29-يوليو-2022
متظاهر سوداني

متظاهر في إحدى التظاهرات الرافضة للحكم العسكري في البلاد

في كانون الثاني/ يناير من العام 1985 أصدر المفكر والكاتب والسياسي السوداني منصور خالد كتابه "النخبة السودانية وإدمان الفشل" وهو سِفرٌ في نقد التجربة السياسية للنخبة السودانية وتعاطيها مع البلاد وقضاياها.

التيجاني: مسؤولية السياسي هو علاج الأزمات وليس توصيفها ومن يرغب في التوصيف عليه بالتنحي إلى كراسي المحللين

النخبة التي نعتها الراحل منصور خالد بالفشل من دون أن يستثني نفسه، وهو الذي شغل مناصب وزارية في عهد نظام الرئيس الأسبق جعفر النميري قبل أن ينخرط في صفوف الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل جون قرنق دي مابيور، ويصبح أحد أبرز المنظرين لمشروع "السودان الجديد" الذي انتهي بانقسام السودان إلى دولتين في الشمال والجنوب.

تبلور الفشل في إدارة التنوع والحفاظ على حدود الدولة الموروثة من حقبة الاستعمار في كتابات منصور خالد نفسه؛ إذ صاغ بعد الانفصال سفره "السودان أهوال الحرب وطموحات السلام.. قصة بلدين".

إدمان النخبة السودانية للفشل هو الإجابة الدقيقة عن السؤال الذي يطرحه كل العارفين في السودان: كيف يمتلك هذا البلد كل هذه الأراضي والمياه والموارد والثروات، بينما شعبه ما يزال يبحث عن قطعة خبز على الرغْم من مرور أكثر من (65) عامًا على استقلاله؟

https://t.me/ultrasudan

 السودان ظلّ يتخبط بين حكومات عسكرية ومدنية، وبين ثورات شعبية بدأت في تشرين الأول/ أكتوبر 1964 مرورًا بنيسان/ أبريل 1985، وصولاً إلى كانون الأول/ ديسمبر 2018، وما يزال السودان يراوح مكانه، وكأن الزمن تجمد عند حقبة ما قبل الاستقلال أو توقفت عجلة السنين عند محطة الفشل في بناء دولة قومية وطنية تحقق طموحات شعوبها المتعددة في السلام والتنمية.

في العام 2012 صُنّف السودان ثالث أفشل دولة في العالم، حسب تصنيف الدول الفاشلة، فيما احتل الصومال موقع أفشل دولة في العالم للمرة الخامسة على التوالي، وجاءت الكونغو في المرتبة الثانية، والسودان في الثالثة، تلاه جنوب السودان في المرتبة الرابعة، بينما جاءت تشاد في الخامسة، وزيمبابوي في السادسة، وحلت أفغانستان في المرتبة السابعة.

ويصنف مؤشر الدول الفاشلة (178) دولة في العالم مستخدمًا (12) معيارًا رئيسيًا اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا؛ وتشمل معايير مثل شرعية الدولة واحترام حقوق الإنسان وسيادة حكم القانون ومظالم المجموعات والتنمية غير المتوازنة وغيرها من معايير.

وفي العام 2010 واستباقًا لخيار تصويت الجنوب سودانيين على استفتاء تقرير المصير، قال الأمين العام للحركة الشعبية التي كانت تشارك السلطة مع المؤتمر الوطني يومها باقان أموم – قال إن أهل الجنوب سيصوتون للانفصال هروبًا من "الدولة الفاشلة". والمفارقة أن أموم وبعد سنة واحدة من الانفصال استخدم ذات الوصف لكن في هذه المرة ليصف دولة الجنوب الوليدة بالفشل.

ووجدت فكرة توصيف الدولة بالفشل والعجز رواجًا بين القيادات السياسية في سودان ما بعد سقوط نظام البشير في نيسان/ أبريل 2019. ففي أيار/ مايو 2020، وصف رئيس حزب المؤتمر السوداني والقيادي في قوى الحرية والتغيير (الحاضنة السياسية للحكومة) - وصف حكومة رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك بـ"الفاشلة".

لكن تتجلى المفارقة في توصيف الدولة السودانية بالفشل والعجز عندما يصدح بها مسؤولون في السلطة، كما فعل رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان في مرات عدّة.

صباح اليوم، ومن مقر إقامته في مدينة الجنينة، وصف نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي في سودان ما بعد الانقلاب وقائد الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو الوضع في السودان بـ"المنهار"، قائلًا إن السلطة "عاجزة عن توفير الموارد التي تمكنها من إيجاد حلول".

واتهم حميدتي في حديث لبرنامج "مؤتمر إذاعي" الذي بثته الإذاعة السودانية اليوم الجمعة - اتهم بعض الأجهزة الأمنية بلعب دورٍ في الصراعات  المندلعة في أنحاء السودان. وشكا من عدم التزام بعض الأطراف من قبل بمقررات اتفاقية جوبا لسلام السودان، ومن وجود ثغرات في الحدود السودانية الليبية. وقال دقلو إن حركات مسلحة أظهرت سلوكيات "غير منضبطة" وخالفت القانون. وأشار إلى أن حل الأزمة بإقليم النيل الأزرق يتم عبر "فرض هيبة الدولة"، وهو ما يعزز فرضية عجز السلطة عن تجاوز محطة الفشل.

انتقد المحلل السياسي والكاتب الصحفي الدكتور خالد التيجاني توصيفات المسؤولين للأوضاع في السودان بـ"الفشل"، ووصَفَها بـ"الحديث المجاني" الذي لا يمكن أن يساهم في إيجاد حلول للأزمات السياسية والاقتصادية في البلاد.

وقال التيجاني في تصريحات لـ"الترا سودان" إن المسؤولين السودانيين "يفتقرون إلى الجدية" التي تمكنهم من المساهمة الإيجابية في حل مشكلات البلاد "الموروثة" والناتجة عما أسماه "الفشل المتوارث" منذ عهد التأسيس الأول لدولة سودانية كانت "مجرد صدى لدولة الاستعمار الإنجليزي في غياب مشروع وطني حقيقي" - وفقًا لتعبيره.

وسخر التيجاني من تصريحات نائب رئيس مجلس السيادة التي قال فيها إن الدولة "منهارة وليس لديها إمكانيات اقتصادية". وبحسب التيجاني، مثل هذا الحديث يمكن قبوله من محلل سياسي أو من مراقب للأوضاع، لكن من الصعوبة قبوله من الرجل الثاني في الدولة.

وبالنسبة إلى التيجاني، فإن ما ينطبق على تصريحات نائب رئيس مجلس السيادة ينطبق أيضًا على الآخرين ممن ينتهجون "نقد الأوضاع" بدلًا عن إيجاد معالجات حقيقية لها، على اعتبار أن مسؤولية السياسي هو "علاج الأزمات وليس توصيفها". ويتابع التيجاني: "من يرغب في التوصيف عليه بالجلوس في كراسي المحللين السياسيين والتنحي عن كرسي المسؤولية لصالح من يستطيع معالجة المشكلات"، مطالبًا من يردد مثل هذه الخطابات بمغادرة موقعه، ومستدلًا بعبارة: "لا يوجد رجل لا يمكن تعويضه".

وتتفق المحللة السياسية وأستاذة النظم السياسية المقارنة بجامعة النيلين الدكتورة إجلال عبداللطيف مع توصيف الدولة في السودان بـ"الفشل". وتضيف إجلال في حديثها لـ"الترا سودان" أن مشكلة إعادة بناء دولة ما بعد الاستعمار في دول العالم الثالث تمظهرت بجميع أشكالها في الحالة السودانية، سواء في عجز مؤسسات الدولة عن بسط سيطرتها على جميع المكونات أو فشلها في بناء مشروع وطني يشكل "صيغة جديدة للانتماء".

وتتابع إجلال: "لكن في التداول حول فشل النموذج السوداني للدولة فإن النخبة السياسية تتحمل القدر الأكبر فيه، بدءًا من مشروع التأسيس الأول وشعاراته "للتحرير وليس التعمير"، مشيرةً إلى أن الرعيل الأول "لم يكن يعي أن التحرر الحقيقي هو أن تصنع نموذجًا لدولة موحدة تنطلق من قيم المساواة والمواطنة".

إجلال: السودان دولة فاشلة لأن السياسة يُعاد تعريفها بأنها تحقيق تطلعات القيادات وليس توظيف المتاح لمصلحة المواطنين

وتضيف: "ما حدث قبل (66) عامًا يبدو وكأنه يعاد تصميمه من جديد ومن نفس النخبة". وتقول: "من يديرون البلاد الآن عاجزون عن إعادة تعريف الثورة بأنها للشعب وليس للنخبة وعاجزون حتى عن صياغة مشروع وطني ينطلق من قيم الحرية والسلام والعدالة". وتختم المحللة السياسية وأستاذة النظم السياسية المقارنة إفادتها لـ"الترا سودان" بالقول: "هم عاجزون حتى عن التعبير الحقيقي عن فشل الدولة الذي يجب أن تعاد صياغته". وتوضح: "السودان دولة فاشلة لأن النخبة عجزت عن التعبير عن مطلوبات الشعب، فاشلة لأن السياسة يُعاد تعريفها بأنها تحقيق تطلعات القيادات وليس توظيف المتاح لتحقيق مصالح المواطنين".