15-أبريل-2024
الحرب السودانية

اندلعت الحرب السودانية في 15 نيسان/أبريل 2023

محمد محي الدين الذي نزح من العاصمة الخرطوم عقب أيام من اندلاع الاشتباكات، يحاول التعود على الوضع الجديد في بورتسودان، فقد فر هذا الشاب وأسرة أخيه من منزلهم بالديم في مثل هذه الأيام من العام الماضي، واستقر بهم الحال وقتها بمدينة خشم القربة في ولاية كسلا. يقول محي الدين الذي غادر إلى بورتسودان بعد أشهر من الحياة في خشم القربة: "صارت بورتسودان العاصمة البديلة بالفعل، وفي محاولة للتأقلم غادرت إليها لمواصلة أعمالي بعد قضاء أشهر في البيت الكبير بخشم القربة".

يواجه النازحون والمجتمعات المضيفة في السودان أوضاعًا اقتصادية في غاية التعقيد، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم الكبير الذي يعاني منه الاقتصاد، بجانب شح الخدمات وانهيار القطاع الصحي

واندلعت الحرب السودانية بين الجيش وقوات الدعم السريع في صباح 15 نيسان/أبريل من العام 2023، بمواجهات دامية في العاصمة القومية الخرطوم. وأجبرت الحرب حتى الآن أكثر من (8.6) ملايين على مغادرة منازلهم، واستقر الحال بأكثر من ستة ملايين منهم في الولايات الآمنة، لا سيما في شمال وشرق البلاد.

ويواجه النازحون والمجتمعات المضيفة أوضاعًا اقتصادية في غاية التعقيد، حيث ترك معظم الفارين من جحيم الحرب أعمالهم وممتلكاتهم خلفهم، فيما يعاني الموظفون في القطاع العام والخاص من توقف الأعمال والمرتبات، وذلك في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم الكبير الذي يعاني منه الاقتصاد، مع شح الخدمات الأساسية وانهيار القطاع الصحي؛ ولكن الجميع يحاول بشق الأنفس التأقلم مع الأوضاع والأزمة الاقتصادية.

ازدهار في الشرق

وتشهد مدينة بورتسودان بولاية البحر الأحمر حالة إزدهار غير مسبوقة جراء انتقال السلطة القائمة في البلاد إليها، فضمت المدينة الوزارات الاتحادية ومجلس السيادة وحتى البعثات الدبلوماسية وإدارات المنظمات الدولية والإنسانية. واستقبلت البحر الأحمر مئات الآلاف من النازحين والمواطنين الذين يحاولون توفيق أوضاعهم والسفر إلى خارج البلاد. ونجح العديد من النازحين في بداية أعمال جديدة لهم في ظل ارتفاع جنوني للأسعار والإيجارات.

يقول محمد محي الدين الذي يعمل في مجال الصياغة، إن المؤسسة التي يعمل بها في العاصمة نقلت أعمالها إلى بورتسودان بعد أن تداركت الخسائر الضخمة التي تعرضت لها في الخرطوم. ويضيف في حديثه مع "الترا سودان": "رغم كل شيء الأعمال تمضي بصورة جيدة".

هذا الشاب ليس وحده، حيث انتقلت إلى بورتسودان أيضًا جميع الأعمال الكبيرة، مثل الشركات الغذائية والطبية والهندسية، لا سيما العاملة في قطاع الاتصالات التي نجح بعضها في إنشاء مقسمات جديدة في البحر الأحمر، في ظل تحكم قوات الدعم الدعم السريع بالمقسمات الرئيسية بالعاصمة الخرطوم.

ويقول مهندس يعمل في شركة "هواوي" الصينية التي تقوم بصيانة وتركيب الأبراج لشركات الاتصالات في السودان -فضل حجب اسمه- إن الحياة في البحر الأحمر مكلفة للغاية، ولم يكن ليستطيع مواصلة العمل فيها لو لم تدفع له الشركة المبالغ الطائلة التي يطلبها أصحاب المساكن، حيث وصلت إيجارات الشقق إلى "أسعار مليارية" في شرق السودان. وانتقلت "هواوي" مثل رصيفاتها إلى البحر الأحمر لمواصلة أعمالها من هناك.

كسلا في أقصى شرقي البلاد أيضًا تشهد زيادة ضخمة في عدد السكان جراء النزوح وانتقال مئات الآلاف من الأسر إليها. وتشهد أسواق مدينة كسلا افتتاح المحلات التجارية الكبيرة والمطاعم المميزة التي أتى بها النازحون من العاصمة الخرطوم، وازدهار المحلات القديمة القائمة بالولاية.

ويقول أحمد حميدة، المواطن المقيم في ولاية كسلا منذ ما قبل الحرب السودانية، إن العديد من المحلات التجارية الجديدة والأسواق تأسست مع وصول النازحين، وقامت الأبراج في السوق الرئيسي لتلبية طلبات الذين استقر بهم الحال في المدينة التي كانت في السابق هادئة وخالية لحد كبير من السكان.

وفي القضارف المتاخمة للجزيرة التي تشهد مناوشات حربية نشطة، ازدهرت التجارة الحدودية مع إثيوبيا. ويقيم الآلاف في القضارف في انتظار مغادرة البلاد عبر معبر القلابات الحدودي، كما قامت بعض المؤسسات بافتتاح أفرع لها هناك.

اقتصاد مدمر

خلال عام واحد من الاشتباكات، انخفضت قيمة العملة الوطنية، الجنيه السوداني، بما يزيد من النصف، وكانت قبيل اندلاع الحرب السودانية تعادل حوالي (0.002) دولارًا أمريكيًا، وصارت الآن بعد مرور عام، أقل من (0.001).

في السابق تركزت معظم الصناعات السودانية والأعمال التجارية في العاصمة الخرطوم، وتسببت الحرب السودانية في خسائر ضخمة بهذه القطاعات، حيث أكثر من ألف منشأة كانت تحتضنها العاصمة القومية. ونُهبت أفرع البنوك في العاصمة، وسط أنباء عن تفكيك بعض المصانع وسرقة جميع محتوياتها.

ووفقًا لوزير المالية الاتحادي، قائد حركة العدل والمساواة السودانية، د. جبريل إبراهيم، فإن الحرب فرضت ظروفًا استثنائية على الاقتصاد السوداني. وقال جبريل في مؤتمر صحفي من العاصمة المؤقتة بورتسودان، في شباط/فبراير الماضي، إن إيرادات الدولة انخفضت بأكثر من (80) بالمائة، مرجعًا الانخفاض لتركز الاقتصاد في العاصمة الخرطوم.

وأعادت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي توجيه أولويات الاقتصاد السوداني لدعم المجهود الحربي للقوات النظامية، ثم الاهتمام بالنازحين والمهجرين، يلي ذلك الصحة. وقال إبراهيم إن البلاد فقدت مخزونها الدوائي والمستهلكات الطبية في الحرب، بما قيمته (500) مليون دولار.

وجراء الأوضاع الاقتصادية التي يمر بها القطاع الحكومي، كانت المالية قد أوقفت كل العلاوات الإضافية والدعم للموظفين، كما تم تخفيض مرتبات الموظفين بنسبة (40) بالمائة، بينما يأخذ العمال استحقاقهم كاملًا وفقًا لسياسة وزارة المالية الاتحادية في زمن الحرب. ويشتكي العديد من العاملين في القطاع العام، وعلى رأسهم العاملون في التعليم، من توقف المرتبات منذ الأشهر الأولى للحرب، والتي أكملت عامها الأول اليوم، 15 نيسان/أبريل 2024.

وتحاول المالية السودانية تعظيم الإيرادات عبر فرض المزيد من الضرائب والجمارك على السلع المستوردة، كما تحاول تقييد مصروفات الشركات الحكومية والمؤسسات. ويعاني السودان منذ ما قبل الحرب من انخفاض تغطية المظلة الضريبية، فضلًا عن "التجنيب" والتهريب.

وفي موازنة العام 2024، حرصت الوزارة على أن تكون "مرنة للغاية" نسبة لأنها موازنة حرب تتغير وفق الظروف. وقالت إن هنالك "حد صغير جدًا" لمعالجة القضايا التنموية، لا سيما المشروعات التي لها تمويل خارجي، وصفتها بأنها "مشروعات صغيرة". وأضاف وزير المالية: "ما في مخصصات للتنمية".

وتواجه موازنة وزارة المالية للعام الجاري تحديات كبيرة، منها ضمور الإيرادات التي تآكلت بشكل كبير جراء الحرب في السودان. وقالت وزارة المالية إنها لا تملك أي أرقام دقيقة للاعتماد عليها، لأنها فقدت جزءًا كبيرًا من المعلومات التي تعتمد عليها في العاصمة الخرطوم، كما فشلت الهيئة العامة للإحصاء في الحصول على إحصائيات منذ اندلاع الحرب السودانية، وتعتمد وزارة المالية على التقديرات والتخمينات.

د. جبريل إبراهيم قال إن الاقتصاد السوداني انكمش بنسبة (40) بالمائة في العام الماضي، ومن المتوقع أن يواصل الانكماش خلال العام الحالي ما لم تتبدل الظروف. وقدر صندوق النقد الدولي الانخفاض في نمو الاقتصاد السوداني في عام 2023 بنسبة (18) في المئة بسبب تداعيات الحرب.

وتصرف السلطات السودانية بالعملة الصعبة على المجهود الحربي القائم منذ عام، ما ساهم في انخفاض قيمة الجنيه بهذه الصورة الكبيرة التي تشهدها البلاد حاليًا. كل ذلك في ظل تضخم جامح لاعتماد البلاد على الاستيراد بصورة كبيرة، خصوصًا عقب وصول الحرب في السودان لولاية الجزيرة وغيرها من المناطق الزراعية التي كانت تغطي جزءًا من استهلاك البلاد.

ووفقًا لتقرير حديث لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، فقد انخفض إنتاج البلاد من الحبوب في العام الماضي بحوالي النصف. وأرجعت المنظمة الانخفاض الكبير إلى تأثير الحرب السودانية على العمليات الزراعية، في ظل شح المدخلات وارتفاع أسعارها. وأضاف التقرير: "أدى انخفاض الواردات وتعطيل تدفقات التجارة الداخلية إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج".

الأزمة الغذائية

تسببت الحرب السودانية في درجات خطيرة من الجوع في البلاد. ويواجه أكثر من (18) مليون سوداني انعدام الأمن الغذائي الحاد والطارئ، بينهم خمسة ملايين في حالة الطوارئ من الجوع الحاد. وتنقل تقارير عن (8.9) مليون طفل في السودان يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بينهم (4.9) مليون في مستويات الطوارئ من الجوع.

وتقول منظمات أممية إن (24) مليون سوداني بحاجة للمساعدات. وبحسب برنامج الأغذية العالمي، فإن (90) بالمائة من الأشخاص الذين هم في حالة الطوارئ، متواجدون في أماكن يكون الوصول إليها محدودًا للغاية. ويُتهم طرفي الصراع بعرقلة وصول المساعدات ومضايقة العاملين في المجال الإنساني.

ويقول برنامج الأغذية العالمي إن الأسباب الرئيسة خلف انعدام الأمن الغذائي في السودان، تشمل الصراع المكثف وتزايد العنف القبلي، والأزمة الاقتصادية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية والوقود والسلع الأساسية، والإنتاج الزراعي دون المتوسط.

بعد مرور عام على الحرب في السودان، فإن (20) ألف شخص ما زالوا يفرون يوميًا من الاشتباكات والمناطق الساخنة

وفي ظل استمرار الحرب التي تتوسع منذ عام، فإنه من المتوقع استمرار التدهور في شتى المجالات بالسودان، في وقت يحذر فيه فاعلون سياسيون من تفكك البلاد بسبب الصراع الذي بدأ يأخذ مناحٍ أخرى في العديد من المناطق، وتغذيه النعرة العرقية والقبلية.

وتقول المنظمة الدولية للهجرة، إنه بعد مرور عام على الحرب في السودان، فإن (20) ألف شخص ما زالوا يفرون يوميًا من الاشتباكات والمناطق الساخنة، الأمر الذي يؤكد على تفاقم الأزمة الإنسانية في  المستقبل المنظور، في ظل فشل كل الجهود المحلية والدولية لإيقاف الحرب، أو حتى الحصول على هدنة إنسانية مستدامة من طرفي الصراع.