أنتجت الحرب الراهنة وعيًا مضادًا لمنطق الأحداث واتجاهات التحليل والتأويل، والمقاربة والاستعاضة عن حقيقة ما يجري بالسرديات المظنونة التي تأخذ المرء عن فحوى الخبر بتمويهات ما ينسج حوله من رؤى وروايات. وكأول حدث من نوعه، غدا اكتناه دواعي نشوب الحرب أعقد من ملاحقة تداعياتها؛ إذ يراد لنا أن نفهمها باعتبارها معركة على رهانات الحلفاء بالوكالة لا تناقضات القوى المصطرعة فيها بالأصالة. لينشغل الناس بسؤال "من أطلق الرصاصة الأولى؟" عن السياق الذي أحال وميضها إلى ضرام ملتهب.
وكما سعت الرواية -الشائعة والمخدومة في آن- أن تصورها كحرب بين فلول النظام السابق ودعاة الديمقراطية، نشأت سردية مضادة ترى فيها محض انقلاب تخلّق من أجل إقرار المشروع الإطاري مسنودًا بمعركة خاطفة لإعادة هندسة قوى عنف الدولة والقضاء على نواة الإسلاميين الصلبة المتجذرة في غور المؤسسة العسكرية.
مثل ما أظهرت مفاعيل الحرب تناقضًا داخل معسكر الجيش بين قيادته وحلفائه السياسيين، برزت آراء ناقدة من تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية المعروفة اختصارًا بـ"تقدم"، حيال تفاقم الانتهاكات المُمارسة من الدعم السريع والمرصودة والموثقة من جهات دولية نافذة
وبمثل ما أظهرت مفاعيل الحرب تناقضًا داخل معسكر الجيش بين قيادته وحلفائه السياسيين، برزت آراء ناقدة من تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية المعروفة اختصارًا بـ"تقدم"، حيال تفاقم الانتهاكات المُمارسة من الدعم السريع والمرصودة والموثقة من جهات دولية نافذة، وبنحو خاص ما جرى في أعقاب اجتياح قرى وحواضر الجزيرة، وطالت المدنيين بصورة قصدية لدرجة جعلت ياسر عرمان عضو الهيئة القيادية في تنسيقية "تقدم"، يصرح بأن من يقوم بأعمال النهب والسلب والقتل هم عناصر الدعم السريع، داعيًا القيادة العليا والميدانية إلى ضرورة التدخل بنحو عاجل لإيقاف ما يمارسه جنودها بحق المواطنين العزل ومحاسبة المتورطين.وهو أمر قابله مستشارو الدعم السريع بردود فعل حادة وفق ما ورد في مقال سطّره يوسف عزت المستشار السياسي للدعم السريع، والذي اعتبر أن الطريق الوحيد لإيقاف جميع الانتهاكات هو إنهاء الحرب لصالح جميع السودانيين. وأكد عزت أن الرسالة التي دونها ياسر عرمان تحت عنوان: "أوقفوا القتل"، لم تكن موفقة، وأتت متحاملة، لجهة أن قائد الدعم السريع ظل في كل توجيهاته لعناصره يحذّر من التعدي على حق المواطنين. مذكّرًا عرمان بتاريخه المناهض لظلم المركز خلال مسيرته مع الحركة الشعبية التي انتهى مشروعها "الظافر" باستقلال الجنوب. معرّضًا بأن لعرمان صلة مفتوحة مع قائد الدعم السريع والقادة الميدانيين وكان يمكن أن يبعث ملاحظاته مباشرة لهم. و معتبرًا أن انقطاع شبكات الاتصالات والإنترنت بفعل ما أسماهم "الفلول"، أثّر بنحو ما على اتساع رقعة الانتهاكات المرتبطة بالحروب في أي زمان ومكان.
وفي سياق متصل، هاجم مصطفى محمد إبراهيم القيادي بالدعم السريع، ياسر عرمان متهمًا إياه بقتل الطالب الأقرع بجامعة النيلين، والمنتمي للتيار الإسلامي، وذلك في خواتيم عقد الثمانينات، و"هروبه" من استحقاقات القصاص على حد قوله.
وذكر الربيع عبد المنعم، المقرّب من الدعم السريع، أن موقف القيادي بتنسيقية "تقدم" الناقد للدعم السريع، "غير أخلاقي"، كونه يتجاهل أن السبب الرئيسي في الأزمة الراهنة هم القوى المدنية نفسها ومشروعها الإطاري.
اتهام باطل.. ومشروعية زائفة
ويرى الكاتب والمحلل السياسي طه النعمان، أن ما أدلى به ياسر عرمان وخالد عمر يوسف انتقادًا للدعم السريع لا يمكن أن يقرأ كتناقض لموقف سابق كانوا منحازين فيه إلى جانب حميدتي وموافقين فيه على الجرائم المرتكبة من قبل قواته. بيد أنها مثلت -بحسب النعمان- في أدنى مراتبها ردًا على ما أسماه حملات الاتهامات المتلاحقة من قبل الفريق المنحاز للبرهان ولمشروع الإخوان والنظام المخلوع. وهي تصريحات مؤسسة على الموقف الأخلاقي الذي تبنته "القوى المدنية والمهنية المنحازة لمشروع الثورة"، والتي ظلت -وفق اعتقاد طه- تدين الانتهاكات المرتكبة من قبل الطرفين اتساقًا مع شعار لا للحرب الرافض من حيث المبدأ لمسار العنف بوصفه خيارًا مدمرًا لقوام الدولة ولمجرى التدافع السلمي المدني في طور الانتقال.
وأوضح الكاتب والمحلل السياسي طه النعمان، أن مجرد ظهور التيار المدني الثوري في موقع الانحياز لأي من الفريقين يحبط أي جهد لوقف الحرب. وهو ما يحاول -بحسب تحليل النعمان- دعاة استمرار الحرب بأي ثمن أن يصوروا به القوى المدنية الرافضة للحرب باعتبارهم منحازين للدعم السريع، مع تصدير صورة زائفة لأنفسهم بأنهم يدعمون الجيش انطلاقًا من دعم مشروعية الدولة، بحسبان أن مؤسسة الجيش هي الممثلة للعنف الشرعي في سياق الدولة الحديثة بصورة حصرية وبحكم التعريف.
وشكك النعمان في "مشروعية سلطة الأمر الواقع" المنقوصة منذ انقلابها على الحكومة المدنية الممثلة للثورة. مؤكدًا أن دفاع الكيانات السياسية والقوى الحزبية المتحلقة حول الجيش يخفي رهانات خطيرة من شأنها أن تؤدي إلى عسكرة المجال السياسي وعودة مشروع الإخوان الذي استأنف حضوره بانقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021.
تفاعلات القوى الإقليمية والدولية والضغوط الداخلية
وفي المقابل يرى محمد الواثق أبوزيد، المختص في تحليل السياسات وبنية المؤسسات، أن تسارع وتيرة التراشق بين تقدّم والدعم السريع سببه الرئيس تناقض الارتباطات الخارجية على المستوى الدولي والذي تمثل رهاناته ومصالحه داخليًا تنسيقية "تقدم" والعلاقات الإقليمية التي تتوسل بندقية الدعم السريع. وهو تناقض أوضحته محادثة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مع وزيري خارجية المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، ومناشدته لهما بضرورة إيقاف الحرب بسبب الانتهاكات المريعة التي تجاوزت حال كونها أثرًا جانبيًا للمعارك إلى طبيعة ملازمة لـ"عربان الشتات" في ظل عدم التزام الدعم السريع بقواعد الاشتباك والحفاظ على حق المدنيين في الحياة والحماية، وضمان تدفق مسارات الغوث الإنساني للمناطق المتضررة.
ورجّح المختص في تحليل السياسات وبنية المؤسسات الواثق أبوزيد، اتساع رقعة الخلاف بين الفاعل الإقليمي والفاعل الدولي بخصوص الجرائم المصاحبة للحرب وانعكاسه على مستقبل الاتفاق المبرم في أديس أبابا بين تنسيقية تقدم والدعم السريع. مؤكدًا أن ثمة ضغوط هائلة تشكلت من مادة الانتهاكات الممارسة في ربوع الجزيرة داخل الكيانات التنظيمية المُمثلة في تنسيقية "تقدم"، وبشكل أكثر تحديدًا من عضوية أحزاب الأمة والمؤتمر السوداني والتجمع الاتحادي. وأن التقاء مضاغطات الخارج بمستوييه الإقليمي والدولي، مع رفض القاعدة الجماهيرية للأحزاب، أسفر عن هذه المواقف "الخجولة" والتي من شأنها أن تتطور إلى فصال بائن بين بندقية الدعم السريع ورهان ظهيرها السياسي في خضم الفشل الأخلاقي والميداني والإداري لمشروعها الذي أخفق منذ أول وهلة في بسط هيمنته بالقوة العسكرية.
مخاض جديد لشراكة قوى الإطاري
وما بين هذا وذاك، يمضي د. محمد فقيري الفاعل السياسي وأمين الفكر السابق بالمؤتمر الشعبي، إلى قراءة أخرى، يرى بموجبها أن الشراكة بين الدعم السريع ومركزية قوى الحرية والتغيير قد تأسست في أعقاب انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 2021 على هدي التقارب الذي أملته محاولة إنفاذ الاتفاق الإطاري، حيث وجد كل طرف في الآخر ما ينقصه. إذ تلاقت طموحات حميدتي السياسية مع منظومة الحرية والتغيير على رهان تحرر الأول من قبضة المؤسسة العسكرية وتبعيته المباشرة لرئيس الوزراء المدني، وهو أمر من شأنه أن يعزز بندقيته ويكسبها معنى ومشروعية، بينما وجدت فيه القوى السياسية والمدنية الصاعدة ما بعد الثورة ذراعًا عسكريًا يحجّم خصومها من الإسلاميين الذين يمثلون -بحسب فقيري- تكنوقراط الدولة السودانية ونواتها الصلبة بسبب مكوثهم الطويل في السلطة وقدرتهم على التأثير في أبنيتها المؤسسية، مما خلق لدى القوى المدنية وهمًا بأن الجيش نفسه وقواه الأمنية مجرد تابع تنظيمي للإسلاميين، وهو وهم ناشئ وفق رأي فقيري بسبب العجز المرتبط بالتعاطي مع واقع شديد التعقيد اتسمت به الدولة السودانية بعد سقوط الإنقاذ.
ووفق تحليل فقيري، ذات الرهان الناتج من ترتيبات الاتفاق الإطاري والمضمر في عمق مشروعه، استمر مع الحرب مع تبني قوى الإطاري لرؤية الدعم السريع وروايته حول الحرب، حيث شكلت غطاءً سياسيًا للمعركة تحت دعاوى أن الطلقة الأولى جاءت من كتائب علي كرتي الأمين العام لما يعرف بالحركة الإسلامية السودانية بعد سقوط الإنقاذ.
ويعتقد أمين الفكر بالشعبي أن العلاقة بين تنسيقية تقدم والدعم السريع دخلت طورًا جديدًا مع بروز قضية الانتهاكات الموثقة من أطراف محلية ودولية، والتي من شأنها أن تقلل فرص قيادة الدعم السريع في الشأن السياسي السوداني، أو جعله عرضة للابتزاز من القوى الغربية في مقابل إضعاف الجيش واستنزافه بالحرب المشتعلة، مما يجعل الفرصة سانحة لفرض معادلة "تقدم" في السلطة بإرادة خارجية. ويذهب فقيري إلى أن الدعم السريع لم يعد مهمًا بعد أن أوصل الأمور إلى هذا المستوى، كونه استطاع تحجيم قوة الخصم السياسي لتنسيقية "تقدم".
د. محمد فقيري: العقبة الكأداء التي تعترض عودة "قوى الحرية والتغيير"، أو "تقدم" في صيغتها الجديدة، هي انتظام قوى اجتماعية مقدرة في النفرة الشعبية المقاومة للدعم السريع
ويعتقد فقيري أن العقبة الكأداء التي تعترض عودة "قوى الحرية والتغيير"، أو "تقدم" في صيغتها الجديدة، هي انتظام قوى اجتماعية مقدرة في النفرة الشعبية المقاومة للدعم السريع. ولأنها تخشى من فكرة الاستنفار والانتفاضة المسلحة بين يدي عجز الجيش عن حماية المواطنين في مناطق مختلفة، آخرها ولاية الجزيرة، سعت قيادات في "تقدم" -بحسب فقيري- إلى التنديد بالانتهاكات التي تمارسها قوات الدعم السريع بشكل ممنهج، مع معرفتها التامة بأن الانتفاضة المسلحة إذا استمر مسارها المتصاعد ستطوي القوى الموجودة حاليًا بما فيها الجيش نفسه، وهو الذي يجعل قيادة المؤسسة العسكرية تقف حائرة ومترددة حيال دعم النفرة المسلحة.
وأيًا يكن من أمر، يبدو أن الحرب الحالية تمضي عميقًا في تشكيل واقع جديد يعيد تركيب الأبنية وترتيب الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في السودان، ضمن أفق ترتسم حوافه على أسنة المعارك واحتدام المواجهات.