بعد قمع الإدارة البريطانية السريع لحركات المقاومة الدينية والقبلية التي أعقبت سقوط دولة المهدية، لم تواجه أي مقاومة تذكر إلا من طبقة "الأفندية" أو جيل المتعلمين الذي خلقه الاستعمار لتقليل تكلفة حكم البلاد. سنة 1924 اندلعت ثورة قادها عدد من الأفندية العسكريين بصورة رئيسية، وبعض المدنيين من حركة اللواء الأبيض كصدى لحركة التحرر الوطني المصرية. بعد قمع الحركة والتنكيل بقيادتها، اتجهت الحكومة الاستعمارية إلى البحث عن شريك محلي جديد تسهل السيطرة عليه.
ظل المتعلمون يشتكون من حظوة رجال الإدارة الأهلية عند الإدارة الاستعمارية ويشتكون من إهمالها لـ"الفئة المستنيرة" كما عبر عن ذلك أحد ألمع مثقفي تلك الفترة؛ معاوية محمد نور
وجدت الحكومة ضالتها في رجال القبائل فنقلت تجربة الحكم غير المباشر في نيجيريا باستخدام رجال القبائل إلى السودان. في بداية الثلاثينات أعطت الحكومة صلاحيات قضائية وإدارية واسعة لرجال القبائل والزعماء الدينيين فيما بات يعرف بالإدارة الأهلية. أثار إنشاء الإدارة الأهلية سخط طبقة المتعلمين "الأفندية" فكوّنوا مؤتمر الخريجين 1938 الذي حرصوا على تقديمه كممثل للأمة السودانية. ظل المتعلمون يشتكون من حظوة رجال الإدارة الأهلية عند الإدارة الاستعمارية ويشتكون من إهمالها لـ"الفئة المستنيرة" كما عبر عن ذلك أحد ألمع مثقفي تلك الفترة؛ معاوية محمد نور. منذ الأيام الأولى خاض المتعلمون صراعًا ضد القيادات التقليدية حول مشروعية تمثيل السودانيين عند الحكومة الاستعمارية التي ظلت تؤثر التقليديين. لم يصمد المتعلمون كثيرًا وسرعان ما وفقوا أوضاعهم مع هذه الوضعية بتحالف الجزء الأكبر منهم مع القوى التقليدية في مرحلة تكوين الأحزاب للاستفادة من "الجماهير الجاهزة" في لعبة السلطة.
اقرأ/ي أيضًا: السودان.. تاريخ السلطة ومستقبل الديمقراطية
خرج المستعمر وترك نخبة سياسية تتكون من: رجال الإدارة الأهلية، وزعيما الطائفتان الكبيرتان، والأفندية المدنيون، والجيش الذي حل محل الأفندية العسكريين وصار قسمًا مستقلًا بذاته من النخب المتنافسة على السلطة. مع أن الزعماء الدينيين والقبليين يدينون بأهميتهم لكتلتهم البشرية في الريف بشكل أساسي، إلا أنهم ظلوا يقومون في العهد الوطني بذات دورهم في العهد الاستعماري، وهو تمثيل السلطة المركزية في الريف لا تمثيل الريف في دوائر السلطة. وسرعان ما أضعف هذا الموقف سلطة الإدارة الأهلية وظهر لها منازع قوي في الريف الشاسع، وهم المتعلمون من أبناء الريف في جنوب وغرب السودان. نتيجة لحساسية الأفندية القومية المتدنية، التي تبدت في تبنيهم افتراض إسلام وعروبة كل السودانيين وتوزيعهم الوظائف الكبرى المسودنة حديثًا بصورة مجحفة في حق الريف، نتيجة لذلك انطلق أول تمرد عسكري ضد الحكومة المركزية قبل اكتمال خروج المستعمر سنة 1955 في توريت بجنوب السودان، مؤذنًا ببداية واحدة من أطول الحروب الأهلية في إفريقيا، ودخول قادة المليشيات المعارضة ذات القاعدة الريفية القبلية نادي النخبة السياسية. كما أدى ضعف الإدارة الأهلية في تمثيل مصالح الريف لأفساح المجال واسعًا للقوى الحديثة غير المرتبطة بالطائفية لتقدم نفسها كممثل لمصالح مزارعي المشاريع الزراعية المروية. قاد هذا لصدام سريع ودام بين السلطة الوطنية الوليدة والطائفية ورجال الإدارة الأهلية من جهة، وطبقة المتعلمين من أبناء المدن ذوي الميول اليسارية، راح ضحية هذا الصدام مئات المزراعين الذي قتلوا في ما صار يعرف بمذبحة عنبر جودة في شباط/فبراير 1956.
اقرأ/ي أيضًا: السودانيون وعبء الحرية الثقيل
أشار عدد من الكتاب السودانيين مثل عبد الله علي إبراهيم ومحمد إبراهيم نقد إلى ما أسموه "الإرهاق الخلاق، توازن الضعف" للإشارة لحالة انسداد الأفق التي وصل إليها مختلف أقطاب النادي السياسي السوداني القديم. اتسع الخرق على الراتق وتجاوزت الأزمة السودانية خيال النخبة التقليدية وقدراتهم. جاءت ثورة كانون الأول/ديسمبر 2018 الشبابية من أوساط يمكن اعتبارها مستقلة تمامًا عن النخبة التقليدية، ويذكر الجميع الرفض الحازم الذي قابل به الشباب في أيام الثورة الأولى تشكيل الأحزاب المعارضة لتحالف قدم نفسه لقيادة وتنسيق الاحتجاجات، اضطرت الأحزاب للإنزواء وإتاحة الفرصة لتجمع المهنيين السودانيين لتمثيل صوت الثوار، لم يجد التجمع القبول من الشباب إلا بعد تأكيده المغلظ على استقلاله عن كل الأحزاب. صحيح أن الأنظمة الدكتاتورية الثلاث التي حكمت السودان معظم سنوات الدولة الوطنية ظلت دعايتها تركز بصورة أساسية على شيطنة الأحزاب والحزبية، ابتداءًا من البيان الأول لانقلاب الفريق إبراهيم عبود وحتى آخر أيام الإنقاذ، وصحيح أنه كان لهذه الدعاية أثر كبير في نفور الشباب من الأحزاب ورفضهم لها، لكن ليس هذا هو السبب الوحيد ولا الأساسي لرفض الشباب الثوار قيادة الأحزاب لثورتهم، بل الخذلان المستمر للشعب من قبل هذه الأحزاب هو السبب الرئيس لذلك. شمل الإرهاق الخلاق عسكر السودان أيضًا الذين لم يجتمع المعتصمون في الخرطوم على شيء مثل اجتماعهم على رفض أي دور سياسي لهم، وبلغ الرفض مداه بعد فض الاعتصام والجرائم البشعة التي صاحبته في حق الثوار. في الفترة التي تلت فض الاعتصام وقبل العودة للتفاوض حاول العسكريون إحياء الموتى، باستدعاء رجال الإدارة الأهلية ثانية للتحالف معهم لحكم السودان، كانت هذه فكرة حميدتي قائد مليشيا الدعم السريع الذي يعتقل موسى هلال أحد أقوى زعماء القبائل، وكفى بهذا الاعتقال وحده دليلًا على وصول مغامرة رجال القبائل السياسية لنهايتها، بحيث لا يستطيع لا حميدتي ولا غيره إحياءهم مرة أخرى، وفي ظني أن مهزلة أرض المعارض ببري ستكون غالبًا هي آخر ظهور سياسي لرجال الإدارة الأهلية.
إن الأمل في ترسيخ الديمقراطية كبير بقدر قوة المجموعات الاجتماعية ذات المصلحة في ذلك
إن الذين قادوا الثورة ضد نظام البشير كانو بصورة رئيسية من الشباب، الذين ليس لهم أي ولاءات سياسية أو طائفية أو قبلية، الشباب الذين أتاحت لهم التكنولوجيا الحديثة الانفتاح التام على العالم، وعلى النظم السياسية والاقتصادية ومنظومة القيم والحقوق التي صنعت نموذج حياة الإنسان في الدول الديمقراطية، وهو النموذج الذي قاموا بالثورة لنقله لبلدهم. الشباب الذين لا يعتقدون في حكمة ورجاحة عقول زعماء القبائل والطوائف، ولا استعداد لديهم للتنازل عن حقوقهم وحريتهم لأي ديكتاتور عسكري يقدم نفسه كمخلص تنموي عادل، ولا تطرب آذانهم للشعارات الآيدولوجية الكفاحية الرنانة عن تغيير العالم وإعادة تشكيله وفق تصور طوباوي يميني أو يساري. هؤلاء الشباب يجدون أنفسهم في الديمقراطية وقيمها وحقوقها. الفروق الأساسية بين شباب ثورة كانون الأول/ديسمبر والأفندية الأوائل؛ أنهم شباب ليسوا أقلية تعدادية مثل الأفندية، ولا يمثلون الطبقة الوسطى المدينية المثقفة فقط، حيث شملت الثورة الريف والمدن بمشاركة الجنسين من كل الفئات والطبقات. ورغم كل التحديات الداخلية والخارجية التي تحدق بالتجربة الديمقراطية بعد ثورة 2018 إلا أن الأمل في ترسيخ الديمقراطية كبير بقدر قوة المجموعات الاجتماعية ذات المصلحة في ذلك، وهم شباب ثورة كانون الأول/ديسمبر المجيدة.
اقرأ/ي أيضًا