حرب أبريل نتيجة طبيعية لتراكم تصدير الحروب إلى الأطراف، والوصول إليها كان مسألة وقت!
أرى في المشهد الراهن فشلًا جماعيًا في مادتي السياسة والتاريخ، وهدمًا للقديم بلا تأسيس جديد.
بنية السلطة في الثورة مثّلت أعلى درجات التناقض وحملت بذرة فنائها في بنائها.
تحديات الفترة الانتقالية كانت أعمق أثرًا من الانقلاب، وخلفت مئات القتلى.
نشبت الحرب من ضيق أفق الصفوة وعدم إدراكها أن البندقية لا توفر ظلًا لحكم أو سلطة.
أراد الدعم السريع أن يكون رائد أعمال في سوق السلطة، وقدم نفسه بماركة جديدة.
دولة 56 معطى تاريخي، وهي من مظاهر العجز عن الانتقال من بنية دولة ما بعد الاستعمار إلى الدولة الوطنية.
سعى الدعم السريع إلى ابتلاع دولة 56 وليس الإطاحة بها كما تزعم دعايته.
الجيش والدعم السريع يمثلان نتاج تجربة واحدة، ويتماثلان في طرائق العمل وأساليب التحشيد.
لم تنجح تجارب التمرد في إدارة الشأن المدني باستثناء الحركة الشعبية، والفوضى ظاهرة ملازمة للسلوك العسكري المنظم.
عجز الدعم السريع عن تكوين سلطة لسيادة نمط الزبائنية القبلية داخله، والتوجه نحو تمكين قوى اجتماعية محددة على حساب قوى أخرى. لهذه الأسباب يقدم مستشارو الدعم السريع استقالاتهم.
أخشى أن ينتهي الأمر بمشهد تفسخ وانحلال لا يبقي على أي مكاسب.
منتصر إبراهيم، فاعل سياسي وثقافي تقلّب في كثير من المؤسسات والمنظمات، وعمل ضمن مشروعات معرفية وحقوقية مختلفة. أنتج كتابًا مهمًا حول أزمة دارفور عن مؤسسة الفكر الديمقراطي، وكتابًا آخر حول تعثر الانتقال والتحول الديمقراطي. انخرط بصورة فاعلة في معارضة نظام الثلاثين من حزيران/يونيو 1989، ملتحمًا بنضالات القوى الشبابية في حراكاتها المتعددة، قبل أن يتصل بالدعم السريع على رهان محدد -كما يقول- هو تقديم مشروع سياسي لقائد الدعم السريع قوامه المكاشفة والمصالحة لطي الحرب الأهلية في السودان. سجل بعد خروجه مقالات ناقدة حول سجل الانتهاكات التي مارستها قوى عنف الدولة، وتعرية طرائقها في صنع المليشيات. يخص الدعم السريع بمساحة خاصة في نقده بما يمتلك من معلومات وما ترده من تقارير موثقة. يرى منتصر أن العد التنازلي لتحلل الدعم السريع قد بدأ، ولن ينقذه من هذا المصير إلا مجهودات جبارة من حميدتي وقيادته بنفسه لجنوده المنتشرين على مساحات واسعة من السودان.
تواصل "الترا سودان" معه في سياق اكتناه أبعاد ورهانات حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل 2023، التي توسعت نطاقاتها، وتكثفت ظلالها السياسية والاجتماعية، وتفاقمت أزماتها الإنسانية، ودفعت بجملة من الأسئلة الحارقة حول سرديات المعركة، ومرادات الدعم السريع، ومصالحه ومصائره، والاتهامات المتواترة له بارتكاب فظائع وانتهاكات مريعة في الجزيرة ودارفور، وغيرها من الأسئلة والمحاور؛ فإلى مضابط الحوار.
- اندلعت حرب الخامس عشر من نيسان/أبريل في عمق المركز، لا كسائر الحروب الناشئة في الأطراف، وبين الجيش وقوته الساندة، لا بين الجيش وحركات الكفاح المسلح. إلى ماذا تعزى هذه المفارقة؟ أيصح أن يُرى فيها منحى تأسيسي، كما طفقت تردد بعض الأقلام والألسن، أم هي محض نزاع سلطوي بين جنرالين؟
- أعتقد أن حرب 15 أبريل ليست مفارقة كليًا، فالمفارقة هي الحدث والفعل خارج السياق الزماني والمكاني للأحداث ومجريات الأمور؛ وبما أن السياق التاريخي للأحداث في السودان هو سياق حروب واضطرابات، تكون الخرطوم بالضرورة في قلب الأحداث الكبرى المتصلة بهذه الاضطرابات. خذ على سبيل المثال الأحداث التي جرت في الخرطوم، وانظر إليها بعدسة مكبرة: 1971-1976-1985-1989-2008، فالانقلابات العسكرية تمثل أحد وجوه "الدولة المضطربة". لذلك، جاءت حرب 15 نيسان/أبريل بوصفها نتيجة طبيعية ومحصلة لتراكم تصدير الحروب إلى الأطراف، أو انفتاحها نحو الخرطوم؛ وبالتالي، كان الوصول إلى هذه المحطة مسألة وقت. لكن، لأن الناس في غفلة عن التركة التاريخية التي خلفتها حروب الأطراف وأدوار الفاعلين فيها "حلفاء الأمس أعداء اليوم"، يتم النظر إليها كمفارقة. في الحقيقة، هي ليست كذلك، لأن أبسط دروس السياسة والتاريخ تكشفان حتمية هذا الانهيار. واعتبارها مفارقة يعد فشلًا في مادتي السياسة والتاريخ، التي كانت تدلل عليها مجريات الأمور في البلاد بشكل يومي وحالة التحلل في البنية الكلية للدولة المختلف حولها؛ أضف إلى ذلك مشهد جغرافيا المركز الإداري للدولة حيث نجدها محاطة بحزام الفقر من طردونا وجبرونا وأنقولا ورأس الشيطان، والخرطوم رسميًا كانت محتشدة بفصائل مسلحة متحفزة. الواجب كان يقتضي أن تجري عملية ترتيبات أمنية وإصلاح عسكري، بحيث يتم طي صفحة الصراع المسلح بإخلاص وجدية. بدلًا من ذلك، كان الانصراف عن أهم المهام بالمنافسة والصراع على السلطة بفوهات البنادق والانقلابات.
لهذا أرى أن في هذا المشهد -مشهد الفشل الجماعي في مادتي السياسة والتاريخ- تحللًا وهدمًا لبناء قديم، وليس تأسيسًا لشيء؛ تحدي التأسيس لم تدركه الصفوة السياسية، مدنيون وعساكر، بعد.. ليس بعد!
- لم تشهد أطوار الانتقال في السودان نزاعات عنيفة، رغم أن الراحل جون قرنق أطلق على حكم سوار الذهب الانتقالي 1985: "مايو 2"، ولم يستجب لنداءات السلام الصادرة عنه. ورغم ذلك، قامت الحرب الراهنة في طور انتقالي معقد شهد انقلابًا من الداخل على الطرف المدني، وانتهى إلى صراع قوى عنف الدولة بين مكونات المنظومة الأمنية على نحو ما رأينا. هل تناقضات الانقلاب هي من أنتجت الحرب، أم تناقضات طور الانتقال برمته، أم تناقضات المنظومة الأمنية نفسها؟
- صحيح أن بنية السلطة في الثورة كانت تمثل أعلى درجات التناقض، لدرجة القول إنها كانت تحمل بذرة فنائها في داخلها من كثرة التحولات الانقلابية فيها منذ اللحظة الأولى للإطاحة بالبشير؛ وذلك لأن الشرعية القانونية للمؤسسات العسكرية جاءت من احتكارها كل طرف للقوة، وليس عبر الاحتكام للمؤسسية. لذلك، كانت السلطة منافسة منذ البداية بين أعضاء اللجنة الأمنية.
المستشار السابق بالدعم السريع: هذه الحرب عرض لمرض قديم استوطن جسد الدولة في السودان، كما أسلفتُ الإشارة وتوصيفها بأكثر من مصطلح؛ مرة بالدولة المضطربة، ومرة بالدولة الفاشلة
أما بخصوص مسألة العنف في الفترات الانتقالية، اسمح لي بالاختلاف معك قليلًا في فرضية أن أطوار الانتقال في السودان لم تشهد نزاعات عنيفة؛ أرى أن السودان في كل مسيرة وجوده يعد حالة انتقالية مضطربة، تشوبها العنف، وتتزايد تعقيدًا كل يوم بطارئ جديد، أو عبر انتقالات مجهضة، ولم تشهد استقرارًا نموذجيًا. وحتى لحظة انهياره الراهنة كانت نذر هذه الحرب واضحة. بالإضافة إلى ذلك، فإن أبرز التحديات التي واجهتها الفترة الانتقالية كانت أعمق أثرًا من الانقلاب ذاته، إذ تمثلت في الصراعات الأهلية العنيفة في غالب الولايات، من شرق السودان والنيل الأزرق، وجنوب كردفان، وجنوب دارفور، وغرب دارفور، وشمال دارفور، وقد خلفت مئات القتلى. هي أحداث أعمق أثرًا من الانقلاب، لأنها تضرب مباشرة في التماسك الوطني، مخلفة الثأرات والتفتت الاجتماعي وسباق التسلح؛ بينما الانقلاب عبارة عن ترجمة لصراع الصفوة، عسكرية أو مدنية، على السلطة؛ فما من انقلاب أو ثورة إلا كانت الصراعات الأهلية العنيفة تمثل صورة خلفية لها.
- فور اشتعال الحرب، انخرطت القوى السياسية في دمغ نقيضها بإشعال الحرب؛ فرأى الإسلاميون أن قوى الإطاري هم من أشعل الحرب، ورأت قوى الحرية والتغيير أن الإسلاميين وحلفاءهم هم من أشعلوها. نشأت سرديات متباينة؛ فكيف نهتدي إلى الرواية الصحيحة في دواعي الحرب قبل أن نبحث في تداعياتها؟
- من ضيق أفق هذه الصفوة، أو "العُكارة" بوصف منصور خالد، نشبت الحرب؛ لأنها ضيقت الواسع. وعندما استحكمت حلقاتها، طفقوا في كيل التلاوم والمزايدة على بعضهم كعادتهم، حيث لا يجدي ولا ينفع؛ إذ كان من باب أولى أن يجري البحث عن صيغة تُسكت البنادق وتبعدها عن ميدان التنافس السياسي، لأن درس التاريخ يجب أن نتعلم منه أن البندقية لا توفر ظلًا لحكم أو سلطة، بينما يستظل أصحاب البنادق ويمارسون حرفتهم في الفجوة بين المزايدين من المدنيين سواء كانوا إسلاميين أو ديمقراطيين.
- ماذا يريد الدعم السريع من حربه على الجيش؟ وماذا يقصد من انتشاره العسكري تحت عنوان ما وصف بـ"تقدم ميداني وخسائر أخلاقية" لازمت إدارته للمعارك؟
- كما أسلفتُ الإشارة إلى طبيعة البنية المضطربة للدولة في السودان، فإنه يجب ألا نغفل السمة المعقدة للحرب، والتمييز بين "الدوافع المباشرة والأسباب التاريخية المزمنة للحرب" حسب تعبير منصور خالد. الدعم السريع يمثل الاثنين معًا؛ أي لديه دوافع مباشرة، وفي الوقت نفسه يجسد الأسباب التاريخية المزمنة للحرب. من ناحية الدوافع المباشرة، يريد أن يكون رائد أعمال في سوق السلطة كالآخرين، وقد تمكن من تحقيق نجاحات وصعود عبر هذا السلم، استطاع من خلالها إعادة تقديم نفسه بـ"براند" أو ماركة جديدة. قد يُحسب هذا التطور في الاتجاه الإيجابي، لكن لأن الوضعية كلها مختلة، كان لا بد أن تظهر التشوهات والاختلالات التي قادت إلى الصدام الحالي.
أما الأسباب التاريخية المزمنة، فتتمثل في تحصيل دين قديم كان لابد أن تدفعه المؤسسة العسكرية والدولة بشرعنتها للمليشيات القبلية دون الانتباه إلى أثرها على المدى الطويل، والتفكك الوطني الذي حدث بسبب تلك الممارسات.
- كيف ترى الخطاب المنتشر في ثنايا الحرب حول القضاء على دولة 56؟ وهل في مقدوره أن يعطي تفسيرات حول ما جرى في الجنينة وما يجري حاليًا في الفاشر وبعض النقاط الملتهبة في فضاء الهامش؟
- دولة 56 حقيقة ومعطى تاريخي لا يمكن تجاوزه كمعضلة، وهي من مظاهر العجز عن الانتقال من بنية دولة ما بعد الاستعمار إلى الدولة الوطنية التي تعالج الاختلالات المسببة للاضطرابات. وفي داخل هذه البنية كانت هناك دولة "الجنجويد" التي تم التمكين لها منذ بواكير انقلاب الإنقاذ كظهير موالٍ اجتماعيًا وعسكريًا بدلًا من مجموعات مناوئة لا تتناسب مع توجهات المشروع الحضاري، حيث ابتدأ التمكين في دارفور لمجموعات سكانية ضد أخرى بالأعمال الوحشية والعنف والتهجير القسري والاستيطان. نشأت منظومة الجنجويد من الفرسان ومؤسسات الدفاع الشعبي، وتم إعادة تقسيم إقليم دارفور لتحويل مجموعات سكانية بعينها من خانة الأغلبية لتصبح أقلية. وكان احتكار العنف لمليشيات الجنجويد، التي تزايد نفوذها السياسي وتمكينها الاقتصادي بالسيطرة على الأرض والموارد، يؤشر أن طموحها لن يقف عند هذا الحد؛ لكونها لم تكلف نفسها عناء معالجة تركتها في بداية صعودها. يجعلنا هذا الواقع نفترض أن الشهية قد انفتحت نحو ابتلاع أو أن تكون بديلًا عن "دولة 56" وليس الإطاحة بها كما تزعم الدعاية المساندة لحرب الدعم السريع.
- لنفهم ما يجري؛ هل المقصود هو تفكيك الدولة وتجزئتها وضرب مقومات وحدتها الاجتماعية والسياسية والثقافية والوجدانية، أم أن المقصود هو استنزاف جيشها وإعادة هندسة قواها الصلبة ومنظومتها العسكرية؟ هل هذا آخر عهدنا بصورة سودان ما بعد 2011؟ هل يمكن أن تنشأ أكثر من دولة بفعل الحرب الدائرة، وما هي فرص استقرارها واستمرارها وآثارها على المحيط الإقليمي؟
- هذه الحرب عرض لمرض قديم استوطن جسد الدولة في السودان، كما أسلفتُ الإشارة وتوصيفها بأكثر من مصطلح؛ مرة بالدولة المضطربة، ومرة بالدولة الفاشلة. والتشوه الذي حدث بعد 2011 يكشف حجم المأزق والعجز عن الخروج من الحلقة المفرغة. لنفترض أن كل ما ذكر صحيح، لأن ما حدث ويستمر أكبر وأخطر من أي ما يمكن توقعه، وما حدث من كوارث كانت متوقعة وتم التحذير منها، ولكن رغم ذلك يتم التمادي في ذات الممارسات والتصلب في ذات المواقف إلى أن يقع الفأس في الرأس، فنستغرق في البحث عن تفسيرات وتكون مادة للتحليلات ورسم السيناريوهات... إلخ. أرى أن يكون شاغلنا الآن هو كيف نحدث القطيعة الفكرية في اتجاه استيعاب هذا المأزق بشكل كلي وشامل من الماضي والحاضر والمستقبل. فالدعم السريع ليس ظاهرة حديثة الظهور في هذا التشوه، وما يمكن أن يحدث بسببه لا ينفصل عما فعله، فهل نترك كل ذلك ونستغرق في رمي النرد؟
- ما بين اعتماد الدعم السريع على عقيدة الفزع وارتكاز الجيش على التقاء جيوشه، لمن ستكون الغلبة في الميدان؟ سيما بعد استرداد الجيش لجبل موية وعبوره الجسور وتراجع ارتكازات قوات الدعم السريع في أكثر من موقع ببحري والخرطوم ووسط السودان؟
- أنا أنظر للجيش والدعم السريع من نفس الزاوية في طرائق عملهما وأساليب التحشيد، لكونهم وليدي تجربة قتالية واحدة. صحيح أن هناك بُعدًا اجتماعيًا ملموسًا وظاهرًا، ولكنهم في نهاية الأمر يعتمدون على ذات الزبائنية في ممارساتهم وسلوكهم السياسي والعسكري.
- على اتساع رقعة سيطرة الدعم السريع في أجزاء عزيزة من الغرب والوسط، إلا أنها عجزت عن تحويلها إلى نموذج، لا أقول جاذبًا، فربما يعد ذلك أفقًا بعيد المنال في ظل الظرف الراهن، وإنما إلى مجرد بيئات آمنة مطمئنة. كيف تفسر ذلك؟
- في تجارب الحرب الأهلية في السودان، نجد أنه لم تنجح تجارب التمرد في مسألة إدارة مناطق سيطرتها على نحو مدني، ما عدا الحركة الشعبية. طبعًا يرتبط هذا النجاح بالأفق النظري والفكري لقادة الحركة ولظروف تاريخية يطول شرحها هنا. ولكن الأهم هنا هو إدراك أن التمردات التقليدية كحالة الدعم السريع، الذي لا يزيد عن كونه انشقاق فصيل عسكري، فمن الصعب توقع أن يتم ضمان الحقوق لأن العملية كلها خروج على القانون السائد، وفي هذه الحالة لا تسود إلا الأعراف العسكرية وتقديرات القادة. ونظرًا للطبيعة المعقدة في تمرد الدعم السريع لكونها قوة شبه نظامية من نتائج سياسة الجيش في مكافحة التمرد (Counter Insurgency)، كان لا بد أن تكون محملة بذات التقاليد والممارسات المتبعة في حالتها النظامية الأولى والمشرعة بالقانون، حيث كان العسكري فيها يتمتع بالحصانة وعدم المساءلة، فما بالك الآن وهو متمرد على السلطة في أعلى مستوياتها وفي مواجهة كل مؤسساتها؟
- لم تُعلن قوات الدعم السريع حكومة أمر واقع في أماكن سيطرتها كما يفعل الجيش حاليًا. ما المانع؟ هل هو انتظار لتسوية منشودة؟ أم لتلكؤ حليفها؟ أم أن القوى الإقليمية والدولية لم تشأ أن تمضي الأمور إلى التجزئة؟
- هي غير مؤهلة لتلك المهمة وليس بمقدورها ذلك، ببساطة لأن المعركة في مرحلتها الأولى هي البحث عن شرعية، والشرعية في هذه الحالة -حالة التمرد- يتم اكتسابها بفرض القوة، والقوة فقط والقدرة على التدمير، ومن ثم الاتجاه للحلول التفاوضية بما يمكنها من الحصول على درجة من الشرعية. وحينها، ربما يتم التوجه لتأسيس سلطة مدنية جزئيًا، ولكن حتى الآن عجز الدعم السريع عن الانفتاح في هذا الاتجاه لسيادة نمط الزبائنية القبلية داخله، والتوجه نحو تمكين قوى اجتماعية محددة على حساب قوى أخرى.
- لماذا تحل الفوضى والانتهاكات حيثما حلت قوات الدعم السريع؟ هل يمكن أن يكون هذا رهانًا مقصودًا؟ أم أن قيادة الدعم السريع باتت عاجزة عن ضبط عناصرها؟ أم أن طبيعة هذه العناصر تنزع إلى الفوضى؟ أم ماذا؟
- الفوضى ظاهرة ملازمة للسلوك العسكري غير المنظم.
- ترى بعض الأصوات الثورية أن الدعم السريع بحكم نشأته وأطوار تشكّله لم يستطع أن يتحول من منظومة سلطة أراد بها البشير أن يستبقي حكمه لأطول وقت وأبعد مدى، بمعزل عن المنظومة الأمنية التقليدية وحزبه الحاكم، ثم قصد بها البرهان أن تظل امتدادًا لذات الدور في الحماية وإخماد مخاطر عودة قوى قديمة أو بروز أخرى قادمة. وهي في أحسن أحوالها لم تتحول إلى "مؤسسة دولة". وعلى الرغم من انخراطها في مشروعات تنموية مدفوعة بروافع اقتصادية معتبرة في فترة الانتقال، إلا أنها ارتكست إلى التورط في تدمير العمران على قلّته وضآلته. إلى ماذا تعزى هذه الظاهرة؟
- إنها فعل الحرب وقدرتها على التدمير. علينا التفكير في السبب بدلًا من التركيز على النتيجة.
- يرى عشاري محمود، المثقف المعروف الذي سطّر نقدًا لاذعًا فيما اعتبره جنوحًا للعنف البنيوي الذي كانت تمارسه الدولة السودانية عبر جيشها، أن الجيش قد استدار في حرب أبريل للقيام بإزالة أكبر تشوّه اعترى مسيرة الدولة. بينما يرى البعض أن الدعم السريع قام باستدارة مماثلة في سبيل إقرار الحقوق وجلب الديمقراطية. هل ثمة استدارة فيما تم من حرب مدمرة أم هي استقامة على خط عنفوان الدولة؟
- هي دوران في حلقة عنف، طالما أن احتكار القوة منافسة بين القوى العسكرية كما أُسلفت الإشارة، وكل ما يُقال لا يزيد عن كونه دعاية لتحسين الصورة من الجانبين عن المؤسسية والديمقراطية وما يجري عليهم من سنن الكون بدفع الدين عليهم؛ كما تُدان تُدان، هذا من باب التذكير. ومن ناحية أخرى، يجب الانتباه إلى المفاهيم المتنافسة للحرب الحالية ومدلولاتها على الأصعدة المحلية والوطنية. ثانياً، صعود المليشيات القبلية باعتبارها امتداداً لذراع الدولة القمعي، وبالتالي إضعاف احتكار الدولة لاستخدام العنف. ثالثاً، أثر كل ذلك على عملية الاندماج الوطني في السودان.
أضف إلى ذلك أن دوران السودان في حلقة الحرب الأهلية ليس بجديد، ولكن هذه المرة أخذت صفة السيادة باسمها ورسمها، حرب "مجلس السيادة". أعتقد أن هذا هو التوصيف الدقيق للحرب الدائرة بوصفها حربًا مدنية أو أهلية؛ فالحرب الأهلية هي تلك الحرب التي تدور داخل دولة واحدة تتنازع فيها إرادات مختلفة سياسية واجتماعية لتغيير النظام أو السيطرة على الدولة؛ بما في ذلك الانقلابات العسكرية نفسها، فهي شكل من أشكال الحرب أو قد تفضي إلى حرب أهلية. والآن، في مصادفة جديرة بالملاحظة والتحليل، كانت الحرب في 15 نيسان/أبريل بين طرفين في مجلس السيادة؛ وكأنما التاريخ يمد لسانه ساخرًا من نجاحه في تكوير كرة الثلج من تراكم تنازع السيادة داخل الدولة على مرّ الحقب -مرة بالحروب والاضطرابات ومرة بالانقلابات والثورات- إلى أن وصل الأمر بإعلان الحرب بين أطراف داخل مجلس السيادة باسمها ورسمها.
- كيف ترى انخراط الفاعلين الثوريين في القتال إلى جانب القوات المسلحة التي كانت -حتى وقت قريب- تنازع قيادتها سلطة مدنية كاملة، وتدعوها إلى الرجوع لوظيفتها الرئيسة المتعلقة بحماية الثغور، والامتثال إلى موجبات الدولة الحديثة مع دمج شتات الأسلحة والحركات في "جيش قومي" موحد، مهني، محترف، وحديث؟
- إنها الحرب وقدرتها على تعبئة القدرات واستقطابها، وإعادة تعريف المفاهيم؛ فكما يُقال، الحرب قابلة للتاريخ، أي أنها تمتلك القدرة على توليد تواريخ جديدة لكل الأشياء، بما فيها توليف المفاهيم المتعارضة.
- كيف تفسّر خروج كثير من المستشارين عن مؤسسة الدعم السريع مثل فارس النور ويوسف عزت؟ كيف تقرأ هذا الأمر على ضوء تجربتك السابقة؟ أهو بسبب تضاؤل الشأن السياسي في مقابل تضخم الأجندة العسكرية؟ أم ماذا؟
- المؤسسات السلطوية وسيطرة نموذج الرجل الواحد غالبًا ما تصل بالمدني الذي يدور في حلقتها كمستشار أو خبير إلى طريق مسدود أو حالة من فقدان الشجاعة الأخلاقية، وهي حالة يصعب احتمالها. ربما هي التي قادت من ذكرتهم إلى تخليص أنفسهم بالاستقالة، خاصة إذا كانت المؤسسة السلطوية لا تملك مشروعاً واضح المعالم، بل فقط أمير حرب محاط ببطانة من الحراس الشخصيين. فهذه ليست بيئة يمكن أن يعيش فيها مستشار صاحب حكمة أو رأي يمكن أن يسدي النصح أو فكرة مبتكرة.
- كيف ترى وضعية الدعم السريع في أي مقاربة قادمة للحل؟ هل سيعود في المستقبل بكامل امتيازاته ومكتسباته التي راكمها منذ آخر عهود النظام السابق وحتى الآن؟ وكيف له أن يتنازل عمّا حصل عليه بدماء عزيزة من أبنائه؟ وبين هذا وذاك، كيف يمكن لنا أن نخرج من هذه الورطة؟
- أخشى أن ينتهي الأمر بمشهد تفسّخ وانحلال لا يبقي على أي مكاسب. ففي ظل فقدان الدعم السريع للقيادة المسؤولة والقدرات الإدارية في الضبط، سينتهي الأمر إلى تفسّخ قوته العسكرية إلى فوضى واسعة؛ وفي ظل ضعف الجيش الذي يراهن على سيناريو التفسخ، ستطول الأزمة وتأخذ أشكالًا عدة سمتها الجريمة المنظمة والتطبيع مع العنف.
منتصر إبراهيم: عجزنا عن إنجاح فترات الانتقال المهمة في تاريخنا يُعتبر حالة عجز كامنة في العقل السياسي السوداني وعنوان إخفاق تاريخي، يستلزم مجابهته بصرامة فكرية تضع مفاهيم الحوار والمصالحة في موقع مركزي في التفكير والفعل السياسي
للخروج من هذه الورطة، تبرز ضرورة تأسيس منهجية جديدة كليًا للنقاش السياسي، بوضع حالتنا التاريخية كلها على منصة التشريح بالتحليل الدقيق والنقد البنّاء، بغرض إحداث قطيعة تاريخية مع حالة العجز المزمنة التي نرزح تحتها على امتداد الحقب دون أن نستقي العبر والدروس، خصوصًا الموقف من الحرب والعنف كوسيلة للتعبير السياسي. فعجزنا عن إنجاح فترات الانتقال المهمة في تاريخنا يُعتبر حالة عجز كامنة في العقل السياسي السوداني وعنوان إخفاق تاريخي، يستلزم مجابهته بصرامة فكرية تضع مفاهيم الحوار والمصالحة في موقع مركزي في التفكير والفعل السياسي، كركائز أساسية لاستراتيجية قيادة التغيير وعملية التحول والانتقال. يجب أن تتضافر جهود الجميع وعلى نحو متكافئ بغية تحقيق الطموحات الوطنية التي ارتسمت في وجدان غالبية الشعب، للنهوض من شفا الانهيار. ولتحقيق هذه الطموحات، يتطلب إرساء علاقات حكم متوازنة وآليات للحكم والإدارة والقبول الاجتماعي.