في الأسافير التي تدور فيها حرب من نوع آخر، تداول سودانيون مقطع فيديو لجنود من قوات الدعم السريع وهم يركضون في ملعب صغير لكرة القدم "الخماسيات"، وهي ملاعب جاهزة تقع في بعض الأحياء الخرطوم.
مقطع الفيديو يبرز كيف أن الاقتصاد النيوليبرالي يصور للشعوب أن السلع المعدة سلفًا أفضل من الاقتصاد التشاركي
يقع الملعب، حسب إفادات أحد سكان الحي في مدينة أم درمان، جزئيًا تحت سيطرة هذه القوات، وحسب المقطع المتداول، فإن عناصر الدعم السريع يحاولون صنع حياتهم أثناء حرب تدور رحاها فوق رؤوس الجميع في العاصمة وبعض الولايات.
يبدو مقطع الفيديو وكأنه أظهر أزمة كامنة بين السودانيين في حربهم الضروس، التي لا ينقشع حيالها أفق السلم. فالملعب الذي أنشأ في العاصمة الخرطوم جاء نتيجة تدافع اجتماعي لطبقة الموظفين وأبناء العاملين بالخارج، تلك المجتمعات الآخذة في الاتساع بسبب دواعي العمل في الخليج، وهي "فئات اجتماعية مدينية" تبحث عن الترفيه خلال العطلات وتحولات اجتماعية بفعل الأوضاع الاقتصادية في هذا البلد.
في السنوات الأخيرة، تأزم الاقتصاد في السودان، وصعدت تطلعات المجتمعات. من بين تلك المحاولات تحويل المدن إلى مصاف تلك البلدان التي يمكن العيش فيها بطريقة أشبه بالدول التي تطبق النموذج الليبرالي في الاقتصاد. نظام اجتماعي يستمد قوته من الاقتصاد النيوليبرالي: أن يخرج الشاب والشابات إلى العمل، ثم في الطريق يدلف إلى مركز لممارسة الرياضة الصباحية، ثم تنطلق إلى شرب القهوة والعودة في المساء، خاصة في عطلات نهاية الأسبوع، للعب كرة القدم مع الأصدقاء. هذا النمط اليومي سار عليه مئات الآلاف من الشبان وحتى الفتيات في العاصمة الخرطوم، وهي المتهمة بالتغول على موارد البلاد في نظر المقاتلين على مختلف التواقيت منذ سنوات.
على الرغم من الاتهامات التي تلاحق "الخرطوميين" أنهم يستأثرون بموارد الأقاليم وأن هذه الحرب تهدف إلى تقييم هذه الموارد للمصلحة العامة بشكل جذري، إلا أن في الخرطوم قد نجد أن من يقطن في منتصف المدينة يعاني من الظلم والتهميش. بالتالي، المركز ليس جغرافيا بقدر ما أنه شبكة مصالح من النخب السياسية والعسكرية والاجتماعية ورجال الأعمال وملاك الأعمال العملاقة.
إذا عدنا إلى مقطع فيديو جنود الدعم السريع وهم يركضون في ملعب "الخماسيات" وسط أم درمان، فإنها تبرز تناقضات الدولة التي في طريقها إلى التحطم على الأقل في مركز الثقل السياسي وبين متخذي القرار بشأن مصير السودانيين منذ حقبة الاستقلال.
تنحدر النواة التي تشكل قوات الدعم السريع من مجتمعات عانت من الإهمال والفقر وغياب التعليم. بالتالي، العزلة عن المناطق الحضرية التي شيدت فيها ملاعب حديثة في كرة القدم. أي أن هذه المجتمعات، منذ سنوات قليلة، في حالة تسليح للدفاع عن الأنظمة السياسية، على غرار ما فعله قائد الدعم السريع مع الرئيس المعزول عمر البشير حتى العام 2019. على الرغم من عدم استمرار حالة التحالف بينهما نتيجة تفاعلات داخلية وإقليمية رأت في الجنرال القادم بتطلعات الوصول إلى عتبة القصر الرئاسي سانحة للتمدد في هذا البلد، الذي يذخر بالموارد والموانئ والذهب.
لم يكن بالنسبة لهذه الدول صعود الجنرال حميدتي نائبًا لرئيس مجلس السيادة الانتقالي في القصر الجمهوري كافيًا، ربما خاصة مع تهديد محتمل بصعود القوى الديمقراطية الليبرالية التي أيضًا لديها تحالفات دولية ونشوء ديمقراطية في السودان، وهو أمر مزعج للعديد من البلدان بما في ذلك جميع دول الجوار.
المقطع المتداول لهؤلاء الشبان وهم يركضون وراء الكرة بارتداء الجلباب والزي العسكري المعروف لقوات الدعم السريع وأحدهم يضع "الكدمول" غطاء الرأس المعروف لدى قبائل الصحراء في المغرب، ربما حصلوا على تعليم متواضع، وبعضهم لم يذهب إلى المدرسة مطلقًا
المقطع المتداول لهؤلاء الشبان وهم يركضون وراء الكرة بارتداء الجلباب والزي العسكري المعروف لقوات الدعم السريع وأحدهم يضع "الكدمول" غطاء الرأس المعروف لدى قبائل الصحراء في المغرب، ربما حصلوا على تعليم متواضع، وبعضهم لم يذهب إلى المدرسة مطلقًا. الركض يظهر "مقاومة ملحة" لحياتهم العنيفة التي انحصرت بالعمل في سلك الجندية، مقاتلون أشداء ابتعثوا إلى دول الإقليم مثل اليمن وليبيا ثم إلى حرب السودان، بمعنى أن المشروع الوطني الذي يحرر الشبان من حياة الجندية هو أمر مقدم على عملية الدمج والتسريح المطروحة على طاولات التفاوض.
السخرية من مقطع الفيديو، كما أظهرها البعض، ليست حلًا. فالنشاط الرياضي حق مكفول للجميع، والمقطع يظهر رغبة الجنود في حياة عادية. فهل يمكن مساعدتهم على ذلك كأولى الخطوات نحو السلم بين السودانيين.