في الرابع من آب/ أغسطس عام 2019 وقع المجلس العسكري الانتقالي في السودان وقوى إعلان الحرية والتغيير بالأحرف الأولى على إعلان دستوري يمهد الطريق إلى تشكيل حكومة انتقالية.
ويعتمد الإعلان الدستوري الذي وقع في الخرطوم على اتفاقية اقتسام السلطة التي تم التوصل إليها في 17 تموز/ يوليو بين الطرفين. وقع أحمد ربيع ممثل المعارضة، ونائب رئيس المجلس العسكري محمد حمدان دقلو "حميدتي" الإعلان الدستوري بحضور وسطاء من الاتحاد الأفريقي وإثيوبيا.
بعد نحو شهر على توقيع الوثيقة، عرف السودانيون أن هناك وثيقتان دستوريتان؛ إحداها من (70) مادة والثانية من (78) مادة
وفي 17 آب/ أغسطس احتفل السودانيون في شوارع العاصمة الخرطوم وفي مدن أخرى بتوقيع الوثيقة الدستورية واتفاق تقاسم السلطة بين المجلس العسكري الحاكم والمعارضة المدنية، في احتفالية أطلقوا عليها اسم "فرح السودان".
دشنت الوثيقة الدستورية حقبةً جديدةً في السودان كان من المفترض بها أن تحقق انتقالًا إلى الحكم المدني الديمقراطي، بعد انقضاء حقبة الرئيس المعزول عمر البشير الذي أحكم قبضته على البلاد طوال أكثر من ثلاثة عقود.
ووقع على وثائق المرحلة الانتقالية الفريق أول محمد حمدان دقلو نائب رئيس المجلس العسكري، وأحمد الربيع ممثلًا لائتلاف قوى إعلان الحرية والتغيير المعارض وتجمع المهنيين السودانيين، بحضور رؤساء دول ورؤساء وزراء من عدة دول، من بينهم رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد ورئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي.
لاحقًا وبعد تشكيل الحكومة الانتقالية وفقًا للوثيقة الدستورية، انقسم تجمع المهنيين السودانيين إلى تجمعين، قبل أن تنقسم قوى الحرية والتغيير نفسها بين مجموعة "المجلس المركزي" وقوى "التوافق الوطني"، بينما مضى أحمد ربيع ليدير مدينة المعلم الطبية في الخرطوم بقرار من حكومة الثورة.
أمس أعربت لجنة المعلمين السودانيين عن رفضها قرار إقالة المدير العام لمدينة المعلم الطبية أحمد ربيع، مؤكدةً تمسكها بالرفض "التام" للتعامل مع القرار بتسليم المستشفى.
وقال الناطق الرسمي باسم لجنة المعلمين السودانيين سامي الباقر في تصريح لـ"الترا سودان" إن القرار صدر "بتوجيه من مجلس السيادة" إلى مجلس الوزراء الذي وجّه بدوره مسجل تنظيمات العمل بإقالة المدير العام للمستشفى أحمد ربيع.
وأكد الباقر أن لجنة المعلمين رفضت القرار وطالبت أحمد ربيع بعدم الاستجابة للقرار وعدم تسليم المستشفى للمدير "المعين بواسطة الحكومة الانقلابية" - على حد تعبيره.
ويطرح القرار الصادر من مجلس السيادة بإقالة ربيع الذي تم تقديمه من قبل قوى التغيير للتوقيع على الوثيقة الدستورية سؤالًا مفاده: ما الذي تبقى من الوثيقة الدستورية؟
بعد نحو شهر على توقيع الوثيقة الدستورية، عرف السودانيون أن هناك وثيقتان دستوريتان؛ الأولى بها (70) مادة، بينما في الثانية (78) مادة. وكان حديث المجالس وقتها بأيّ النسختين تُحكم البلاد وتُدار؟ وحاجج بعض القانونيين الذين ساهموا في كتابة الوثيقة الدستورية بأن ما حدث هو "تعديل في الصياغة" وليس إضافة مواد جديدة، مؤكدين وجود وثيقة واحدة فقط.
بدأت المطالبات بتعديل الوثيقة بعد مدة وجيزة من التوقيع عليها في آب/ أغسطس 2019، لكن المطالبات بالتعديل بلغت ذروتها بعد أن كشف نائب رئيس حزب الأمة القومي إبراهيم الأمين في مقابلة تلفزيونية بقناة الجزيرة في أيلول/ سبتمبر 2019 عن تعديل طرأ على الوثيقة الدستورية بين المجلس العسكري وقوى إعلان الحرية والتغيير، متهمًا ثلاثة أعضاء من المكونين المدني والعسكري، بإدخال تعديلات عليها "بصورة منفردة" والتلاعب بها من دون علم طرفي التفاوض.
وفي الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، نشرت وزارة العدل السودانية في الجريدة الرسمية الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية، بعد إدخال تعديلات على بعض موادها. وصادق مجلسا السيادة والوزراء في السودان على الوثيقة المعدلة خلال اجتماع مشترك في 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2020.
وأدى اتفاق جوبا للسلام الموقع بين الحكومة الانتقالية وحركات الكفاح المسلح في تشرين الأول/ أكتوبر إلى إدخال تعديلات جديدة وفتح الوثيقة الدستورية وإضافة مادتين: المادة (79) المتعلقة بإدماج اتفاقية جوبا في الوثيقة الدستورية لتصبح جزءاً منها، وأعطتها قيمة دستورية أكبر من الوثيقة، بنصها على أن تسود أحكام الاتفاقية على الوثيقة في حال ظهور تعارض بينهما، والمادة (80) التي نصت على تشكيل مجلس شركاء الفترة الانتقالية.
وعلق رئيس مجلس السيادة السوداني عبدالفتاح البرهان العمل بسبع مواد من الوثيقة الدستورية التي أقرت في عام 2019 في الانقلاب العسكري الذي قاده باسم الجيش في 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي وحلّ حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ومجلس السيادة واعتقل عددًا من الوزراء والسياسيين والناشطين.
وأعلن البرهان في بيان رسمي "تعليق العمل بالمواد 11 و12 و15 و16 و24-3 و71 و72 من الوثيقة الدستورية مع الالتزام التام بالاتفاقيات والمواثيق الدولية التي وقعت خلال فترة الحكومة الانتقالية".
وتتعلق المادتان (11) و(12) بتشكيل مجلس السيادة الانتقالي واختصاصاته وسلطاته، والمادتان (15) و(16) بتكوين مجلس الوزراء الانتقالي واختصاصاته وسلطاته.
أما المادة (24-3) فتتعلق بتكوين المجلس التشريعي الانتقالي وتقول تحديدًا إنه يتكون بنسبة (67%) ممن تختارهم قوى إعلان الحرية والتغيير و(33%) للقوى الأخرى غير الموقعة على الإعلان.
فيما تنص المادة (71) على أن الوثيقة الدستورية استمدت أحكامها من الاتفاق السياسي لهياكل الحكم في الفترة الانتقالية الموقع بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير وفي حالة تعارض أيّ من أحكامهما تسود أحكام هذه الوثيقة. وتقول المادة (72) بأن المجلس العسكري الانتقالي يُحلّ بأداء أعضاء مجلس السيادة القسم الدستوري.
ومثلت قرارات رئيس مجلس السيادة انقلابًا كاملًا على الوثيقة الدستورية وفقًا لقوى الحرية والتغيير وللشارع الرافض لخطوات الجيش. وانطلقت الاحتجاجات المطالبة بالعودة للوثيقة الدستورية والمسار الديمقراطي في أيام الانقلاب الأولى، لكن هذه الأصوات سرعان ما خفتت في أعقاب الاتفاق الذي عقده قائد الجيش مع رئيس الوزراء المعزول وقتها عبدالله حمدوك، الاتفاق الذي سرعان ما انتهى باستقالة حمدوك من منصب رئيس الوزراء الذي ظل شاغرًا حتى اليوم.
في وقت يصف فيه مبارك أردول الأمين العام لقوى الحرية والتغيير (التوافق الوطني) قرارات الجيش بأنها "مفاصلة وليست انقلابًا على الوثيقة الدستورية"، يقول القيادي في المجلس المركزي شريف محمد عثمان لـ"الترا سودان" إنه لم تعد هناك وثيقة دستورية -فقد تم تمزيقها بواسطة العسكر- حتى تتم العودة إليها ومن ثمة صناعة شراكة جديدة بين المدنيين والعسكريين. وتابع عثمان: "الوثيقة الدستورية لم يعد لها وجود في الوقت الراهن".
وللتأكيد على فرضية أن وثيقة 2019 صارت من التاريخ، فإن لجان المقاومة التي تقود الحراك الاحتجاجي ضد الانقلاب ترفع شعار: "لا تفاوض، لا شرعية، ولا شراكة" مع المكون العسكري. وأجهزت لجان المقاومة على الوثيقة الدستورية من خلال إعلانها عن "ميثاق تأسيس سلطة الشعب" الذي حوى عدة بنود من بينها بند يطالب بإلغاء الوثيقة الدستورية وخلق وضع دستوري جديد عن طريق إعلان دستوري مؤقت يستند إلى ميثاق سلطة الشعب، وبمراجعة الاتفاقيات المبرمة والمراسيم الصادرة منذ 11 نيسان/ أبريل 2019.
أجهزت لجان المقاومة على الوثيقة الدستورية من خلال إعلانها عن "ميثاق تأسيس سلطة الشعب"
ومنذ قرارات 25 تشرين الأول/ أكتوبر يعيش السودان حالةً من الفراغ الدستوري، وتسيطر عليه القوة العسكرية التي يطلق عليها البعض "سلطة الأمر الواقع" العاجزة عن بناء مؤسسات سياسية أو حتى تسمية رئيسٍ للوزراء وتشكيل حكومة لإدارة شؤون البلاد في الوقت الذي لم يتبقَّ فيه من بنود وثيقة 2019 غير نصوص في الأرشيف لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع؛ ما يجعل الإجابة عن سؤال ما الذي تبقى من الوثيقة الدستورية: لا شيء.