السودان بلد شاسع مترامي الأطراف متعدد الثقافات والأعراق، وينعكس ذلك على كل شيء في حياة السودانيين، فتجد التنوع الكبير في لغاتهم وسحناتهم وعاداتهم وتقاليدهم، وحتى الملابس وتصفيفات الشعر؛ ولكن تجمع السودانيين عادات شهر رمضان المعظم، وعلى رأسها كيفية استقبال الشهر الكريم.
يأتي رمضان هذا العام في ظل حرب ضروس قضت على الأخضر واليابس في البلاد، ودفعت الملايين إلى مغادرة منازلهم فرارًا من الاشتباكات المسلحة التي تجري وسط الأحياء السكنية
يأتي رمضان هذا العام في ظل حرب ضروس قضت على الأخضر واليابس في البلاد، ودفعت الملايين إلى مغادرة منازلهم فرارًا من الاشتباكات المسلحة التي تجري وسط الأحياء السكنية. ترك هؤلاء النازحين جل ممتلكاتهم وبيوتهم خلفهم، وبعضهم لم يأخذ معه سوى ملابسه التي على ظهره.
وعلى الرغم من الحرب وحظر التجوال المفروض على المدن الآمنة، والانفلات الأمني في مدن أخرى، لم تتوارى عادات استقبال شهر رمضان في السودان، فكيف يستقبل الناس شهر رمضان في السودان؟
عواسة الآبري السوداني
لا يمكن الحديث عن استقبال شهر رمضان في السودان دون إيراد سيرة "الآبري" الذي يصنع منه مشروب "الحلو مر" السوداني الشهير، حيث لا يمكن أن تخلو سفرة رمضان في أي بيت من بيوت السودان من هذا المشروب الذي ارتبط ارتباطًا وثيقًا برمضان، فصارت رائحة تحضير الآبري في الأحياء أولى الدلالات على اقتراب شهر الصيام، وعواسة الآبري أول استقبال لرمضان في السودان.
ولصناعة الآبري تقوم ربات البيوت بتحضير "الزريعة"، وهي من الذرة التي تترك لتنمو قليلًا في جوالات من "الخيش". بعد نمو الذرة قليلًا تطحن وتخلط بالبهارات والعديد من المكونات لتحضير عجين الآبري الجاهز للعواسة.
ولعواسة الآبري السوداني تتجمع النساء ضمن شكل من أشكال النفير الشعبي لتحضير الآبري كل مرة في بيت من البيوت. ويحضر الآبري عبر فرد العجين على صاج ساخن، ومن ثم وضعه في شكل قطع مطبقة تعرف باسم "الطرقات"، والتي تنقع قطعة منها أو أكثر في كل يوم من رمضان، لتقديم المشروب الناتج في الإفطار، بعد تصفيته وتحليته وتبريده.
هذا العام أتت فترة عواسة الآبري في ظل ظروف استثنائية، حيث تعيش ملايين الأسر في معسكرات النزوح واللجوء، في ظل أوضاع إنسانية بالغة التعقيد. ولكن الترابط والتكافل بين السودانيين خفف على العديدين من الإحباط والحزن لاستقبال رمضان دون آبري. وفي حديث مع "الترا سودان"، تقول ربة المنزل التي تقيم في مدينة كسلا شرقي البلاد، بخيتة محمود: "جهزنا طرقات الآبري لاستقبال شهر رمضان، والأسر تتكافل بشكل فردي وجماعي لمشاركة المواد التمموينية مع النازحين في مراكز الإيواء والمستضافين في البيوت في الحي".
وأقامت غرفة طوارئ شباب كسلا مشروعًا لدعم إفطارات شهر رمضان في مراكز إيواء النازحين، مع وجود أكثر من (170) مركز إيواء للنازحين في الولاية.
شراء عدة رمضان
يعد شراء "عدة رمضان" الحدث الأهم بالنسبة لربات البيوت في استقبال شهر رمضان، حيث تتنافس نسوة الحي في الحصول على أفضل الأواني وأكثرها رقيًا لتقديم الإفطار فيها، لا سيما إفطارات الشوارع التي تحاول فيها ربة المنزل إظهار جمال أوانيها وفنونها في الطبخ، حيث تقدم العصيدة والعصائر وما لذ وطاب من مأكولات رمضان في السودان على هذه الأطباق الجديدة الراقية، والتي تتغير موضتها كل فترة والثانية.
كذلك من عدة رمضان التي تشترى قبل دخول الشهر الفرشات والأباريق وأضواء الإنارة، وينشط الشباب في شراء ورق اللعب والضمنة للسهر حول هذه الألعاب في انتظار العشاء والسحور.
تزيين البيوت ونظافة الطرقات
يفطر السودانيون في شهر رمضان في الشوارع لإكرام المارة من الصائمين، ولذلك يسبق الشهر الكريم تجهيز هذه الشوارع لاستقبال "فرشة الفطور" الرمضانية التي يتحلق حولها الصائمون في انتظار سماع صوت أذان المغرب للإفطار.
ويقوم الشباب عادة بكنس وتنظيف البقعة التي سيتم وضع فرشات الفطور فيها، وحتى ردمها بالرمال الناعمة ورشها بالماء لتكون مستوية وصلبة، وكذلك تتحمل الرش بالمياه وقت الإفطار لتبريد المكان عند انتظار الفطور في الأجواء السودانية الساخنة.
وكذلك تقوم النسوة في السنوات الأخيرة بتركيب الزينة في البيوت لاستقبال شهر رمضان، وتتكون هذه الزينة من المصابيح الصغيرة المتلألئة، وكذلك فوانيس رمضان، فضلًا عن عمليات تجديد للطلاء وتجهيز الحيشان بحيث تكون في أحسن حالاتها عند مقدم شهر رمضان.
مع هذه المشترياتن أيضًا تنشط الأسر في شراء الكركدي والقنلقيز والعرديب وغيرها من المكونات المحلية التي تصنع منها مشروبات رمضان الشعبية في السودان، حيث تأخذ هذه المشروبات مساحة خاصة في سفرة رمضان في السودان.
أهازيج الأطفال
ومن أشهر العادات السودانية في استقبال رمضان، هي عادة تجول الفتية والأطفال في الأحياء وهم يضربون على الدفوف وأواني المطبخ المعدنية للتبشير بمقدم الشهر الفضيل. عادة ما يبدأ هذا الطقس في الليالي الثلاث السابقة للأول من رمضان، حيث يتجول الأطفال بعد غروب الشمس في شوارع الأحياء وهم يتغنون بأهازيج تعبر عن السعادة بمقدم الشهر الفضيل.
في هذه الجولات الطربة، يتغنى الأطفال بالعديد من الأناشيد الطفولية الحلوة، والتي تختلف اختلافات طفيفة في أنحاء البلاد.
أشهر هذه الأهازيج التي يستقبل بها الأطفال شهر رمضان في السودان:
رمضان جانا
الله أدانا
كرشة ملانة
آبري!
الشاب محمد عزالدين الذي يبلغ من العمر (33) عامًا، نزح وأسرته من الخرطوم إلى ولاية كسلا بعد استعار المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في العاصمة. يقول محمد لـ"الترا سودان": "في كل رمضان أنتظر هذه الأهازيج، وكنت أشارك فيها طوال فترة طفولتي، ولكن هذا العام لا أعلم ما إذا كان الأطفال سيتغنون بمقدم رمضان، لا سيما في ظل حظر التجوال المسائي المفروض من قبل السلطات في ولاية كسلا".
وتشبه هذه الفعالية طقس المسحراتية في ليالي رمضان في السودان، وغالبًا ما يكون نفس الناس المشاركين في هذه الأهازيج الاستقبالية لرمضان، هم من يقومون بأداء دور المسحراتية في ليالي الصوم. وتتميز طقوس المسحراتية في السودان بأنها تأخذ طابعًا جماعيًا مثلها في ذلك مثل أهازيج الفتية والأطفال في استقبال رمضان، حيث تتكون فرقة المسحراتية من مجموعة شبان يطرقون على الدفوف والآلات في الثلث الأخير من الليل في رمضان، وذلك لإيقاظ الناس لتناول وجبة "السحور"، والاستعداد للصوم.
صلاة التراويح الأولى
تكون صلاة التراويح الأولى هي الإعلان النهائي عن مقدم شهر رمضان، حيث لا يتأكد السودانيون من دخول الشهر إلا بإقامة هذه الصلاة في المساجد، والتي يؤمها الجميع بما في ذلك النساء والأطفال.
يذهب الجميع إلى صلاة التراويح بفرشاتهم للصلاة عليها، حيث تمتلئ المساجد بالمصلين، لا سيما في الليلة الأولى من شهر رمضان، والتي يحرص الجميع على حضور الصلاة جماعة مع بقية الصائمين في الحي، فتكون هذه الصلاة نفسها فعالية كبرى يستقبل بها الناس شهر رمضان في السودان.
رمضان والحرب في السودان
هذا العام تغيرت العديد من العادات والتقاليد الثابتة في السودان، وذلك بسبب الحرب المستعرة في البلاد منذ منتصف نيسان/أبريل 2023 في العديد من ولايات وسط وجنوب وغرب البلاد. النزوح واللجوء وفقدان الوظائف والأعمال أفقدت الكثير من السودانيين القدرة على التجهيز والاستعداد لشهر رمضان، حيث غادر أكثر من (10) ملايين نسمة منازلهم منذ بدء الحرب أواخر رمضان الماضي، ويعيش معظم هؤلاء في ظل أوضاع إنسانية كارثية، ولكن كعادة السودانيين في التكافل والتعاضد، تنشط المبادرات الإنسانية والمجموعات الشبابية لتوفير حاجيات رمضان للصائمين، كما تقوم النسوة في الأحياء بتقديم الدعم لجيرانهم من النازحين الذين استقروا في الأحياء، الأمر الذي لا بد أن يخفف ولو القليل على المنكوبين في سودان الحرب.