25-مايو-2024
المفكر الإسلامي صديق محمد عثمان

"لا أعتقد أن هناك جيش بلا إسلاميين ولا أؤمن بقومية واحترافية القوات المسلحة."

"الجيوش المهنية الحديثة هي في الواقع لا تمثل الشعوب وإنما تمثل النخب التي تنفرد بمساومات السلطة العامة."

"السلطة في الإسلام ليست مؤسسة هيمنة، وإنما لتنسيق مجهودات المجتمع."

"الفلسفة الحديثة تقوم على أهلية (الملأ) و(الطبقة) و(أهل الحل والعقد) وكلها واجهات احتكارية لا تتسق مع سعي الإنسان وحريته."

"الرؤية الإسلامية تدعو لعودة الجيش لثكناته لإعداد القوة لا ليموتوا عن النخبة المختارة."

"كانت الاستعانة بالدعم السريع في صالح الإنقاذ وفي صالح نخب التجمع التي عزلت حركات دارفور عن جميع مفاوضاتها مع السلطة حينها."

"لم يتعامل الدفاع الشعبي مع مجتمع الجنوب بعدائية مسبقة وقاطعة، واستطاع إلى حد كبير كسب القلوب والعقول."

"دخول التجمع حليفاً للإنقاذ أضاف عليها أعباء ولم يزدها لا سند سياسي ولا دعم مادي، ولا فتح لها آفاق وعلاقات بديلة لعلاقات الحركة الإسلامية."

"تنافس تيارات الإنقاذ قادها إلى تقديم مزيد من فروض الولاء والطاعة للخارج."

"صراعات نخب الإنقاذ فتحت شهية حميدتي لمزيد من التمدد والتمكين، مع إدراكه لقوة الإسلاميين حتى بعد سقوط حكومتهم."

"حديث سناء حمد صدى لصراعات الإسلاميين، وكلام أمين لسد الطريق أمام أي مشاركة محتملة للإسلاميين في سلطة الانتقال."

"تأسست نهضة السودان في صناعة النفط والبنية التحتية وثورة الاتصالات خلال عشرية الإنقاذ الأولى على مجهودات وعلاقات الإسلاميين، ومع ذلك تنكروا لها.. وهو عار ما زال يلاحق نخبنا الانتهازية."

"غزة فاجأت الجميع.. وقادة حماس أحسنوا التوقيت بعد استرخاء حقبة ما بعد الربيع وزوال الخطر الإسلامي."

"دعم الإنقاذ لغزة بالسلاح كان مجرد محاولة انتهازية لإقناع الذات بأن ذلك يكفي، سيما بعد تفكيك الحركة الإسلامية والتعاون مع الأمريكان في تجفيف موارد العمل الإسلامي بالمنطقة."

"مسار الحرب يعتمد على العامل الخارجي واستعداد الجهات الإقليمية والدولية للاستمرار في دعم الدعم السريع وقدرتها على إعادة تشكيل كيان 'تقدم' بحيث يستطيع فعلاً تشكيل الواجهة السياسية لحرب الدعم السريع على الدولة السودانية."

"تواجه الحركات المسلحة تحدي التحول من العمل العسكري إلى العمل السياسي الحقيقي، خاصة في ظل غياب أي شريك سياسي معتبر في المركز."

"معجزة المقاومة الفلسطينية الحقيقية في استطاعتها أن تحقق لنفسها الحماية من دون تفوق في التسليح."

صديق محمد عثمان، المثقف الإسلامي العضوي، انخرط باكراً في الحركة الإسلامية على مدار مؤسسات التكوين الدراسي وتخرج في جامعة الخرطوم أواخر الثمانينات ليلتحق بمكتب الدكتور الترابي ويرافقه في مرحلة من أهم المراحل، شهدت تأسيس المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي الذي مثل علامة مهمة في نزوع مشروع الإسلاميين نحو الخارج وإدارة العلاقات الدولية والإقليمية عبر مخاضات صعبة وفي أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي وبروز الأحادية القطبية لصالح أمريكا وحلفائها. شهد كثيراً من المواقف والأحداث مع قدرة عالية على الاستحضار والاستذكار والتحليل والاستشعار. تواصل معه الترا سودان في سياق حواراته حول راهن الحرب ورهاناتها ليستكمل معه الصورة فيما يدور في معسكر الإسلاميين بوصفهم فاعلاً رئيسياً في الصراع الحالي، فلم يبخل بإجابات تتراوح بين الفكري والسياسي والرؤيوي، فإلى محاور الحوار ومضابطه.


  • أليس من اللافت أن يغدو مسار اندلاع الحرب ومنشأها أمراً غامضاً بين السردية الشهيرة كونها اشتعلت بفعل "جيش كرتي" في المدينة الرياضية، أو السردية المضادة بوصفها انقلاباً مصحوباً بمعركة خاطفة قامت بها قوات الدعم السريع وعناصر من قوى الحرية والتغيير؟ كيف نفهمها بعيداً عن سردياتها؟

- لا أعتقد أن اندلاع الحرب كان غامضاً إذا أرجعناه إلى سياقه الذي كانت الأحداث تسير فيه. هذا السياق يتعلق باستعانة السلطة المركزية بالدعم السريع ابتداءً. ففي حالة الدفاع الشعبي الذي حارب الحركة الشعبية في الجنوب، كان الأمر مختلفاً تماماً من عدة وجوه:

  1. الدفاع الشعبي كانت فكرته فك احتكار الجيش لمهمة القتال، وبالتالي القضاء على التفوق النوعي الذي تمتعت به الحركة الشعبية لأنها ليست مؤسسة عسكرية معزولة عن حاضنتها الاجتماعية، بل كانت هي مؤسسة عسكرية مفتوحة تستفيد من موارد بشرية ولوجستية ومادية غير محدودة، بينما الجيش مؤسسة مغلقة محدودة بإجراءات وبروتوكولات تجعل مصادره المادية والبشرية واللوجستية بيروقراطية جداً. فلما جاء الدفاع الشعبي تفوق على الجيش والحركة الشعبية لأن المجاهدين كانوا أكثر تعليماً.
  2. الدفاع الشعبي في غالبه تأسس على عقيدة إسلامية منضبطة جداً ليس هدفها سحق الإنسان، وإنما رد العدوان والانتصار بتحرير الإنسان من ابتزاز الحركة الشعبية ورهن إرادة المستضعفين للبندقية. ولذلك لم يتعامل الدفاع الشعبي مع مجتمع الجنوب بعدائية مسبقة وقاطعة، واستطاع إلى حد كبير كسب القلوب والعقول.
  • لماذا يراد لنا أن نفهم الحرب كصراع بين القوى المتحالفة بالوكالة بين الإسلاميين من جهة وقوى الحرية والتغيير من جهة أخرى؟ أين رهانات الجيش والدعم السريع؟ ألا يمثل وجود جيشين في دولة واحدة دعوة للحرب؟ وكيف نفهم ظاهرة الدعم السريع وتحوله من قوة ساندة للجيش إلى خصم لدود؟ كيف استطاع أن يعيد إنتاج ذاته مستعيراً خطاب الهامش ومستعيناً بامتيازات المركز؟

- عندما لجأت السلطة للاستعانة بالدعم السريع، كانت تريد عزل دارفور عن قسمة السلطة المركزية لأنها كانت عازمة على اقتسام هذه السلطة مع كيانات التجمع السياسي المعارض، وهي جميعاً كيانات مركزية صفوية تضمن الإنقاذ تفوقها عليها لأنها محدودة وضعيفة. لم تكن كيكة السلطة تتسع لدارفور، كما أن كتل دارفور معظمها كتل كبيرة نسبياً وذات ميراث سلطاني يجعلها مزاحمة ومنافسة حقيقية للإنقاذ وكتل المركز السياسي.

كانت الاستعانة بالدعم السريع في صالح الإنقاذ وفي صالح نخب التجمع التي عزلت حركات دارفور عن جميع مفاوضاتها مع الإنقاذ لذات السبب

لذلك كانت الاستعانة بالدعم السريع في صالح الإنقاذ وفي صالح نخب التجمع التي عزلت حركات دارفور عن جميع مفاوضاتها مع الإنقاذ لذات السبب. المعضلة التي واجهت هذا الترتيب هو أن دخول التجمع حليفاً للإنقاذ أضاف عليها أعباء ولم يزدها لا سنداً سياسياً ولا دعماً مادياً، ولا فتح لها آفاق وعلاقات بديلة لعلاقات الحركة الإسلامية التي قطعت الإنقاذ علاقتها بها، بل وانخرطت مع الأمريكان في تجفيف مواردها.

وبالتالي ازداد اعتماد الإنقاذ على الدعم السريع الذي منحته الإنقاذ موارد ضخمة جداً ونفوذاً لإعادة تشكيل دارفور إثنياً. كل هذا كان يتم في ظل تعرض الإنقاذ لضغوط خارجية ثقيلة جداً وحصار أضعف قوتها وجعل صراع تياراتها ليس على تجديد قوتها وتغيير خطها السياسي المهادن للخارج، بل كان تنافس تيارات الإنقاذ على تقديم مزيد من فروض الولاء والطاعة للخارج.

هذا أدى إلى ضعف السلطة المركزية ضعفاً ظاهراً سمح بتمدد الدعم السريع من تكليفه المحدود إلى مهام من صميم وظائف مؤسسات الدولة المركزية، كما هو الحال في اتفاقه مع الاتحاد الأوروبي عبر مفوضية اللاجئين لمراقبة الحدود الشمالية من الهجرة غير المشروعة، ثم لاحقاً مشاركته في حرب اليمن. هذا التمدد فتح شهية حميدتي السياسية، خاصة بعد اطلاعه على صراعات نخب الإنقاذ.

لكنه رغم ذلك كان مدركاً لقوة الإسلاميين حتى بعد سقوط حكومتهم، ومثله مثل الكثيرين داخلياً وخارجياً توقعوا أن يعيد سقوط الإنقاذ إلى الإسلاميين صوابهم فيستعيدوا توازنهم ويعيدوا سيطرتهم على المشهد. لكنه تفاجأ بالإسلاميين غارقين في صراعاتهم حتى وهم يغادرون صدارة المشهد العام، وأدرك استفحال الكيد بين تيارات الإسلاميين.

ولذلك شرع فوراً في تمكين نفسه مستغلاً ضعف الكتلة التي حلت محل الإنقاذ، ولم يزل يتمدد حتى لم يعد هناك بد من وقوع الصدام بينه ومؤسسات الدولة التي حاولت جهدها تفادي هذا الصدام.

  • كثر الحديث عن مشاركة الإسلاميين في الحرب الدائرة وتم تكريس سردية الحرب بالاستناد على مساهمة لواء البراء وما ذكرته سناء حمد لاحقاً بشأن إجراء تحقيق مع قادة اللجنة الأمنية وعلى رأسهم الفريق أول عوض ابن عوف والفريق أول كمال عبد المعروف. كيف ترى ولاية الإسلاميين على الجيش؟ وهل تنقص الاختراقات التنظيمية من قومية واحترافية ومهنية الجيش؟

- أنا من غير المؤمنين ولا المتحمسين لمسألة قومية واحترافية ومهنية الجيش، ولا أعتقد أن هناك جيش بدون الإسلاميين. كلام سناء حمد لم يمثل لي سوى صدى صراعات الإنقاذيين بينهم، مثل حديث أمين الأخير عن عدم مشاركة الإسلاميين إلا في الانتخابات، والذي اعتبره أيضاً محاولة لسد الطريق على أي مبادرة تحاول صناعة تيار أو الحديث إلى تيار من الإسلاميين يقبل المشاركة مع القحاتة على ذات النسق الذي حدث في نيفاشا مع فارق أن الإسلاميين هذه المرة سيكونون ملحقين بسلطة سياسية يمثل القحاتة حاضنتها السياسية.

  • أنت تتفق إذن مع رؤية الدكتور حسن الترابي للجيش التي أشار إلى ملمح عنها في شهادته على العصر بضرورة تكوين نواة صغيرة للجيش مع تجنيد الشعب وتحشيده حين اشتعال المعارك.

- هذا أمر أصولي. ما يسمى بالجيوش المهنية الحديثة هي في الواقع لا تمثل الشعوب وإنما تمثل النخب التي تنفرد بمساومات السلطة العامة. السلطة في الإسلام ليست مؤسسة هيمنة تقوم بين العبد وربه، وإنما مؤسسة تنسيق لمجهودات المجتمع، ولذلك فهي ليست مؤسسة لحكم الناس وإنما قيادتهم في مساعيهم لإعمار الأرض. ولذلك لا تحتكر دونهم أمراً، وعلى رأس ذلك القتال.

  • ألا يتعارض هذا مع ما يمثله الجيش في الدولة الحديثة مما ينسحب على مقاربة الإسلاميين للدولة نفسها؟ وهو أمر ظاهر في تجربتها، سيما في عشريتها الأولى، حيث خلقت كيانات رديفة لأجهزة الدولة وقوى عنفها: أمن شعبي وشرطة شعبية ومجلس صداقة شعبية ومؤتمر شعبي عربي وإسلامي ودفاع شعبي.

- الفلسفة التي تأسس عليها الفكر السياسي الغربي الحديث ليست فلسفة حديثة، بل هي ذات الفلسفة التي واجهتها رسالات وبعثات الأنبياء وعملت على تفتيتها. وهي فلسفة تقوم على أهلية (الملأ) أو الطبقة أو أهل الحل والعقد أو الـ"استابلشمنت Establishment" ، وهي كلها مسميات لواجهات احتكارية لا تتسق مع تكليف الخالق للإنسان بالسعي. كيف يكلفنا المولى بالسعي للجهاد مثلاً ويجيز احتكار السلطة له؟!

  • هذا يرجعنا إلى سؤال مركزي ومنهجي في آن واحد. ألا يعد إنشاء مليشيات أمراً سائغاً بموجب الفكرة الأصولية التي لا ترى ضرورة احتكار العنف؟ وما هو الفرق من حيث التكوين بين إنشاء الدفاع الشعبي وإنشاء الدعم السريع؟ ألم تحاول الإنقاذ أن تضفي على مشروع الدعم السريع صبغة أيديولوجية ومن ذلك اختصار "ق د س"؟ كيف ترى ما جرى من اختراق لهذه المنظومة من القتال تحت راية القدس ولو رمزياً وبين أن تغدو حلقة في مشروع ابتلاع الدولة السودانية واستنزاف الجيش الرسمي لصالح محاور إقليمية بعينها؟

- الحركة الإسلامية في الأساس قامت لتغيير الفلسفة التي يتأسس عليها الاجتماع البشري، ومن ضمنه الاجتماع السياسي الذي يتأسس وفقه النظام السياسي. وقد انتهجت نهجاً إصلاحياً تدريجياً، فحاولت تأسيس نموذجها من خلال مؤسسات مختلفة تماماً في فلسفتها الإدارية، وحققت نجاحاً منقطع النظير. وحينما استولت على السلطة لم تتحول إلى نهج ثوري يحطم القديم ويقيم مكانه نموذجها، بل تدرجت حتى لا يحدث صدام بينها ومؤسسات الدولة. فحاولت إقناع هذه المؤسسات بصورة عملية بجدوى الإصلاح، فأسست الدفاع الشعبي في ذات الوقت الذي فتحت فيه للجيش المجال واسعاً ليتحول من احتكار القتال إلى إعداد القوة من خلال التصنيع الحربي.

بمعنى آخر، (عودة الجيش للثكنات) لكن ليس على طريقة العلمانيين الانتهازيين الذين يريدون جيشاً عبارة عن معسكرات رق يتم فيها تسمين العساكر ليموتوا في القتال عن مصالح النخبة المختارة، وإنما ليعود الجيش إلى ثكناته كمؤسسة لإعداد القوة وتوفير اللوجستيات اللازمة التي تمكن المجتمع من الدفاع عن دولته إذا دعا الداعي. هذه الفلسفة تنزع القوة من الجيش كمؤسسة وتحوله إلى مؤسسة في خدمة المجتمع وليس في خدمة السلطة.

  • بخصوص علاقة الإنقاذ مع الحركات الإسلامية عبر العالم، يرى كثير من المراقبين أن السودان تضرر كثيراً من هذه العلاقة. وهم يشيرون بشكل مباشر لحقبة العشرية الأولى ومرحلة المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي. بوصفك شاهداً على هذه المرحلة، كيف تصفها؟ وهل بالفعل أراد الترابي أن يصدر الثورة إلى البلدان العربية والإسلامية من خلال هذا المؤتمر؟

- أوضح معالم الانتهازية النخبوية هو ما يردده الكثير من النخب عن علاقة الحركات الإسلامية بالسودان، وذلك لسبب بسيط وهو أن معظم هؤلاء الانتهازيين (ومن بينهم إسلاميو الإنقاذ) لم يرفضوا مساعدات الحركات الإسلامية المجانية للسودان، ومن بينها استثمارات ضخمة وعلاقات واسعة وخبرات مهنية كبيرة هي التي أسست نهضة السودان خلال العشرية الأولى. فلم تكن وزارة مالية السودان هي من أسس صناعة النفط أو التصنيع الحربي أو ثورة الاتصالات. كل هذه أموال وخبرات وعلاقات إسلامية بحتة. للأسف، أكلها إخواننا الانتهازيون وتنكروا لها. لا يزال هذا العار يلاحقنا ويسيء لسمعتنا كسودانيين.

  • انتشرت أقوال وتقارير متطابقة حول دخول أسلحة متطورة من دولة الكيان الإسرائيلي إلى السودان عبر مسارات لم تدركها يد القوات المسلحة ولم تعلق عليها في منصة رسمية. وفي المقابل، فإن خطوط إمداد المقاومة ظلت متصلة عبر مسارب سرية. كيف ترى الحرب الراهنة في سياق الصراع الكبير؟ وكيف يؤثر العدوان الإسرائيلي على غزة على حرب السودان والعكس؟

- حرب غزة كانت مفاجئة للجميع. من الواضح أن قادة حماس أحسنوا توقيت الهجوم العسكري على إسرائيل، مستفيدين من حالة الاسترخاء التي سادت بعد القضاء على ثورات الربيع العربي وزوال الخطر الإسلامي الذي كاد أن يهدد وجودها، والنجاح النسبي للخطة البريطانية لترفيع مملكات ودويلات الخليج مكان أنظمة القوميين العرب التي سادت النصف الثاني من القرن الماضي. إن حرب السودان حرب مؤجلة للتأكد من نهاية الدولة التي صنعها الإسلاميون.

  • مقاطعاً: يقال إن ملف دعم المقاومة الفلسطينية بقي حتى آخر يوم في الإنقاذ بمعزل عن النازع الأيديولوجي الذي خبا بريقه مع تصفية أعمال المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي. يقول السفير عبد الله الأزرق إن البشير ذكر له بأن الرئيس إدريس دبي حمل إليه قبل ستة أيام من سقوط الإنقاذ دعوة إسرائيلية بالتطبيع، مبيناً أن أهم عناصر الأجندة المعادية للإنقاذ هو توجهها الإسلامي وقدراتها العسكرية ومنظومة الصناعة الدفاعية. ما هو تعليقك؟

- دعم الإنقاذ لغزة بالسلاح كان مجرد محاولة انتهازية لإقناع الذات بأن ذلك يكفي، خاصة بعد أن تولت الإنقاذ تفكيك البنى التحتية للحركة الإسلامية في السودان ونشطت في التعاون مع الأميركيين في تجفيف موارد العمل الإسلامي في المنطقة. دعم القضية الفلسطينية لا يكون بالسلاح فقط، فالسلاح موجود ومتوفر ولن ينقطع أبداً عن أيدي المقاومة.

  • كيف استطاع الدعم السريع أن يحدث كل هذه المكاسب الميدانية دون أن يحولها إلى رصيد سياسي؟ لماذا لم يكن سلطة أمر واقع في الأماكن التي يسيطر عليها؟ أهو بسبب الحرص على تسوية قادمة أم بسبب عجزه عن تصريف أمور الدولة؟

- الدعم السريع في أصله ميليشيا، كانت صفقة تأسيسها مع موسى هلال تضمن له ولقبيلته تحقيق مكاسب نوعية في دارفور. لكن الخرطوم كانت تطلب منه أكثر من ذلك، ولم يكن موسى هلال ابن المشيخة على استعداد للتورط في حرب إحلال كامل لقبيلته مكان الزغاوة. هو كان يطمح فقط إلى احتلال مزيد من الأرض والحصول على ميزات سياسية لقبيلته وأهله. ولهذا السبب بحثت الحكومة عن ابن عمه حميدتي الذي كان على استعداد للخوض في حرب إبادة وارتكاب تجريف اجتماعي في دارفور.

غالبية جنود الدعم السريع لا علاقة لهم بحياة المدن أو أنظمة الخدمة المدنية، لا في السودان ولا في دولهم المجاورة للسودان

هذه المهمة كانت تتطلب الاستعانة بجنود لا تربطهم علاقة بدارفور وليس لهم ولاء مشيخي لرئاسة القبيلة، ولهذا فغالبية جنود الدعم السريع لا علاقة لهم بحياة المدن أو أنظمة الخدمة المدنية، لا في السودان ولا في دولهم المجاورة للسودان. هذا القطاع أنا أسميه القطاع الذي سقط من حسابات عواصم الاستعمار السابق شمال وجنوب الصحراء، والبعض يطلق عليهم عرب الشتات. هم ماهرون في الحركة والإغارة، ولكن بطبيعتهم ليسوا أهل استقرار أو محافظة على موقع احتلوه أو الالتزام بأي أنظمة تجرهم إلى الأرض. لهذا يستطيعون مهاجمة أي موقع وأي قوة وإحداث ضرر بالموقع أو القوة، ولكنهم لا يستطيعون تحقيق انتصار أو المحافظة على موقع أو تشغيل مؤسسة أو مصنع أو غيره.

القوى السياسية الانتهازية التي تدعمهم في حربهم هذه أضعف من أن تشكل لهم إدارة سياسية قد تستطيع إدارة المناطق التي يسيطرون عليها. وأول تحدي يقابل أي جهة تتعاون معهم هو السيطرة عليهم هم أنفسهم وإلزامهم بأي نظم أو قوانين منظمة لسير الحياة.

  • ما هي توقعاتك لمسار الحرب السودانية في المرحلة القادمة؟ وكيف تقيم خطوة دخول الحركات المسلحة إلى جانب الجيش وتخليها عن الحياد؟

- مسار الحرب يعتمد على عدة عوامل، أهمها العامل الخارجي واستعداد الجهات الإقليمية والدولية للاستمرار في دعم الدعم السريع وقدرتها على إعادة تشكيل كيان قحت بحيث يستطيع فعلاً تشكيل الواجهة السياسية لحرب الدعم السريع على الدولة السودانية.

أما الحركات المسلحة فهي تواجه تحدي التحول من العمل العسكري إلى العمل السياسي الحقيقي، خاصة في ظل غياب أي شريك سياسي معتبر في المركز. فالحركات نشأت ضد سلطة مركزية كانت تقف خلفها إرادة سياسية هي التي ظلت تتفاوض مع هذه الحركات بغرض واحد هو الاستسلام. وبالتالي أصبح موقف الحركات موقف مقاومة سياسية ليست مستقلة، وإنما هي صدى لفكرة الاستسلام للسلطة المركزية. وفجأة وجدت أن هذه الإرادة السياسية قد اختفت وأصبح عليها العمل العسكري مع الجيش الذي كان في السابق يحاربها دون أن يبرز أفق أو اتفاق سياسي بديل للعلاقة القديمة بين الحركات والسلطة.

أنا أقول لإخواننا في الحركات إن عليهم مهمة مزدوجة، وهي التصالح العسكري مع الجيش وتجاوز الإرادة المركزية السياسية السابقة وطرح مشروع قومي يخاطب هواجس قواعد أحزاب المركز وسكان المناطق المركزية والشمالية.

  • كيف ترى مستقبل التيار الإسلامي في خضم معركة ضارية تستهدف في جانب منها وجودهم وشهودهم؟

- التيار الإسلامي هو وريث المشهد السياسي ليس في السودان وحسب، وإنما في المنطقة كلها. فقد مرت المنطقة بمراحل بعد الاستعمار برزت فيها تيارات قومية واشتراكية استولت على الحكم في بلدان كثيرة، بينما اكتفت بلدان أخرى بالتيار الوطني غير المؤدلج.

وفي السودان كان تحول نميري من الاشتراكية إلى الوطنية وجيزاً جداً، سرعان ما تحول نحو التوجه الإسلامي. وكان ذلك تعبيراً عن تقدم التيار الإسلامي وفرضه قضايا التوجه الإسلامي بأكثر من مجرد شعار الدستور الإسلامي السابق.

كان أمام التيار الإسلامي خياران: الأول مواجهة محاولة نميري الاستيلاء على التوجه الإسلامي، أو الاستفادة من توجهات نميري هذه في بسط وتوسيع قاعدة التوجه الإسلامي. وقد اختار الخيار الثاني. ولكنه لم يكن خياراً سهلاً، إذ كان يتطلب العمل على استيعاب تطلعات نميري وتجاوزها من خلال غمرها بالشعور العام والاستقبال الواسع. وبالفعل كان نميري هو من ضاق ذرعاً واستعجل المواجهة مع التيار الإسلامي دون أن يحسن قراءة المشهد وتقدير قوته وقدرته على تنفيذ ضربة خاطفة تقصي هذا التيار وتخلص له قيادة التوجه الإسلامي. لهذا سقط نظامه لأنه كان مثل شخص مخمور يحاول إصابة شخص واع، فلما أشاح عنه طوح المخمور بقبضته بقوة بحيث فقد توازنه.

الغريب أن ذات الأمر تكرر مع الإنقاذ التي ضاقت ذرعاً بالحركة الإسلامية، وحاولت تصوير الأمر كأنه ضيق بقيادة شيخ حسن. ولكنها في الحقيقة كانت تضيق ذرعاً بشروط ومعايير التوجه الإسلامي وتتطلع إلى التخلص منها لتستطيع إطلاق يدها لتحكم. ولتحقيق ذلك اضطرت إلى اللجوء إلى عدوها الحقيقي وسلمته ذقنها وتكفلت بدفع كل ما يطلبه منها من الاستحقاقات المادية والمعنوية، فأضعفت بذلك نفسها وسقطت.

مستقبل التيار الإسلامي يتوقف بدرجة أساسية على احتمالين: الأول وهو مستبعد عندي، هو عودة الوعي للتيار الإنقاذي ليدرك فداحة ظلمه لنفسه بتنصله عن شروط المشروع الإسلامي، وبالتالي يعود لتبني هذه الشروط والمعايير بصدق وأمانة تعبر عن جدية واستقامة فكرية. والثاني هو ظهور قيادة بديلة مكان الدكتور علي الحاج، الذي عجز عن استيعاب ما كان يقوم به الشيخ الترابي

مستقبل التيار الإسلامي يتوقف بدرجة أساسية على احتمالين: الأول وهو مستبعد عندي، هو عودة الوعي للتيار الإنقاذي ليدرك فداحة ظلمه لنفسه بتنصله عن شروط المشروع الإسلامي، وبالتالي يعود لتبني هذه الشروط والمعايير بصدق وأمانة تعبر عن جدية واستقامة فكرية. والثاني هو ظهور قيادة بديلة مكان الدكتور علي الحاج، الذي عجز عن استيعاب ما كان يقوم به الشيخ الترابي من محاولة استعادة التيار الإنقاذي إلى المشروع الإسلامي، وانشغل بمواجهة إخوانه السابقين وتصفية حسابات لا علاقة لها بمهمته كأمين عام للمؤتمر الشعبي، وبالتالي الحركة الإسلامية الصحيحة أو الأصلية.

  • مرت ذكرى انتقال الشيخ الترابي في ظرف خاص على مستوى السودان والمنطقة العربية. كيف تقيم تجربته السياسية ودوره على المستوى العالمي والإسلامي؟

- رحم الله الشيخ الترابي، الذي كان أقرب المجددين إلى سيرة الأنبياء. استطاع أن ينفذ إلى جوهر أزمة العالم الإسلامي ويعيد بناء العقل الإسلامي بحيث استطاع إنجاز بناء واحدة من أعظم حركات التغيير الاجتماعي على امتداد التاريخ.

فلا يوجد قائد استطاع قيادة حركة من منظومة مؤسسات، كل واحدة منها أكبر من التنظيم السياسي. الحركة الإسلامية التي كان يقودها الشيخ الترابي كانت فريدة من حيث إن مؤسساتها الاقتصادية والدعوية والتربوية والطوعية تتجاوز أضعاف حجمها هي نفسها. وبالتالي لم تحجبها أو تحدها حدودها التنظيمية، وإنما انداح أثرها وتجاوز تأثيرها القضية السياسية. ولهذا كان سهلاً عليها جداً أن تتحدث إلى غير المنتمي لها من خلال ما يهمه من قضايا الحياة. فهناك من يتعاون ويعمل مع الحركة في القطاع الاقتصادي وهو يخالفها سياسياً، وهناك من ينخرط معها في مجال التعليم والتربية دون أن يشغل باله بتوجهاتها السياسية.

بمعنى آخر، استطاعت الحركة فصل السياسي والدعوي والاقتصادي والاجتماعي، أو في الحقيقة فك ولاية السياسي على ضروب الحياة الأخرى. وهذا الإصلاح الذي نفذته الحركة لم يكن هيناً أو سهلاً والكثيرون لا يلاحظونه. لكن يكفي أن ندرس مواقع الخلل في عمل التيار الإنقاذي المنسلخ من ذات الحركة، والذي أعاد إخضاع كل هذه المجالات للسياسي من خلال إدخالها كلها تحت ولاية السلطة، فأصبح شرطاً لكل من يريد التعامل مع المؤتمر الوطني وحركته الإسلامية المزعومة أن يتعامل معه سياسياً أولاً. ولما كان هذا مستحيلاً فقد اضطر الناس إلى منافقة المؤتمر الوطني.

معجزة المقاومة الفلسطينية ليست في صمودها الطويل أو استطاعتها منفردة كسر الغرور الصهيوني الصليبي، ولا في براعتها في التعامل مع تعقيدات مشهد إقليمي معقد جداً، ولكن معجزتها الحقيقية هي في استطاعتها أن تحقق لنفسها الحماية من دون تفوق في التسليح

يمكن قياس تجربة الحركة الإسلامية أعلاه إلى تجارب حركات إسلامية في بلدان مجاورة كانت أكبر حجماً وأوفر موارد، ولكن لا تكاد تجد بينها حركة أسست مؤسسات ومنظمات وشركات يعمل فيها ويقودها أشخاص لا ينتمون لهذه الحركات.

  • كيف رأيت معركة السابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر تحت عنوان طوفان الأقصى؟ وكيف نقرأ الحدث في السياق الإقليمي والدولي؟

- معجزة المقاومة الفلسطينية ليست في صمودها الطويل أو استطاعتها منفردة كسر الغرور الصهيوني الصليبي، ولا في براعتها في التعامل مع تعقيدات مشهد إقليمي معقد جداً، ولكن معجزتها الحقيقية هي في استطاعتها أن تحقق لنفسها الحماية من دون تفوق في التسليح. بمعنى أنها استخدمت بندقيتها البسيطة في تغليب المشاعر الفطرية السليمة لدى الغالبية من البشر بالدرجة التي أخذت القوى المتفوقة عسكرياً ومادياً وأفقدتها توازنها وصوابها ودفعتها إلى الظهور عارية من كل ادعاءات احترام القانون والحريات.

ولكن مستقبل المقاومة مرتبط بقدرة التيار الإسلامي العام الذي تمثله على استقبال وتوظيف الزخم العالمي الذي حققته المقاومة، وتطوير منظومة أفكار ومؤسسات ومنظمات ومشاريع اقتصادية واجتماعية وسياسية تستفيد من الطاقات التي فجرتها المقاومة.