09-مارس-2024
الرئيس المخلوع عمر البشير

الرئيس المخلوع عمر البشير

 تبدو أقدار التاريخ منصفة بنحو من الأنحاء وحكيمة في آن، إذ انتهت بكثير من الحكام إلى مصائر مشابهة في سياق حقبة الربيع العربي من السجن إلى المنفى إلى التصفية الجسدية،  ليس جزاءًا وفاقًا فحسب، إنما نسجًا على منوال من زرع الريح يجني الإعصار بالضرورة، وفي حالة البشير تصبح المفارقة أوضح وهي تنتصب على جماع ما حدث لزملائه الرؤساء، (ثورة مدنية سلمية بها طيف واسع من الفئات المجتمعية المتضررة، تم قمعها بآلة عنف الدولة المنذورة لحماية الثغور والدستور فهرب بن علي وسُجن، وحوكم مبارك، وقتل القذافي، وحُمل رأس علي عبد الله صالح على خِرقة بالية، واستدعى الأسد حلفائه الإقليميين والدوليين، وأحال بلاده إلى ركام وخراب).

البشير آثر أن يمضي في طريق المناورة حتى اليوم الأخير، بالرغم  من أنه كان آخر الرؤساء المنتفض عليهم

 كان البشير آخر الرؤساء المنتفض عليهم، وبرغم الخبرة المتوافرة في سياق التجربة السودانية مقروءة مع ممارسات زملائه، إلا أنه آثر أن يمضي في طريق المناورة حتى اليوم الأخير.

 ولم يستطع -وفق آراء وازنة- أن يستوعب الدرس الديسمبري بوصفه ثورة جيلية ذات أجندة اجتماعية وسياسية وثقافية، في بلاد تجتاز أزمات عميقة بمخيال عقيم، وآثر حتى اللحظة الأخيرة أن يغلّب منهج المغالبة على العبور إلى انتقال سلس يكون جزءًا من مفاعيله عوضًا من أن يغدو كما حدث لاحقًا هدفًا رئيسًا له.

ولم يتسن للنخبة الصاعدة إلى صدارة المشهد ما بعد أبريل، أن تقدّم القضايا التأسيسية على الاعتبارات السلطوية الاستحواذية، ليأتي طور الانتقال المتعثر عبر مسار زاخر بالأحداث من حراك جماهيري مكثف ومتواتر، فاعتصام مدني سلمي تم فضه عنوة إلى استئناف سياسي واستدراك فرضته ظروف تعقيدات الواقع المشدود بين تطلعات الجماهير، واستعصاء المؤسسات على التغيير نزولاً إلى منطق المساومة التي بلغت مراتبها مع جولات التفاوض المرعية إقليميًا، والمنتهية إلى شراكة عسكرية مدنية ثم انقلاب الطرف العسكري على المدني في الخامس والعشرين من أكتوبر إلى تقارب جديد على وقع الاتفاق الإطاري، وما تفجر معه من تناقضات عميقة أشعلت بالبلاد حرباً ضارية لم تزل تزحف في مساحات واسعة من جغرافية البلاد .

الرهان الخفي

لقد غطى حدث الحرب -الذي خرج بموجبه رفاق البشير من سجن كوبر ضمن ظرف استثنائي- على مصير البشير الذي أسلمته الأقدار إلى معايشة الحرب في أكثر الأماكن خطورة بعد أن اشتد الحصار على منطقة امدرمان العسكرية ومحيط سلاحي المهندسين والسلاح الطبي.

 ووجد البشير نفسه رفقة آخر من تبقى معه من مجلس قيادة الثورة الفريق أول بكري حسن صالح، والفريق أول عبد الرحيم محمد حسين، في مرمى نيران من أتى بهم تعزيزًا لسلطته من مناوئيه داخل منظومته وخارجها، وكادت مفارقة علي عبد الله صالح مع مليشيا الحوثي أن تتكرر بنحو من الانحاء لو نجحت قوات الدعم السريع في اجتياح سلاح المهندسين.

 يقول مصدر مطلع آثر حجب هويته أن الدعم السريع الذي فشل في القبض على أي من القيادات الإسلامية المعروفة في إطار سردية الحرب المخدومة، حاول بنحو مكثف القبض على البشير وعبد الرحيم محمد حسين المطلوبين لدى المحكمة الجنائية الدولية، وتقديمهما لمنصة العدالة الدولية في لاهاي. مؤكدًا أن قيادة الدعم السريع تهدف بهذه الخطوة إلى غسل انتهاكاتها المريعة في إطار الحرب المشتعلة، وإظهار الجيش السوداني -الذي صرح أحد قياداته في مؤتمر صحفي بامتناعه عن تسليم أي مطلوب للمحكمة الجنائية- باعتبارها مؤسسة متواطئة في حماية المطلوبين، ليسهل دمغها بالاختراق السياسي والتنظيمي من العناصر الإسلامية، وفي مستوى أعمق بوصفها قوة الإسلاميين الصلبة كما صرح قيادي معروف في تنسيقية تقدم.

جيش كرتي أم جيش البشير

يقول ذات المصدر: أن سردية الحرب نسبت مؤسسة عمرها أكثر من مائة عام، إلى أمين عام الحركة الإسلامية المكلف علي كرتي، ولم تشأ أن تنسبها إلى المشير البشير كآخر قائد أعلى للجيش ما قبل الثورة وأرفع رتبة عسكرية حالية، مع أن ولاية التنظيم على المؤسسة لم تكن في أقوى حالات هيمنته محكمة وكاملة.

 وما يؤكد زيف هذه السردية بحسب المصدر واقع الصراع العنيف ومفاعيله بين أنصار الاحتراف والمهنية داخل الجيش والمكاتب التنظيمية بتشكيلاتها بالغة السرية. وأن الصراع الذي احتدم في محطات مفصلية ما بعد مفاصلة الإسلاميين في العام ،1999 وعقب المحاولة الإنقلابية المنسوبة إلى العميد المتقاعد محمد إبراهيم عبد الجليل "ود إبراهيم" خواتيم العام 2012، كانت الغلبة فيه لأصحاب السلطة الفعلية. موضحًا أن الحالة السودانية لم تعش تناقضًا بين مؤسسة الرئاسة وقيادة الجيش لإحكام قبضة البشير على المؤسسة العسكرية، وهي قبضة لم تتراخ إلا في آخر سنوات حكمه بعد اشتداد الاحتجاجات الثورية في ديسمبر من العام 2018م . ويردف المصدر متسائلًا: إذا خالفت المؤسسة رغبة قائدها الأعلى فكيف ترتهن لمسؤول المكتب التنظيمي وهو لا يملك بواقع التراتبية الصارمة وسلسلة الأوامر أي إمرة عليها؟ معللاً تأثير كرتي وأسامة عبد الله على المؤسسة العسكرية من خلال تواصلهما مع المكوّن التنظيمي، واستثمارهما في التناقضات الداخلية عبر ما يتوافر لهما من معلومات دقيقة. وهو أمر تمارسه التنظيمات اليسارية بشكل أقل نفاذًا بسبب عمليات التجريف التي تمت لعناصرهم خلال ثلاثة عقود مضت من حكم الإسلاميين.

تحمل أعباء الانقلاب ونكوص النخبة الإسلامية 

ظهر البشير في أول مرافعة له من خلال محكمة انقلاب الثلاثين من يونيو مستعرضًا علاقته بالقوات المسلحة وسجله بها، وما تلقاه من دورات وما كتب عنه من تقارير، وما أسهم به في مسار الأحداث الداخلية والخارجية، مشاركته في حربي الاستنزاف والعبور مع الجيش المصري ضمن حروبه مع إسرائيل، وحاول على نحو حثيث أن يوجد صلة بين مسوغات قيامه بالانقلاب وما أسماه واقعاً مزرياً كانت تعيشه القوات المسلحة ما قبل 30 يونيو مما أدى إلى سقوط كثير من الحاميات في قبضة "التمرد"، بسبب نفاد الذخائر كأدنى حد من متطلبات القتال. ذاكرًا ومذكرًا بما عايشه في مسارح العمليات وتحديدًا في منطقة"ميوم" ومناطق أخرى من مصاعب جمة في ظل ما أسماه "غفلة النخبة السياسية وانشغالها بالصراع على السلطة"، وكيف أن أحد السياسيين قال عند سقوط توريت "شنو يعني لو سقطت توريت ما سقطت قبلها برلين" ! وعند انتقاله إلى ما أسماه سوء الأحوال بالبلاد استند إلى ما قاله الشريف زين العابدين الهندي داخل البرلمان يوم 29/يونيو/1989م "أن الديموقراطية لو شالها كلب ما بنقول ليه جر"، إمعانًا في يأسه من المسار الديموقراطي وما آلت إليه الظروف المنعكسة في أعلى تجلياتها على الجيش، والمُعبّر عنها في مذكرة القوات المسلحة التي عدها البشير بمثابة انقلاب على الحكومة النيابية في ذلك الوقت.

 المفارقة التي احتوتها المرافعة أن البشير أعلن مسؤوليته الحصرية عن الانقلاب من واقع استشعار الضرورة العاجلة، في حين أنكر المتهمون من المدنيين تحديدًا وبعض العسكريين صلتهم بالانقلاب بما فيهم أعضاء المكتب العسكري، والذي آل إليه تدبير الانقلاب تخطيطًا وتنفيذًا بحسب شهادات وإفادات موثقة، على رأسها وأكثرها أهمية وموثوقية ما أورده الدكتور الترابي في شهادته على العصر مع الصحفي بقناة الجزيرة أحمد منصور. يتساءل ذات المصدر كيف يستوي من أنكر مجرد صلته بالانقلاب مع من أعلن وقدم بين يدي حدث الانقلاب أقوى مرافعة، وكيف يكون القادة التنظيمين أكثر تأثيراً من الفاعلين داخل البنية المؤسسية، لا سيما في مؤسسة متماسكة وصارمة مثل القوات المسلحة المحتكرة للعنف الشرعي، والممثلة لقوى عنف الدولة بحكم التعريف.

الصبر على وعثاء الحرب

لم يغادر البشير أو لم يسمح له بالأحرى مغادرة موقعه في مستشفى علياء بالسلاح الطبي، حين اشتعال الحرب في الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023، حيث ظل رهين محبسيه: العلة التي ألحقته بالمشفى والسجن، ليضاف إليها محبس المعركة المشتعلة على حواف موقعه، إذ بلغت مقامه بعض الشظايا كما أفاد صحفي مقرب من الإسلاميين، فضلًا عن النقص الحاد في المؤن والغذاء وبطبيعة الحال الأدوية المهمة والضرورية، كما ذكرت أقوال متطابقة. 

يقول ذات المصدر إن البشير الذي تدهورت صحته كثيرًا بسبب الظروف التي عاشها في محابسه الثلاثة، ينظر إلى موقعه في التاريخ بعد أن خسر سلطته وصولجانه ككثير من الزعماء الذين خسروا حكمهم، حيث أصر مبارك أن يبقى في مصر ويواجه المحاكمة في ظل ظرف صحي غير مستقر، محاذرًا من الوقوع في سيناريو بن علي، الذي آثر سلامته الشخصية عطفاً على قادة آخرين اتخذوا ذات الموقف مثل شاه إيران والملك فاروق، بينما بقي صدام حسين مدافعًا بقوة عن نظامه، ولم يغادر الزعيم معمر القذافي ليبيا رغم علاقاته الإفريقية المائزة، وقضى فيها بعد أن قُبض عليه. ويرى المصدر أن البشير لديه عناية بالغة بصورته، ولا يود أن يخسرها ضمن ما خسره بفعل الثورة، حيث اشتكى في مرافعته التي قدمها في المحكمة من شيطنته أكثر من أي شيء آخر. ولهذا عانى ما عانى في سبيل ذلك.

 الخوف من البشير أم الخوف عليه 

يعود المصدر إلى ما اسماه مفارقة البشير، والتي جعلته يحذر ملاحقة شرسة من المحكمة الجنائية الدولية، وأن يتشبث بأريكة الحكم ليحمي بها نفسه، ويركل كل محاولات الإصلاح من داخل النظام، ليتحول من زعيم إلى عبء على النظام والدولة معًا، متجهًا إلى تقديم هامش المناورة على مساحات الفعل الاستراتيجي، ومن ذلك تضخيم دور الدعم السريع من كونه أداة ساندة للقوات المسلحة في إطار الحرب إلى أداة مكرّسة لسلطة الرئيس، وما تصريح قائد الدعم السريع في العام 2015م بأن مرشحهم للرئاسة هو الرئيس البشير إلا مؤشرًا لقوة رهان كلٌ منهما على الآخر، وهو ما سهل بحسب المصدر لحميدتي أن يتعاطى مباشرة مع المحاور الإقليمية في سياق عاصفة الحزم .

 وإذا كان اللجوء إلى العسكر في إطار لعبة الكراسي أمراً خطيرًا، فالاستعانة بالمليشيات وصنعها أمرًا أشد خطورة، وإن كان ضرغام العسكر يتصيدون من يستعينون بهم، فإن المليشيات تجعلهم هدفًا أوحدًا لصيدها بحسب قول المصدر. ويضيف المصدر أن البشير لم يقدم الدعم السريع فقط وانما قدّم معها نخبة عسكرية داخل مؤسسة الجيش بعيدة عن مقاود التنظيم، منها الفريق البرهان والكباشي وياسر العطا وإبراهيم جابر، وهم في مجملهم عناصر مهنية لا صلة لها بالمكون الإسلامي داخل الجيش بحسب رأي المصدر، مقرًا بأن آخر قرار للرئيس البشير هو تعيين عبد الرحيم محمد حسين بديلاً للفريق أول عوض ابنعوف قبل أن يقوم بخلعه والتحفظ عليه في مكان آمن، بحسب خطابه الشهير في 11 نيسان/أبريل 2019، والقرار الثاني هو تعيين الفريق البرهان وزيرًا للدفاع من أجل تنفيذ خطة فض الاعتصام، وقد تفاجأ البشير -بحسب المصدر- من أن البرهان أتى لاعتقاله صبيحة يوم انقلاب ابنعوف، وهو المنذور لتنفيذ خطة فض الاعتصام، ما اسماه موقفًا حرجًا واختبارًا حقيقيًا خضع له البشير وسلطته.

ترى أصوات قريبة من البشير أن البرهان لم يحسن معاملته، واستجاب لضغوط خصومه الداخليين و الإقليميين، وظل يعلّق مسؤولية كل ما حدث للبشير في كل من  قائد الدعم السريع وقائده الثاني عبد الرحيم دقلو

وترى أصوات قريبة من البشير أن البرهان لم يحسن معاملته، واستجاب لضغوط خصومه الداخليين و الإقليميين، وظل يعلّق مسؤولية كل ما حدث للبشير في كل من  قائد الدعم السريع وقائده الثاني عبد الرحيم دقلو. موضحة أن عداء البرهان للبشير ألد من عداء حميدتي نفسه.

وفي سياق متصل أورد الطاهر حسن التوم الإعلامي المقرب من البشير واقعة غريبة مدللًا على عداء البرهان للبشير قائلاً : إن ابنة أحد القياديين الإنقاذيين المحبوسين، أخبرت بما دار مع الجنرال حميدتي الذي استقدمها إلى مكتبه وحاول أن يبرئ ساحته مما ينسبه إليه البرهان، موضحًا أنه ليس طرفًا في إرجاع بعض سجناء النظام السابق ومنهم والدها من المشفى إلى السجن، والذي تم بتحريض من محور إقليمي نافذ في الشأن السوداني، وفي سبيل إثبات ذلك أجرى حميدتي اتصالاً بالبرهان واسمعها مكالمته معه عبر السماعة الخارجية، ليؤكد لها ما ذكره من أن المحرّك الرئيس في التضييق على السجناء هو البرهان نفسه. وبعيدًا عن مدى موثوقية الواقعة فإن سجل تاريخ السلطة يمثل في جزء منه فاصلاً من العداء بين أقطاب السلطة نفسها، وفي أحوال متباينة بين سلطة السابق واللاحق كما تدل على ذلك أمثلة متواترة لعلاقات متوترة، ومن ذلك ما شهدته الحالة المصرية من عداء محكم بين عبد الناصر ومحمد نجيب وبين أنور السادات ومراكز القوى في حكم ناصر، وبين بن علي وبورقيبة بل وبين الرئيس السيسي ونجلي مبارك، علاوة على التنافس في أفق النظام بين قائد الجيش ورئيس الجمهورية كما كان الحال بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر رغم الصداقة الشخصية بينهما.

وفي حالة البرهان الذي يخاف فقدان سلطته المضطربة بفعل الحرب، أو التأثير عليها من أقطاب النظام السابق، فإن تحفظه على البشير يصبح أمرًا ضروريًا بحسب تحليلات متطابقة، وإن طال مكوثه ضمن محابسه المتراكبة بعضها فوق بعض، فإن بقاءه في محيط السلاح الطبي رهين علته ناتج بالأساس من الخوف منه لا الخوف عليه.