18-أكتوبر-2023
حرب السودان

شهد السودان تكوينات عديدة من المليشيات المسلحة منذ الاستقلال (ألترا سودان)

حاولتْ الحلقة السابقة من هذه الكلمة الإحاطة بالملابسات التاريخية التي خرج بها الدعم السريع لقتال السودانيين من رحم القوات المسلحة (وهي الفيل داخل غرفة السياسة السودانية حسب ما يشير دومًا البروفيسور عبدالله علي إبراهيم). وقلت ضمنها إن الحرب جاءت نتيجة لعوامل تاريخية ترسخت في جسد الدولة، وهو ما نشهد عليه في يومنا هذا من توطن الفساد وغياب العدالة والاستبداد في بنيتها. ومع ذلك، فهذه الدولة، وفي ظل الأوضاع الحرجة التي نعيشها من عدم نضوج حركة الجماهير بالقدر الكافي للاتكاء عليها بالكامل، مع كفاحها المستمر من جانب، ولإفلاس المشاريع السياسية الحزبية وعجزها عن التدخل في تغيير الراهن لمصلحة الناس من جانب آخر – تظل الدولة هي نقطة ما للبداية منها، وهي بإرثها من مؤسسات ونظم ولغة في عرف بعض من مفكري الجنوب العالمي كفرانز فانون "غنيمة" في "معارك الاستقلال ضد المحتل"؛ ننتقد ما بها من علل ونقوّم، ونقول إنها من أوصلنا أصلًا إلى هذه اللحظة، لكن لا نتركها نهبًا لمطامع المشاريع الخاصة، على الرغم من تاريخها الدامي والمميت في حالتنا.

أيًا تكن علل القوات المسلحة السودانية، وهي كثيرة، بلا حصر ولا عد، لكن تظل "الدعم السريع" أكبر عللها، بل أكبر تجليات علل الدولة السودانية

وعلى ذكر التاريخ، لا بد من ذكر أن التاريخ –وهو حقل شائك يتقاطع فيه ما هو نفسي مع ما هو سياسي مع ما هو اجتماعي.. إلخ– هو في الحقيقة جملة من التواريخ لا تاريخ واحد (منها ما هو تاريخ رسمي "تاريخ السلطة"، وإحدى مهامه الأساسية هو دمج ما عداه من تواريخ في جسده، ومنه ما هو تاريخ للمستبعدين وهو تاريخ يبقى دومًا على التخوم وأحيانًا يُستدعى لتوظيفه بغرض ترسيخ ركائز السلطة متى تزعزعت أوتادها). فمثلًا عبارة "معارك الاستقلال ضد المحتل" أعلاه، لا ريب في أنها ستقابل بالتهكم، فالاستقلال في عرف كثيرين (وبالأخص عند النخب من المتعلمين) هو لحظة شاعرية برلمانية سهلة المنال، تجسدت في العلم الذي صممته السريرة مكي، ورفعه إسماعيل الأزهري ليرفرف رمزًا للسيادة الوطنية، في مشهد أقرب منه إلى الجلاء الذي أتى منحةً من الإنجليز، وأبعد منه لتاريخ مضرج بالدماء والدموع والتضحيات – وهذا فيه سلب لكثير من الحق والتاريخ. بالتأكيد لن يتذكر التاريخ الرسمي على سبيل المثال عبدالفضيل ألماظ ورفاقه في حركة اللواء الأبيض.

لن يذكر التاريخ الرسمي ذلك الضابط الذي لفظ آخر أنفاسه –وفق ما لاحظ صديق بألمعية بالغة– في المكان نفسه الذي اغتيل فيه ثلة من خيرة شبابنا قبل أعوام قليلة بساحة القيادة العامة، ضمن حراك ثورة ديسمبر 2018 وتقريبًا للمطالب نفسها، خلال مقاومته للمستعمر آخر ليالي وصباحات ثورة 1924 (هنا يمكن التوقف قليلًا وملاحظة أننا ظللنا نرفع المطالب نفسها لنحو مئة عام أو يزيد)، بعد مناوشات بدأت من كبري النيل الأزرق وانتهت عند مستشفى النهر (مستشفى العيون حاليًا) الذي دُكّ عليه تحت وابل من الذخيرة الحية. لكن ألماظ وهو الضابط في الأورطة (11) الذي تخرج في المدرسة الحربية، وهما كما نعلم مؤسستان استعماريتان حتى النخاع، لا يجرؤ أيٌّ كان رغمًا عن ذلك بالحديث عن أنه كان ممثلًا للاستعمار.. إنه –وعلى العكس من ذلك– طاقتنا التحررية التي صدر عنها جزء نفخر به من تاريخنا.. تاريخ عزائم السودانيين لاستعادة أصواتهم ومواقعهم من الفعل بحرية. وينطبق هذا الأمر على مؤسستي الجيش والدعم السريع، فالجنود وصغار الضباط هم تاريخ غير رسمي في صف الجيش، بينما يمكن تتبع التاريخ غير الرسمي في الجانب الآخر وسط أغلب المقاتلين الأبعد عن عصبية علاقة الدم بأسرة دقلو، وهي البنية الأساسية لقوة المليشيا (هذا الأمر تؤكده خطابات "حميدتي" التي عبر فيها في أكثر من مناسبة عن استيائه من جنود الدعم السريع المتسربين من صفوف قواته بعد أن يجمع الواحد منهم ما يكفيه من المال، نفس الخطاب المستاء تكرر من قادة القطاعات، أشهرها خطاب اللواء علي يعقوب قائد قطاع وسط دارفور الذي استهجن فيه بأشد العبارات تسرب منتسبي الدعم السريع من أمارة أولاد مالك بعد عودتهم بأموال اليمن – هذا الأمر يكشف لنا جانبًا من ماهية ارتباط أغلب الجنود بهذه المليشيا، وهو ما يمكن تسميته ارتباط ضرورة واضطرار لا ارتباط عقيدة ومبادئ، هذا بخلاف ما نجده عند أغلب جنود الجيش؛ فالجيش رغم استثماراته التجارية المتنوعة ظلت رواتب جنوده وحتى صغار الضباط شديدة التواضع، وربما يكشف هذا عن جزء من طبيعة الارتباط بالمؤسسة)، فبأي حال، ليس كل الجيش برهان ولا كل الجيش كيزان، ولا بالضرورة يصدر كل الجيش عن مطامحهم الفاسدة، مثلما أنه ليس كل الدعم السريع دقلو ولا كلهم "حميدتي" ولا كلهم يصدر عن نفس مطامعه المدمرة. وبالطبع هذه الصيغة ليست معادلات حتمية على أية حال، وإنما هي رموز ذات دلالات كاشفة نعتبر بها كأطر عامة عند وقوفنا على الواقع بغية فهمه. فالموقع الطبقي (قُربنا أو بُعدنا من السلطة إن شئت) ليس نبوءة تحدثنا عما سيحدث حتمًا في اليوم اللاحق.

https://t.me/ultrasudan

في هذا المعنى كتب كمال الجزولي على روزنامته الآتي:

"خلال مؤتمر برست–ليتوفسك للسّلام الذي انعقد في عقابيل الحرب الأولى، كان كبيرُ مفاوضي وفد البلاشفة، المنحدر من أصل برجوازي، يكثر من تحذير المؤتمرين الغربيِّين بأنه لن يقبل المساومة في مصالح العمال وحلفائهم الطَّبقيِّين، فاغتاظ كبير مفاوضي الوفد البريطاني، المنحدر من الطبقة العاملة، وانتابته سَورة ضيق شديد، فأراد أن يحرجه أمام ذلك المحفل، فخاطبه قائلًا باستغراب: أراك، يا صاحبي، تكثر من الحديث عن مصالح العمَّال، وأنت ابن البُورجوازيَّة، بينما لا أفعل ذلك حتَّى أنا ابن الطبقة العاملة! فرد عليه كبير المفاوضين البلاشفة، قائلًا بهدوء: نعم، أنت محقٌّ في ذلك، ولكن كلانا خان طبقته!"

ولأن السياسة ليست فن الممكن وفق ما تحب أن تعرّفه كثير من القوى الساعية للحفاظ على الأوضاع ضمن ما هو ممكن وقائم بالفعل، بل هي فن البدء بما هو ممكن والسعي إلى ما وراء ذلك سبيلًا، فضلًا عن أنها لا تعمل في الفراغ، ستحتاج على الدوام أي حركة سياسية إلى نقطة ما صلبة داخل الواقع للانطلاق منها نحو الآفاق التي تتطلع إليها، لكن الممكن اليوم في الواقع السوداني، هو خيار ثقيل على الأنفس، وفوق ذلك محفوف بمخاطر كبيرة. وعن مثل هذه اللحظة شديدة الحرج التي نختبرها اليوم كتب ماركس يقول: "الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم، لكنهم لا يصنعونه على هواهم، بل يصنعونه في ظل ظروف لا يختارونها بأنفسهم، في ظل ظروف قائمة بالفعل، ظروف ورثوها ونقلوها من الماضي". هذا الخيار الثقيل على الأنفس والمحفوف بالمخاطر هو خيار الوقوف إلى جانب القوات المسلحة السودانية (وهو فريضة، لكنها فريضة لا تكتمل إلا عبر نقد التاريخ الطويل من ممارساتها الفاسدة والمميتة التي قادتنا إلى ما نحن فيه اليوم). ففوق أنها "مؤسسة" على علاتها الكثيرة، مما لا يمكن مقارنته بمليشيا أسرية، وهو رأي ذاع وسط مناصري القوات المسلحة، لا أزيد في تفصيله. نجد الآن القوات المسلحة، في ظل المعمعان الذي نعيشه اليوم، من انقسام المناطق إلى نفوذها وأخرى لنفوذ قوات المليشيا المتمردة، تتوفر مناطق نفوذها على مساحات لطاقات التحرر من تلك التي استثمر فيها مناضل ثوري كماركس بلا طهرانية يوم أن بدأ دراساته المطولة من داخل مكتبة متحف المستعمرات البريطانية الإمبريالي، ليخرج لنا أعماله المرجعية التي أتت من وراء عزيمة جادة في التخلص من الإمبريالية بأسرها (لا المتحف فقط). هذه المساحة التحررية، تؤكدها عملية أشبه بما يمكن وصفه بتصويت الأقدام (Foot Voting) إن صح التعريب. والتصويت بالأقدام هو عملية التعبير عن تفضيلات الفرد من خلال ترك المكان الذي يكره الواحد المقام فيه، والانتقال إلى وضع يعده أكثر فائدة (أو لنقل أقل ضررًا في حالتنا الماثلة – وهذا على سبيل المقاربة)، وهو بالضبط ما تقوله أي خارطة راصدة لاتجاه حركة المواطنين ومساحات العمل الاجتماعي الموفورة وسطهم، فالمناطق التي يسيطر عليها الجيش هي مناطق أمن يقصدها المواطنون ويجدون فيها مساحة أكبر نسبيًا للعمل الاجتماعي (بمعانيه المتباينة)، على علة الاستبداد التي تشوب تلك المناطق وتحاول إلجام الرأي المخالف فيها، وهذا ما لا يتوافر في مناطق نفوذ مليشيا الدعم السريع. ولذلك فالحفاظ على الدولة ومؤسساتها هو أحد ضروراتنا اليوم، وهو نقطة صلبة للبدء منها.

في المقابل، فإن مشاركة مقاتلين مرتزقة أجانب في صفوف مليشيا الدعم السريع، وهو واقع موثق ومعلوم، يقدح في وطنية توجهها التي ادعتها في خطاب رهنت فيه توقف الحرب بتسليم البرهان الذي تتهمه بإشعالها أو في خطاب محاربتها للإسلاميين "المتطرفين" الذين يسيطرون على القرار داخل الجيش وتقاتل إلى جانبهم "جماعات إرهابية" من مثل "داعش" أو حتى في خطاب أخير لها خاطته من ترقيعة ثوب قديم لجدلية المركز والهامش في زلفة حربها على الدولة التي تنوي تحريرها من أغلال "دولة 1956" حسب ما تدعي. وأكثر ما يكذب ادعاءات هذه المليشيا أخبار عن تعاونها مع كيان الاحتلال الصهيوني في جانب التجسس والتسلح، وهو قاصمة الظهر للمليشيا، فالتعاون مع كيان استعماري إمبريالي مما لا غفران فيه أو تهاون معه. فالسودانيون عندما خرجوا في ثورتهم يشقون بالهتاف عنان السماء بأن "كل البلد دارفور"، لم يكن محبةً في دافور فقط، أكثر من ذلك وأهم، كان تعبيرًا عن تضامنهم مع دارفور – الإقليم الذي وقعت عليه ما وقعت من ظلامات. ولذلك، فلا سبيل عندهم على الإطلاق إلى استبدال الاستبداد بمشروع استعمار استيطاني توسعي.

وإن كانت مليشيا الدعم السريع تسوغ للمواصلة في حربها على السودانيين بذريعة محاربة الكيزان، فلا بد من أن نتذكر أن الدعم السريع هو أكبر وارثي الكيزان لقطاعات الدولة المختلفة بحياتهم، ليتفاقم الأمر بعد أن خلع الشعب الكيزان في ثورتهم. وهذا الميراث وقع في اللحظة التي تحول فيها جانب مقدر من الاقتصاد السياسي للدولة على عهد "الإنقاذ" إلى ما أسماه مجدي الجزولي وإدوارد توماس بـ"عسكرة الإنتاج الريفي". تأمل المقتطفات التالية المجتزأة مما كتبه مجدي الجزولي وإدوارد توماس في هذا المعنى، في بحثٍ لهما أشرت إليه في الحلقة الأولى من هذه الكلمة:

"أعاد حكم البشير الطويل الذي استمر ثلاثين عامًا تشكيل السودان، أطاح بتكوينات سياسية قديمة وأنماط قديمة للتراكم، وأحل مكانها كارتيل سياسي– اقتصادي– أمني، تقوم عنه وكالةً حركته الإسلامية. قسمت حروب البشير البلاد إلى اثنين، لكن في مقابل ذلك يسرت للبلاد عقدًا من الرخاء البترولي أصبح السودان بفضله لبرهة دولة متوسطة الدخل. لم يدم الكثير من ذلك. كان للبشير، لكن إنجاز واحد باق وقابل للتصدير: المليشيا الريفية. تقاتلت هذه الميليشيات من أجل السيطرة على المراعي الطينية التي تضم ثروة البلاد البترولية أو السافنا الجافة والصحاري حيث الذهب، وتولت إيصال موارد السودان الجوفية هذه إلى الأسواق العالمية بكفاءة وبتكلفة زهيدة. ارتد السودان عندما انقطع البترول إلى تحصيل معظم مداخيله من العملة الأجنبية من المحاصيل والماشية. قامت أكثر المليشيات نجاحًا بتنظيم دوريات لتأمين مواسم الحصاد، وفوق ذلك اشترت بنك الثروة الحيوانية وأسست في العام 2017 بنكًا خاصًا بها (بنك الخليج) في شراكة مع رأس المال الإماراتي، وها هي سيطرت على جهاز الدولة السوداني. لا تقتصر عسكرة الإنتاج الريفي على المناطق التي مزقتها الحروب في أطراف السودان، لكنها صارت سمة حميمة للحياة الريفية. أصبحت القرية الكردفانية الوادعة والحلة الناعسة في الجزيرة في زمان مضى مواقع للانتشار العسكري […] تولت مليشيا الدعم السريع، بفضل تنظيمها العسكري وقدراتها اللوجستية وسيطرتها على الفائض الاقتصادي، مهام توفير الخدمات الاجتماعية. تقوم وحدات الدعم السريع بحفر الآبار وتنظيم الرعاية الصحية وحملات التطعيم وتشرف على الإرشاد الريفي وتنمية مهارات ريادة الأعمال على غرار وصفات البنك وصندوق النقد الدوليين. تستوعب مليشيا الدعم السريع كصاحب عمل قوى العمل غير الماهرة على أساس دائم وموسمي وتوفر كذلك منفذًا لتصدير العمالة في هيئة مقاتلين إلى ملوك وأمراء شبه الجزيرة العربية. أصبح بذلك القتال في اليمن وسيلة اليافعين من قرى كردفان ودارفور ومن مخزن العمالة غير الرسمية في حضر الخرطوم لتوفير المال وترحيل أمهاتهم من القرى إلى الأحياء الطرفية حول الخرطوم وربما شراء حافلة لنقل الركاب أو بناء منزل […] سبقت المليشيات الريفية البشير، وكانت وقتها عناصر مساعدة للجيش السوداني قليل التمويل أو قوات هجومية صاعقة في حروب قذرة. أوكل البشير مهام الدولة لهذه المليشيات. أصبحت صيغة المليشيا التي يمكن للبشير زعم براءة اختراعها، تكنولوجيا رئيسة للحكم الريفي واستخلاص الموارد في حزام من الفوضى النيوليبرالية يمتد من أفغانستان حتى الكونغو. نعتمد جميعنا على هذه المليشيات، فهي تمدنا بمعدن الكولتان للهواتف، البترول للنقل، المخدرات للحفلات، والألماس لتلك اللحظات السعيدة الخاصة. تسنم البشير السلطة في 1989 في غمار أزمة اقتصادية تعذر على السودان بسببها تمويل وارداته. تبنى البشير باكرًا تكنولوجيا الحكم النيوليبرالية: التقشف الاقتصادي وخصخصة الموارد العامة. قمع البشير المقاومة في الحضر عن طريق أجهزة الأمن وأنشأ المليشيات في الريف عبر عسكرة القيادات الأهلية للمجموعات الإثنية".

فضلًا عن ذلك، يمكننا تذكر مشهد الدخول المتكرر لقوى سياسية مسلحة إلى الخرطوم، منذ دخول قوات الجبهة الوطنية في تموز/يوليو 1976 بقيادة محمد نور سعد أو ما عرف بالمرتزقة، والتي شاركت فيها قوى واسعة من الطيف السياسي (حزب الأمة، والحزب الاتحادي، والإخوان المسلمون) وحتى دخول حركة العدل والمساواة في أيار/مايو 2008 تحت ما أسموه "عملية الذراع الطويلة" بقيادة خليل إبراهيم، والتي لم نشهد في أيٍ منهما أيّ تعدٍ سافر بالقدر الذي استهدفت به مليشيات الدعم السريع المواطنين في حريتهم، وفي أبدانهم، وفي ممتلكاتهم، وفي أعراضهم، وفي أرواحهم، ومن فوق ذلك لم يتوقف قادتهم بعد عن خطابهم التبريري الذي ينسب كل تلك البشاعات إلى جماعات متفلتة أو أخرى ترتدي زي المليشيات، وهو خطاب تربت عليه في عهود نظام الكلبتوقراطية الإسلامي، ومقتلة هبة أيلول/سبتمبر 2013 التي وقعت في قلب الخرطوم وراح ضحيتها ما لا يقل عن (180) شهيد على أيادي المليشيا نفسها في ظرف أيام، وما أعقبها من خطاب تبريري منحط – ليست بعيدة عن الذاكرة.

وبالمناسبة، "حميدتي" نفسه كرر في أكثر من مناسبة أن الحفاظ على الجيش هو من الحفاظ على الدولة، بل ذهب أبعد من ذلك بقوله إن الجيش "تاج راس" المواطن. هذا طبعًا على أيام ما كان "الجنجويد" ابن حلال من "رحم الجيش" واستهداف الجنجويد من استهداف كيان الدولة.. "رحم الجيش" العاهر الذي ما زال بعض أبناء سفاحه من مليشيات الإسلاميين تقاتل إلى جانبه (وفوق ذلك ذاع مؤخرًا عزم مليشيات أخرى على القتال إلى جانبه، مثل: حركة تحرير السودان – قيادة مصطفى تمبور، وجيش تحرير السودان الانتقالي – الإصلاح بقيادة الصادق خميس إبراهيم)، وهذا طبعًا عهر من الدرجة السفلى. لكن، وللمفارقة، "حميدتي" حتى وهو يقاتل الجيش الذي خرج من رحمه، وفي آخر خطاباته، ظل يعترف بالدولة، بل وينسب مشروعية قتاله إليها كونها "دولة" تمارس العنف وبالأخص في الأطراف. أي أطراف؟ هل هي الأطراف نفسها التي اكتوت مرارًا بنير مليشيا "حميدتي"؟ وقد يغرينا هذا بالاستفهام: إن كان ما يزال "حميدتي" يعترف بالدولة – وكرر في أكثر من مناسبة أنه لا يريد هدم الجيش، وأن مشكلته مع قادته والفلول فيه، وهو ما يصادف على أية حال أنه مشكلة أغلب السودانيين الذين خرجوا ضمن ما خرجوا في ثورتهم ضدها – فهل ما يزال هناك من أحد يعترف بمشروعية "حميدتي" –مشروعية لا تخرج من فوهة البندقية– بوصفه قائدًا لقوة تعد جزءًا من الدولة؟

وأيًا تكن علل القوات المسلحة السودانية، وهي كثيرة، بلا حصر ولا عد، لكن تظل "الدعم السريع" أكبر عللها، بل أكبر تجليات علل الدولة السودانية نفسها (هذا في حال أوقفنا هذا التاريخ الدامي والظلامي للدولة السودانية، وإلا فلنبشر بطولة سلامة يا مربع). قوة مسلحة خرجت للارتزاق والقلع في أقاليم وجغرافيا العنف التي غابت الدولة عن حمايتها ورعايتها (وهو المنشأ الاجتماعي للمليشيا)، ومن ثم وطنت لنفسها وربت وتوسعت –ليس في غياب الدولة، بل برعاية بالغة منها– من باب قمع مطالب الناس وإسكات أصوات مظلومياتهم ومحاربة قواهم –على علاتها– المناهضة لكل هذا. وهي في الأصل، نشأت بوصفها قوة تستخدم العنف العاري، بلا خطاب لشرعنته. ولذلك فحتى مقارنتها بالمليشيات – الأيديولوجية التابعة للدولة أو تلك المناهضة لعسفها، اليوم أو في أي وقت – تحتاج إلى "محامي شيطان نجيض وجلده تخين وعينه حارة". ولذلك، يبقى الموقف السليم الآن من هذه المليشيا هو الوقوف ضدها وضد بنيتها، ومحاولة إحباط كل مساعيها لسحق معالم دولتنا المتهالكة – أو إن شئت التخفيف من هول فاجعتنا التي تتخلق من فوق هذه الحرب: منع محاولة اختطافها الدولة لصالح أسرة. وإن كان الأخير هو السيناريو الأرجح في حال انتصار المليشيا، وأنا لا أرجحه بسبب طبيعة البنية الأسرية –أو الوشائجية، إن أردت التخفيف– التي تحكم هذه المليشيا وممارساتها، فليفرح السودانيون، فهذا "قدر أخف من قدر" بعبارتهم الشعبية.