالم، قائلاً بريطانيا كانت جزءًا من العمل الثنائي الذي ضم إثيوبيا نفسها.

اقرأ/ي أيضًا: حميدتي.. وسياسة المنّ والأذى!

وفي الوقت الحالي يجد آبي أحمد نفسه في موقف حرج بعد سيطرة الجيش السوداني على المنطقة بالكامل، فلضمان ولاء قومية الأمهرا -القومية التي يعمل أفرادها في الزراعة في الفشقة وأهم حلفاء آبي أحمد السياسيين- لا يستطيع آبي أحمد الوصول إلى اتفاق نهائي لترسيم الحدود على الأرض وفق خريطة العام 1902، رغم أنه عندما انتشر الجيش السوداني لأول مرة في نيسان/أبريل العام الماضي، أقر آبي أحمد بمشروعية انتشار الجيش في المنطقة التي وصفها بأنها سودانية، متمنياً في تلك اللحظة أن يكبح جماح الجيش السوداني الذي بدا أن الأسباب التي تمنعه السيطرة على المنطقة قد اختفت باختفاء البشير، ورغم إدراك آبي أحمد واعترافه بسودانية الفشقة فليس من صالحه الآن أن يطبق الأمر على أرض الواقع.

رهان آبي أحمد الخاسر

اتسمت العلاقة بين الحكومة الانتقالية الحالية في السودان، التي لم تبلغ العام والنصف بعد، والحكومة الإثيوبية بالهدوء والتعاون حتى ما قبيل اندلاع الاشتباكات المسلحة، وكانت العلاقة ما بين البلدين تستصحب الدور المحوري الذي لعبه آبي أحمد في أعقاب الخلافات السياسية ما بين شركاء الحكم حاليا، الفرقاء آنذاك، القوى السياسية المدنية والمجلس العسكري الحاكم آنذاك، الخلافات التي كادت أن تعصف بالعملية السياسية، والتي تدخل فيها رئيس الوزراء آبي أحمد بالتنسيق مع الإتحاد الأفريقي، ليقود المفاوضات إلى الوصول إلى توقيع الوثيقة الدستورية في السابع عشر من آب/أغسطس (2019) وحتى ذلك الحين بدا آبي أحمد طامعًا في كسب القوى السياسية الصاعدة للحكم حديثًا في السودان لصالحه بخصوص المفاوضات المستمرة طوال أعوام بين دول السودان وإثيوبيا ومصر بخصوص سد النهضة الإثيوبي.

 تاريخ إثيوبيا الحديث في نزاعات الأرض لا يبدو جيدًا

 أظهر السودان، في الأشهر الأولى التالية للتوقيع على الوثيقة الدستورية ميلًا إلى الجانب الإثيوبي، تجلى ذلك في تحفظ السودان على مشروع قرار في الجامعة العربية، في آذار/مارس العام الماضي، كان يلزم الدول الأعضاء في الجامعة بالاصطفاف مع السودان ومصر وضمان مصالحهما فيما يتعلق بسد النهضة، رافضًا إقحام اسمه مع مصر، كما تحفظ مرةً ثانية حينما حُذف اسم السودان من مشروع القرار، مما أثار استغراب الدول أعضاء الجامعة العربية.

لكن سرعان ما استعاد الجانب السوداني توازنه السياسي في القضية، ليعاد صياغة الخطاب الرسمي بخصوص سد النهضة بشكل يراعي مصلحة السودان أولًا، بعيدًا عن الاصطفاف المحوري، بحسب تصريحات وزير الدولة للخارجية حينها، عمر قمرالدين، الذي أعلن أن السودان لديه تحفظات على قرار بدء وتشغيل وملء سد النهضة الذي كانت تلوح إثيوبيا بالشروع فيه منذ أيلول/يوليو العام الماضي.

على الأوراق الرسمية لا شيء يربط بين الفشقة وإثيوبيا، إلا أن تاريخ إثيوبيا الحديث في نزاعات الأرض لا يبدو جيدًا، فقد أهرقت الكثير من الدماء من أجل الأراضي، بدءًا كيلا تنال إريتريا استقلالها، ثم قاتلت الإريتريين مرة أخرى قتالًا شرسًا في العام (1998) على منطقة "بادامي" صغيرة المساحة مهرقة أيضًا أرواح الآلاف، كما لم تنصاع إثيوبيا إلى حكم دولي قاضٍ بانسحابها من المنطقة لصالح أريتريا في الألفينات، لكن فعلها آبي أحمد مؤخرًا، ضمن صفقة سياسية يشتبه بارتزاق الجيش الإريتري فيها بمشاركته في حرب إقليم تغراي الأخيرة.

اقرأ/ي أيضًا

لا للحرب.. نعم لاسترداد أراضي السودان

إسرائيل والسودان.. قصف جوي وعداء شعبي