قد يعود الجيش لاستعادة العيلفون من قوات الدعم السريع التي سيطرت عليها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الجاري، لكن هذه المهمة في ذات الوقت تبدو صعبة للغاية نظرًا لطبيعة المعارك العسكرية التي تدور في العاصمة الخرطوم مركز القتال بين الطرفين المتحاربين منذ ستة أشهر.
لولا الخبرات التراكمية للجيش السوداني لما تمكن من الصمود في أكثر من (15) بؤرة ساخنة على مستوى السودان
تبدو المهمة صعبة لأن الجيش السوداني يقاتل في عدة جبهات، وكأن الأقدار تسوق السودانيين نحو حرب بلا هوادة. ويمكن إحصاء نحو (15) بؤرة ساخنة تشهد اشتباكات بين الجيش مع عدة أطراف مسلحة أبرزها الدعم السريع في ثماني ولايات، وحركة جيش الحلو في جنوب كردفان، في ظل تهدئة مؤقتة مع قوات عبدالواحد نور في أعلى جبل مرة في إقليم دارفور.
لولا الخبرات القتالية التراكمية للجيش لما تمكن من إدارة المعارك في شتى نواحي البلاد منذ ستة أشهر، في ذات الوقت لم يحصل على مساعدات دولية تذكر سواء في مستوى التسليح أو التدريبات المشتركة في الأشهر التي سبقت الحرب، سوى تدريبات لا تتعدى أصابع اليد الواحدة مع الجيش المصري شمال السودان.
ربما يمكن النظر إلى سقوط العيلفون تحت سيطرة الدعم السريع من ناحية أخرى، فالإنهاك الذي طال الجيش ظاهر للعيان منذ (10) سنوات، حيث شهدت القوات المسلحة تراجعًا في مستوى التدريبات، وانحسر فتح معسكرات التجنيد للقوات البرية خلال النظام البائد في عهد البشير، وكأن الجيش ترك وحيدًا بلا دعم يذكر، حتى بعد سقوط النظام في 11 نيسان/أبريل 2019 بدأ الجيش بالتقاط أنفاسه رويدًا رويدًا لم تكن ثقافة "المباغتة السريعة للحرب" منتشرة لدى جنود الجيش، ذلك لأن الجيش في طبيعته جهاز بيروقراطي يتلقى الأوامر بشكل متسلسل. وكما أن القوات المسلحة ألحقت الضرر بنفسها عندما توغلت إلى الحياة السياسية تاركة المهام القتالية والاستعدادات والتحوط للطوارئ دون خطط تذكر سوى في الأشهر الأخيرة التي سبقت الحرب، حيث نقلت قطع حربية إلى العاصمة الخرطوم.
وعلى الرغم من ولاء الجنود للجيش كونهم ظلوا منخرطين في حياة الجندية لسنوات دون مقابل مالي جيد، لم يتمكن كبار الضباط من تحويل هذه المميزات إلى "قيمة مضافة"، وظل الجندي يعيش حياة اقتصادية صعبة حيث يحصل على راتب لا يتعدى (200) دولار شهريًا، في حين أن الجيوش في العالم تجاوزت هذه المرحلة بتأهيل الجنود بشكل أكثر احترافية، ولا يكترثون للأجور لأنها مسألة ثانوية بالنسبة لهم.
قد تضع حرب منتصف نيسان/أبريل السودانيين أمام السؤال الجوهري: أما حان الوقت لتكوين جيش احترافي يمثل جميع المواطنين والمجتمعات السودانية عوضًا عن الثقل السكاني؟ وهو مقترح وضعه الجنرال محمد حمدان دقلو في رؤيته السياسية التي عرضها الشهر الماضي.
ذلك أن قدرات الجيش لا تقاس بالأعداد وإنما بمستوى التسليح والقدرة على القتال في كافة الظروف التي تواجهها عند الطوارئ. ومع ذلك فإن بناء الجيش المحترف والقومي أيضًا مهمة صعبة للغاية، كونه أصبح رافعة للوصول إلى السلطة. وفي الغالب فإن أطماع الجنرالات الذين يحققون أحلام الوصول إلى السلطة تكون على حساب بناء الجيوش عبر استخدامها كرافعة سياسية في المقام الأول.
منذ 2013 أوقف الجيش عمليات المداورة للجنود والضباط على مستوى ولايات السودان، وهذه من الإجراءات التي كانت ترسخ المهام العسكرية لدى الجنود والضباط وتخلق علاقة بين المجتمعات والجيش. كما أن الجنرالات يجب أن يفهموا جيدًا أنه لم يعد ممكنًا إدارة التنوع في السودان عبر المؤسسة العسكرية التي لديها علاقة بالسلطة السياسية، فالحروب التي اندلعت في السودان منذ الاستقلال وحتى اليوم كانت خيارات العسكريين أنفسهم، بجانب ضعف السياسيين تجاه بناء مشروع وطني شامل وعميق.
وعلى الرغم من النكبات التي لاحقت الجيش منذ سنوات طويلة، فإنه ما يزال العنصر المطلوب لبناء أي جيش موحد، شريطة إبعاد التيارات السياسية عنه. ولم ينس السودانيون يوم أن توجهوا إلى مباني القيادة العامة في السادس من نيسان/أبريل 2019 والأيام التي تلته؛ كيف أن صغار الضباط في الجيش أفسحوا الطرقات للجماهير، وعملوا على حمايتها من كتائب الأمن التي لم ترحم يومذاك.
إن دعوات إيقاف الحرب لا تنفصل عن رغبة مكبوتة لدى السودانيين في الحفاظ على الجيش من الاضمحلال، لأن تطاول أمد الصراع المسلح قد يؤدي إلى ذوبان الجيش نفسه نتيجة الإضعاف المستمر لكيان يحتاج إلى الكثير للانخراط في الحرب التي يدخلها الدعم السريع بإمكانيات بشرية هائلة لأسباب متعددة، أهمها أن الجنرال دقلو ليس لديه ما يخسره بعد أن "تبللت ملابسه بمياه البحر"، فالرجل لن يتمكن من إقامة سلطة في مناطق سيطرته ولديه القدرة على تجهيز مقاتلين يجوبون جميع أصقاع الحرب، ففي بعض الأحيان قد تنال من طاولة المفاوضات ما لن تناله من المعارك الطاحنة، وذلك بطرح رؤية واحدة يتفق عليها غالبية السودانيين بأن الجيش الموحد غاية أساسية للجميع.
لا مناص من أن يبدأ الجيش إصلاحًا داخليًا بنفسه، مبتدرًا ذلك بمحاكمة الرئيس المخلوع عمر البشير بتهمة إضعاف الجيش وخلق قوات موازية هددت الأمن القومي
أثناء القتال الضاري في مدينة أمدرمان الشهر الماضي وتحديدًا في أحياء وسط المدينة، قال شهود عيان إن كتيبة من الجيش كانت تحسم المعارك ضد قوات الدعم السريع في ساعات محدودة لتوفر عنصر الخبرة والقدرة على التكتيكات الحربية بعض الجنود تخطت أعمارهم الأربعين، ومع ذلك كانوا يستميتون في المعارك في تلك المواقع، لذلك لا مناص من أن يبدأ الجيش إصلاحًا داخليًا بنفسه، مبتدرًا ذلك بمحاكمة الرئيس المخلوع عمر البشير بتهمة إضعاف الجيش وخلق قوات موازية هددت الأمن القومي.