للحرب الراهنة جذورها التاريخية وهي صراع سلطة وثروة بامتياز.
لحميدتي طموح سلطوي لا يخفى على ذي بصيرة وقد بزغ وعيه السياسي منذ 2007م متمردًا على الإنقاذ.
لمشروع حميدتي روافع خارجية بدأت بعلاقته مع الاتحاد الأوروبي ثم المحور الخليجي وفاغنر الروسية وعلاقته المميزة مع الموساد الإسرائيلي.
ركّز حميدتي على امتلاك أسلحة موازية للجيش أو تحييد الأسلحة التي يتفوق بها الجيش.
كل قرائن الأحوال والشهادات تؤكد أن حميدتي أراد الحرب لبلوغ موقع الرجل الأول.
بدا حميدتي - أول الأمر - متعنتًا وأرسل قواته لمروي ثلاث مرات إمعانًا في تصعيد الموقف وتعقيده.
غلّب الجيش الدفاع على الهجوم واكتفى ببناء الأسوار وزيادة التحصينات.
سردية "الفلول" استثمار في كراهية النظام السابق واستدرار عطف الشعب السوداني.
الإسلاميون خلقوا بيئة سياسية هشة ومزقوا النسيج الاجتماعي وسلحوا الهويات وصنعوا المليشيات وضربوا منطق الدولة.
الإمارات دعمت حميدتي ومصر دعمها للجيش سياسي وإنساني.
الاتفاق الإطاري عمّق الاستقطاب ولم ينتجه .. وورشة الإصلاح الأمني قدحت شرارة الحرب.
قام الإتفاق الإطاري على أسس غير موضوعية فضم قوى منخرطة في انقلاب 25 تشرين الأول\أكتوبر واستثنى أخرى بذات الحجة.
العلاقة بين الدعم السريع وتقدم قائمة على التحالف وليس الحياد.
الناطقون الرسميون بتقدم ساندوا سردية الدعم السريع وأنكروا انتهاكاته.
بكري الجاك قال أنهم أسهموا في إثناء مصر عن تسليح الجيش بينما لم يشأ حمدوك أن يمارس مجرد نصح للإمارات بإيقاف دعمها لحميدتي.
الدور الإثيوبي يُقرأ في إطار علاقته المميزة مع الإمارات والإيقاد لعبت دورًا سالبًا.
موقف الولايات المتحدة أقرب إلى الدعم السريع ولم يزعجها تقارب حميدتي مع الروس وفاغنر.
استبعد أن يكون لأوكرانيا حضور عسكري في دعم الجيش.
هناك أمر غامض في زيارة أبي أحمد لبورتسودان .. وسلوك قيادة الجيش يعد مبهمًا لكثير من المراقبين.
ظلت بنية الجيش وضباطه المحترفون - بمعزل عن قيادته - في رفض دائم لتمكين الدعم السريع.
توظيف السردية التاريخية المهدية في الحرب الراهنة به تكلف وافتئات.
الثورة المهدية حالة سودانية شاملة وضد مستعمر أجنبي .. ومشروع الدعم السريع ينحصر في أطر اجتماعية ضيقة ورهانات سلطوية.
لا يمكن قياس انتهاكات الدعم السريع إلى حوادث معزولة وفردية مارسها جنود الجهادية في سياق المهدية.
حزب الأمة بريء من تجييش السياسة وتمليش القبائل .. والإمام الصادق أول من عارض الدعم السريع.
أعول على حكمة التعافي المجتمعي وثقافة الإسماح والتجاوز والمسامحة والمصالحة.
لا بديل لبناء جيش وطني واحد يحقق العدالة والكفاءة المؤسسية وينأى عن السياسة ويحافظ على الدولة والدستور.
أميركا لم تكن متحمسة لمنبر جدة ولم تشأ للجيش أن يذهب إلى سويسرا.
أخطأ الجيش بتعهده بفتح المعابر دون الذهاب إلى سويسرا وعرض قضيته .. والحالة الإنسانية مزرية وتستدعي تدخلًا عاجلًا.
دكتور عبد الرحمن الغالي، قيادي بارز بحزب الأمة، تخرج في كلية الطب والجراحة بجامعة الخرطوم، وتدرج في مراقي الحزب وهيئة شؤون الأنصار. توزعت أدواره بين ما هو تنفيذي، وما هو سياسي، وما هو بحثي. شغل مقرر مجلس التنسيق الأعلى (المجلس القيادي) ونائب الأمين العام حتى بلغ موقع الأمين العام المكلف (2008-2009). مر خلال مسيرته تلك بأمانة الشؤون الخارجية ورئاسة قطاع البحوث بالحزب، ومجلس أهل الحل والعقد بشؤون الأنصار. وصحب الإمام الصادق المهدي حينًا من الوقت، حارب الإنقاذ وحاورها، وكانت لديه أدوار وازنة في ربط الداخل بالخارج في سنوات المعارضة الأولى، تعرض بموجبها للاعتقال أكثر من مرة.
جمع دكتور عبد الرحمن إلى استقامته ونزاهته وحسن انتمائه للحزب روحًا نقدية وعقلًا مفتوحًا، وتجاوز مؤخرًا ممارسة السياسة من باب التفكير لها إلى التفكير فيها، فنشط في تقديم مقاربات مستبصرة في ثنايا الحرب الراهنة واستجلاء رهاناتها المضمرة
جمع دكتور عبد الرحمن إلى استقامته ونزاهته وحسن انتمائه للحزب روحًا نقدية وعقلًا مفتوحًا، وتجاوز مؤخرًا ممارسة السياسة من باب التفكير لها إلى التفكير فيها، فنشط في تقديم مقاربات مستبصرة في ثنايا الحرب الراهنة واستجلاء رهاناتها المضمرة. فلم تحجبه انحيازاته للحزب عن إعلان رؤيته للحرب، وسردياتها، وأطرافها، ودوافعها الحقيقية، وتحليل البيئة السياسية الداخلية والبيئة الإقليمية والدولية، والفاعلين الرئيسيين والثانويين، والتناقضات الرئيسة بالمشهد السياسي. ذهبنا إليه في مقر إقامته مرتين، فاستقبلنا بحفاوة سودانية وكرم أنصاري. وتجاوز جوده المعروف إلى جوده المعرفي تحليلًا واكتناهًا وسبرًا في أغوار المشهد ومن خلال تضاعيفه، جامعًا بين الضبط والتدقيق والرصد العميق للمواقف وجامحًا في الاستقراء المنهجي لمدلولات الأحداث وظلالها وملاحقة تداعياتها بدقة الباحث وعمق المحلل وخبرة السياسي الفاعل والعامل. فخرجنا منه بحوار مطول وشامل لكافة جوانب الحرب، فإلى تفاصيله ومضابطه.
- كيف نفهم حرب أبريل بعيدًا عن سردياتها؟ كيف نمسك بدوافعها الحقيقية؟ أهي حرب أشعلتها تناقضات ما بعد انقلاب 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021؟ أهو انقلاب الدعم السريع لفرض شروطه إزاء الدمج كما قال فولكر بيرتس؟ أم هي فتنة "فلول" النظام السابق لاسترداد سلطتهم من جديد؟ أهي حرب المكون العسكري وتناقضاته المتفجرة بموجب انقلاب 25 أكتوبر أم بموجب الاتفاق الإطاري؟
- للحرب جذورها وخلفياتها عبر التاريخ التي تخرج بسبب تصاعد الأحداث وسياقاتها من حالة الكمون إلى حيز الفعل. وقد حدث مؤخرًا ملمح مهم انتقلت بموجبه الحرب من كونها حربًا بين الدول إلى حرب داخل الدول، وذلك بسبب ثلاثة عوامل رئيسة:
أ/ الشعور بعدم المشاركة في السلطة السياسية.
ب/ عدم المشاركة العادلة في الثروة القومية.
ج/ مسألة التهميش الثقافي.
وهذا الأمر حدث في السودان مقترنًا بقضية الجنوب ومعالجتها في إطار الأنظمة الوطنية المتعاقبة. غير أن متغيرًا مهمًا طرأ على البيئة السياسية بحلول نظام الثلاثين من حزيران/يونيو 1989، ومحاولاته الأيديولوجية للهيمنة على الدولة والمجتمع بما يسمى بـ"التمكين"، الذي أفرغ الدولة من مضامينها وعرضها لهشاشة بالغة، فكون النظام أجهزة موازية للأجهزة القائمة. ففي المجال الاقتصادي، كون مؤسسات الخصخصة بموازاة القطاع العام، وفي المجال العسكري صنع الدفاع الشعبي والمجموعات المقاتلة خارج الجيش. وفي الشرطة صنع الشرطة الشعبية. وفي القطاع الأمني صنع الأمن الشعبي، حتى غدت دولة موازية خاضعة للتنظيم الحاكم.
- مقاطعًا: هل أنتجت الإنقاذ هذه الأجهزة أم أنها كانت قائمة في سياق مؤسسات التنظيم، أعني فيما يتعلق بالأمن الشعبي تحديدًا؟
- بعض الأجهزة تم صنعها في سياق سلطة الانقلاب مثل الشرطة والدفاع الشعبي ومؤسسات القطاع الخاص، والمؤتمر الشعبي العربي والإسلامي، ومؤسسات الدبلوماسية الشعبية في الإطار الخارجي. أما الأمن الشعبي فقد كان قائمًا في عمق تنظيم الإسلاميين. وما أعنيه هنا أن الأجهزة صممت لتتماهى مع المشروع الأيديولوجي الذي أسهم، ضمن تفاعلات وسياقات لا داعي لتفصيلها، في اهتراء النسيج الاجتماعي، علاوة على ما حدث من ضعف اقتصادي على نطاق مؤسسات الدولة القومية المدنية والعسكرية. حاول النظام أن يستدرك ما يمكن استدراكه للحفاظ على بنيته، فقام بتغيير المحور الإقليمي من التحالف مع إيران إلى الخليج، وانخرط في التحالف العربي عبر عاصفة الحزم. كل ذلك انعكس على تدخل المحور الإقليمي الخليجي في الشأن السوداني.
أتت الثورة السودانية في سياق حرج، وأنتجت واقعًا معقدًا فيه شراكة عسكرية مدنية قلقة، في ظل اكتناف البيئة السياسية بتناقضات عميقة في عمق التركيبة الثورية وانقسامها الحاد ما بين التغيير الجذري والهبوط الناعم. وسارت الأمور بتعثر بالغ حتى قام انقلاب مضاد من المكون العسكري في الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر.
- مقاطعًا: هل أتى الانقلاب بسبب فشل المدنيين أم كنتيجة للطموح السلطوي لقادة المكون العسكري؟
- الانقلاب هدفه المباشر كان لتكريس قيادة المكون العسكري لطور الانتقال والانفراد بالسلطة بعيدًا عن مشاغبات القوى المدنية.
- مقاطعًا: وماذا عن الدعم السريع؟
- من الواضح أن الدعم السريع كان لديه طموح سلطوي لا يخفى على ذي بصيرة. وقد أشرت في بحث أعده للنشر إلى بزوغ الوعي السياسي الباكر لحميدتي بعد توقيع الحكومة السودانية لاتفاقية أبوجا مع مني أركو مناوي في العام 2007، وشعوره هو ومجموعته المقاتلة بأن الحكومة قد تخلت عنهم، مما جعله يتمرد ويؤسس حركة أسماها الوعد الصادق، حتى تم استرضاؤه على نهج الإنقاذ المميز في بذل المكرمات وتم تحقيق مطالبه بمنحه ترقيات عسكرية وإعطاء عشيرته نظارات في مناطق معينة. هذه اللحظة، بحسب تقديري، تفتق فيها وعي حميدتي السياسي وخرج من كونه مجرد قائد عسكري يقاتل ضمن رهانات وأهداف محددة إلى سياسي يتوسل البندقية طريقًا لتحقيق أهدافه.
عبدالرحمن الغالي: مع مجيء ثورة ديسمبر، برز حميدتي كقوة حقيقية تم الرهان عليها من أطراف متعددة، وقد ارتكز جنوب المدرعات في الأيام الأولى للاعتصام وكاد أن يشتبك مع قوات الجيش
ومع مجيء ثورة ديسمبر، برز حميدتي كقوة حقيقية تم الرهان عليها من أطراف متعددة، وقد ارتكز جنوب المدرعات في الأيام الأولى للاعتصام وكاد أن يشتبك مع قوات الجيش. وبإزاء الحديث حول النزوع السلطوي لقائد الدعم السريع، لابد أن أشير إلى تقرير مهم صدر في كانون الثاني/ يناير 2020 من لجنة الخبراء بالأمم المتحدة ذكر بالحرف أن حميدتي اجتمع مع قادة الحركات المسلحة الموقعة على سلام جوبا وذكر لهم أنه لا بد من التحالف لأخذ السلطة من النخبة النيلية المسيطرة، والتي أطلق عليها وصف (الجلابة).
عندما ترى سلوك حميدتي السياسي والعسكري، سيتبين لك تطلعه للسلطة منذ وقت باكر. فمن الناحية السياسية، صنع الدعم السريع علاقات خارجية منذ 2014 مع الاتحاد الأوروبي ضمن عملية الخرطوم لمكافحة الهجرة غير الشرعية (Khartoum Process) التي لم توفر له العلاقات فقط وإنما وفرت له التمويل كذلك. وفي 2015، وثق علاقاته مع المحور الخليجي ضمن مشروع عاصفة الحزم فيما يتخطى الدولة إلى صنع جسر مباشر مع القيادات الخليجية، فضلًا عن علاقته المباشرة مع فاغنر الروسية. ليس هذا فحسب، فحين ذهب البرهان لتطبيع العلاقة مع إسرائيل، ذهب حميدتي لصنع علاقة مباشرة مع الكيان الإسرائيلي وتحديدًا مع جهاز الموساد الإسرائيلي. هذا على مستوى المجال الدبلوماسي.
في المجال السياسي المباشر، صعد حميدتي إلى موقع نائب المجلس العسكري قبل توقيع الوثيقة الدستورية، ثم أصبح نائب رئيس المجلس السيادي، ثم رئيس اللجنة الاقتصادية، ثم رئيس وفد التفاوض الذي أنجز سلام جوبا مع الحركات المسلحة.
أما الدعم السريع بوصفه مؤسسة، فهو يملك اقتصادًا منفصلًا بسبب ريع ذهب جبل عامر واستثماراته الأخرى، ولديه كذلك مفوضية أراضي منفصلة ونيابات خاصة، حتى كاد أن يحقق الوصف الشهير بأنه كوّن دولة داخل الدولة.
- وماذا عن السلوك العسكري؟
- فمن الواضح عند تحليل السلوك العسكري للدعم السريع أنه يقف على النقيض من القوات المسلحة ويختصمها بوصفها عدوه الأول، مع أن وظيفته الأساسية دعم الجيش. ولهذا سعى لامتلاك أجهزة موازية للجيش أو تحييد الأجهزة التي يتفوق بها الجيش. السعي لأسلحة موازية للجيش يتمثل في سلاح المدرعات ومن ذلك استيلاؤه على المدرعات التي سلمها له البشير في خضم عملية جمع السلاح، وكذلك استحواذه على مدرعات جهاز الأمن والمخابرات الوطني بعد حل هيئة عملياته، فضلًا عن تحصله على مدرعات اماراتية. وتحصل دقلو على مضادات للدروع في سياق تحييد الأسلحة التي يتفوق بها الجيش. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المناورات التي جرت في المعاقيل قبيل الحرب بنحو أربعة أشهر، ولم تعد بموجبها المدرعات إلى مكانها المعلوم، وإنما ذُهب بها إلى الباقير واستولى عليها الدعم السريع في أول يوم في الحرب.
أما على مستوى سلاح الطيران وهو السلاح الذي يتفوق به الجيش على نحو مطلق، فقد تحصل الدعم السريع على أماكن مقربة من المطارات لإمكانية تحييد سلاح الطيران، فضلًا عن حصوله على مضادات للطيران ومسيرات. وسعى إلى استئجار مناطق مقربة من المطارات مثل النادي الكاثوليكي واستئجاره لقطعة أرض في مروي ليكون قريبًا من مطار مروي، وسعى كذلك لتدريب طيارين. لم يدخر حميدتي جهدًا في محاولة إبطال مفعول سلاح الطيران .
وعندما نحلل العلاقات الدبلوماسية والسياسية والاستقلال الاقتصادي والمناجزة العسكرية لمؤسسة الجيش ومحاولة تحييد مواطن تفوقها يتبين أنه أراد أن يبلغ الرجل الأول في الدولة بلا منازع، وهذا أمر يعلمه كل متابع للمرحلة الانتقالية في ظل توسع نفوذه ونسجه لتحالفات مع القطاع التقليدي والقوى الاجتماعية. هناك تقرير جديد في كانون الثاني/يناير 2024 من مجلس الأمن ذكر أن حميدتي توسع في التجنيد واستعان بالقبائل وأدخل أسلحة وعربات قتالية إلى قلب الخرطوم، واستأجر المدينة الرياضية لتكون نقطة انطلاق مركزية في الحرب الحالية، واشترى قطعة أرض بالقرب من مطار مروي، كما حوّل مبلغ 50 مليون دولار من بنك السودان إلى بنك الخليج. وذكر التقرير أن هذه الأموال استخدمت في توفير الوقود والمسائل اللوجستية.
- هذا على مستوى قرائن الحال.. هل ثمة أدلة موضوعية على أن الدعم السريع كان مصرًا على الحرب؟
- هناك شهادات مهمة في سياق الأزمة الأخيرة، منها شهادة مني أركو مناوي وشهادة خالد عمر يوسف في الرد عليه، وهناك شهادة مهمة لدبلوماسي غربي استنطقته جريدة الشرق الأوسط. وقد أجمعت هذه الشهادات على أن حميدتي كان مستعصمًا بالرفض والممانعة في عقد حوار مع الجيش لتجاوز الخلافات، حيث جلس مرة واحدة يوم 8 نيسان/أبريل 2023 ثم رفض أن يجلس للحوار مرة أخرى، في مقابل أن البرهان لم يمانع في الجلوس إليه واشتراطه فقط إنهاء تمرده وخروجه من مروي.
- متى أحسست كسياسي وفاعل وباحث محلل بدنو ميقات الحرب؟
- إرهاصات الحرب بدأت مع فشل ورشة الإصلاح الأمني والعسكري، وفي رأيي أن الاتفاق الإطاري لم يصنع المشكلة ابتداءً وإنما أتى نتيجة مباشرة للنزاع القائم بين الجيش والدعم السريع، بما شكّل من نقطة اصطفاف للصراع القائم بين أجهزة عنف الدولة. فقد سعى كل من البرهان وحميدتي لصنع تحالفات واصطفافات سياسية، حيث سعى حميدتي لعمل تحالف مع قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) وسعى البرهان إلى صنع تحالف مع الكتلة الديمقراطية والإسلاميين.
من الواضح أن القوى الصانعة للاتفاق الإطاري (المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأميركية) انحازت لقوى الحرية والتغيير بعد رفضها للقاء روتانا الذي نظمته الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإيقاد (الآلية الثلاثية) والذي كان سيجمعها مع القوى السياسية الأخرى. وكانت دعوة السفير الأميركي والسعودي في اليوم التالي التي استجابت لها الحرية والتغيير على الفور مختصرة على قوى بعينها ومستثنية لأخرى.
ليس ثمة شك في أن الاتفاق الإطاري عمّق الاستقطاب السياسي وقام على أسس غير موضوعية
ليس ثمة شك في أن الاتفاق الإطاري عمّق الاستقطاب السياسي وقام على أسس غير موضوعية مثل قبولهم بالحركات المسلحة التي دعمت انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر (الطاهر حجر والهادي إدريس) ورفضهم (جبريل ومناوي) مع أنهم على ذات الموقف. وقبلوا من كانوا مع النظام السابق مثل المؤتمر الشعبي ومحمد الحسن الميرغني (الاتحادي الأصل) ورفضوا آخرين كانوا مع النظام السابق (جعفر الميرغني) ومبارك الفاضل.
هذا التحالف السياسي القائم على الاستقطاب غير الموضوعي عمّق الخلاف القائم بين القوى العسكرية. وقد ذكر فولكر بيرتس في مقابلة إعلامية أن بعثته الأممية تم استبعادها في ثنايا الحوار القائم، ثم لاحقًا قبل أن يشارك حين أوكل إليه إدارة ورشة الإصلاح الأمني والعسكري. كذلك، أخرج الاتحاد الأفريقي بيانًا ذكر فيه استبعاده من الاجتماعات. لقد استأثرت قوى الرباعية (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات) بالأمر كله.
- ما هي نقطة الخلاف المركزية التي أشعلت الحرب في رأيك؟
- نقطة الخلاف هي رفض حميدتي دمج قواته في الجيش مبدأً، حيث ذكر أربع نقاط مركزية، هي:
أ/ أن شأن دمج القوات ليس شأنًا سياسيًا حتى يتدخل فيه أهل السياسة.
ب/ أن النماذج الواردة بخصوص الدمج لا تتناسب مع الدعم السريع كونه يمثل جيشًا نظاميًا وليس مليشيا.
ج/ لا يمكن أن يتم الدمج إلا في إطار إصلاح شامل للمؤسسات كلها، العسكرية والمدنية.
د/ لا بد من توافر بيئة قانونية شاملة لإتمام عملية الدمج (مجلس تشريعي).
وهذا نفس الذي ذكره فولكر عن أن استقرار البلد كان يحتم بناء جيش وطني واحد، وهو أمر رفضه حميدتي بشدة. وأحيل الناس إلى حواره مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية وحواره مع موقع اتحاد منظمات الأمم المتحدة في ألمانيا.
هذه القرائن والشهادات تتوافق مع سلوك حميدتي التصعيدي على الأرض، فكلما انطلقت وساطة ترنو إلى نزع فتيل النزاع، دفع حميدتي بقواته إلى مروي (يوم التاسع من نيسان/أبريل، ويوم 12 نيسان/أبريل، ويوم 14 نيسان/أبريل 2023).
الجيش من جهته، كان دائمًا متخذًا الجانب الدفاعي، حيث بنى سورًا حول القيادة وحصن مواقعه بها، ودرج على نقل طائراته كل مرة إلى الأبيض أو مطارات أخرى. ولو أراد الجيش الحرب، لبدأها باستهداف قيادات الدعم السريع، وليس بضرب المدينة الرياضية أو مركز التحكم والسيطرة والمعسكرات بصورة متزامنة. وكان سيوفر له عنصر المباغتة تقدمًا ملحوظًا في الحرب، بخلاف ما حدث من أن الجيش بدا منهارًا في البداية بعد فرض الدعم السريع سيطرته على مقر جهاز الأمن ومعهد الاستخبارات، حتى مهاجمة منزل البرهان في القيادة. وكل ذلك يشير إلى من الذي بدأ الهجوم. وهذا الكلام تم ذكره من مراكز دراسات مرموقة ومحايدة (مركز جامعة ييل الأميركية، ومركز الدراسات الدولية الإيطالي، ومجلس العلاقات الخارجية الأميركي).
هناك شهادة ذكرها قائد التدخل السريع الإفريقي، اسمه دكتور عثمان، قال إن هناك خطة معدة للقضاء على الجيش السوداني في 72 ساعة، وإن الجيش استطاع أن يمتص الضربة بحرفية. كل الدلائل والقرائن تشير إلى أن الحرب الحالية أشعلها الدعم السريع بغرض الحصول على السلطة والوصول إلى المركز الأول في الحكم.
- ومع ذلك، ثمة سردية لا تفتأ تردد أن الجيش هو من أشعل الحرب بإيعاز من الفلول لاسترداد حكمهم، وهي سردية مثابرة ومشهورة في سياق معركة الخطاب وخطاب المعركة.
- أولًا: ما المقصود بالفلول؟ إن كان المقصود مجموعات الإسلاميين فقد تفرقوا أيدي سبأ، فتنسيقية القوى المدنية الديمقراطية "تقدم" نفسها بها إسلاميون. أما إذا كان المقصود هو المؤتمر الوطني، فقد انقسم على نفسه، حيث إن الدعم السريع نفسه به قيادات نافذة سياسية وعسكرية من المؤتمر الوطني.
ثانيًا: إذا قصد الفلول الذين مع الجيش، فالشيء المنطقي أن يتم التنسيق مع قيادة الجيش والاتفاق معها على إدارة حرب يتم بموجبها التخلص من الدعم السريع واستعادة الحكم، وليس اجتراح حادثة معزولة لإشعال الحرب بدون علم الجيش. وهذا يخالف منطق الأمور وبدائه التفكير. فكيف لجهة سياسية أن تفكر على هذا النحو، دعك من جهة لديها تجربة وخبرة بالسياسة والحكم مهما كان الخلاف معها.
الدلائل على أن الجيش لم يكن يعلم بموضوع الحرب كثيرة، منها القبض على قادة كبار على رأسهم المفتش العام للجيش، ثم حادثة القبض على قادة معهد استخبارات الجيش صبيحة الحرب
الدلائل على أن الجيش لم يكن يعلم بموضوع الحرب كثيرة، منها القبض على قادة كبار على رأسهم المفتش العام للجيش، ثم حادثة القبض على قادة معهد استخبارات الجيش صبيحة الحرب، ثم الوصول إلى مقر القائد العام. فضلًا عن أن الحرب لم تبدأ من الجيش على نحو متزامن بهجمات مكثفة تستهدف القيادات والمعسكرات والمقرات.
سردية الفلول، في رأيي، استثمار في كراهية النظام السابق لاستدرار عطف الشعب السوداني، ويكفي أن الشخصية الثانية في النظام وهو نائب الرئيس السابق، حسبو عبد الرحمن، يقف إلى جانب الدعم السريع. هنا من الضروري أن نشير إلى ما ذكره حميدتي في مؤتمره الصحفي بأديس أبابا بعد توقيعه الإعلان السياسي مع تقدم، حيث ذكر أنه استدعى علي كرتي وإبراهيم غندور وقال لهم: "انصحوا الجيش فإنه يسير في طريق خاطئ". وهذا يشير إلى أن مشكلته الرئيسة مع الجيش وليس مع الفلول! فإذا قام بطلب وساطة من الفلول لعقد صلح مع الجيش، فهذا يعني أن مشكلته مع الجيش وليس مع الفلول.
- ما هي الرهانات الإقليمية والدولية الثاوية خلف حدث الحرب؟ ما هي أجندة الخليج ومصر؟ ما هي أجندة الجوار؟ جنوب السودان؟ إثيوبيا؟ تشاد؟ إريتريا؟ ماذا تريد الإمارات؟ وكيف نفهم الدور الإسرائيلي؟
- من المهم التأكيد على أن تركيبة الدعم السريع وما يعبر عنه من مصالح ورهانات لا يشكل إطارًا قوميًا؛ لأنه برز من خلال سياسة النظام السابق في مكافحة التمرد (Counterinsurgency Policy) والقائمة على تسليح إثنية مضادة للإثنية المحاربة للقضاء عليها، برغم الجوار والمساكنة. هذا الأمر ظل واضحًا في تركيبته المؤسسية حتى بعد أن توسع عسكريًا وماليًا وتعقدت علاقاته داخل الفضاء الدارفوري وفي نطاقات أخرى. فعلى مستوى الهرم القيادي، قام الدعم السريع على وشيجة الدم، ويكفي أن قائده وقائد ثاني والمسؤول المالي أشقاء.
وكما أشرت سابقًا، فإن الدعم السريع منذ تبلوره تمتع بنزوع استقلالي مكنه من التواصل مع الخارج، وقام بأدوار عابرة للحدود مثل تدخله في الحرب الليبية إلى جانب حفتر، ودوره الوظيفي في سياق منع الهجرة، فضلًا عن الدور المأذون من قيادة الدولة للمشاركة في حرب اليمن.
ثمة ملمح يجب الإشارة إليه، وهو بروز الإمارات العربية المتحدة كقوة إقليمية تستعين بجيوش وميليشيات في مناطق متباينة من العالم، مثل (ليبيا/ حفتر) و(جيش اليمن الجنوبي). وبالتأكيد، يأتي الدعم السريع في صدارة الاهتمام الإماراتي، وتوظيفه في مهام سابقة وحالية. وهناك تقارير متواترة من "الإيكونوميست" وحتى تقرير "نيويورك تايمز" الأخير، تقدم أدلة استقصائية تكشف طبيعة الرهانات والمصالح العسكرية والاقتصادية والسياسية للإمارات في حالة الدعم السريع. إن مثابرة الإمارات في دعم طرف دون آخر بالمال والعتاد والبشر (جلب 200 ألف مرتزق) تؤكد أنها استثمرت في مشروع انقلاب الدعم السريع وتوفير الغطاء الدبلوماسي، كما جرى مع وليم روتو وآبي أحمد في ملف الإيقاد، ودعم الجنوب بـ 13 مليار دولار، ودعم تشاد بمليار ونصف دولار، وحولت موقف تشاد إلى قاعدة تشوين للدعم السريع. كل هذه القرائن تشير بقوة إلى أن الحرب الحالية تمثل فيها الإمارات فاعلًا رئيسًا، فضلًا عن تقرير الأمم المتحدة الذي أشار إلى ذلك بصراحة بالغة. وهناك نحو عشرة من أعضاء الكونغرس الأميركي وجهوا رسالة للشيخ عبد الله بن زايد لإيقاف دعمهم للدعم السريع. ولا نريد أن نسترسل في توضيح الواضحات، وآخر الأمر إشارة مسؤولة إماراتية إلى أن تدخلهم في السودان سببه حماية مصالحهم هناك.
- وماذا عن الجيش؟ لماذا يبدو وحيدًا في حربه الحالية كما ألمح إلى ذلك البرهان أكثر من مرة؟
- من خلال المتابعات والقراءات، يبدو أن أقرب الدول إلى الجيش هي مصر وإريتريا. وأغلب ظني أن دعم مصر سياسي وإنساني بالأساس، فهي تقف إلى جانب مؤسسات الدولة ووحدة السودان ووقف التدخل الأجنبي، وقد قامت بصنع مبادرة دول الجوار، لكنها لم تلبث أن توقفت بسبب الضغوط الإقليمية.
- ماذا عن إيران؟ هل يمكن اعتبارها محورًا إقليميًا مؤيدًا للجيش ومضادًا للمحور الإماراتي؟
- ليس لدي معلومة موثقة تفيد بأن إيران تدعم السودان عسكريًا بعد أن استعاد علاقاته الدبلوماسية معها. هذه الملفات، بصفة عامة، تحاط بسرية بالغة لحساسيتها.
ومهما يكن من حديث حول الدعم الروسي للجيش وآفاق التعاون المشروط بالقاعدة العسكرية، فإن الدعم للجيش يعتبر أقل بكثير من الدعم القادم للدعم السريع من الإمارات وفاغنر الروسية. بل إن لديه سفن سلاح تم اعتراضها في البحر الأحمر، ولم يفصح الجيش حتى الآن عن حقيقة الأمر. وقد اشتكى الجيش بأنه حيثما ذهب لشراء سلاح تم الضغط على الجهات البائعة بامتناعها عن إتمام الصفقات. مما يرشح في الميديا، فإن إريتريا تساهم أيضًا في تدريب المقاتلين، وهذا هو أقصى ما يمكن أن تقدمه بسبب فقرها ومحاصرتها.
الحرب تجتذب المنافسين، وهناك من يحلل بأن موقف الولايات المتحدة المقرب من الدعم السريع مرده إلى اتجاه الحكومة للتعاون مع الروس. هذا أمر غير صحيح، بدليل أن موقف أميركا من السودان كان سابقًا لانعطافة البرهان نحو الروس. بل حتى حين كان الدعم السريع قريبًا من الروس، فإن أميركا لم تبدِ انزعاجها من ذلك.
- رشحت أنباء وتقارير حول تدخل أوكراني لصالح الجيش ودعمه بالمسيرات والإشراف على تدريب نخبة من المهندسين على استخدامها. كيف ترى ذلك؟
- أستبعد ذلك تمامًا، لأن أوكرانيا مشغولة بحربها مع الروس ومنخرطة في رد عدوانهم، فضلًا عن أن السودان يعتبر دولة بعيدة عن مجالها الحيوي. حتى لو تأكد هذا الأمر، فهو محدود النطاق والتأثير وبسبب العداء مع فاغنر. ولكني أرجح استبعاد الفرضية من أساسها، لأننا في حرب مبثوثة على الهواء، ولو كان هناك تدخل أوكراني لبرزت مصاديقه من خلال الواقع.
- كيف نفهم موقف جنوب السودان؟ في ظل تقارير تتحدث عن مشاركة ميليشيات جنوبية في الحرب إلى جانب الدعم السريع، والحديث المعروف حول الإمداد النفطي؟
- جنوب السودان، بحسب رأيي، دولة هشة، ومركز السلطة في جوبا ليس لديه سيطرة على كافة أرجاء البلاد ولا على كل المكونات، فضلًا عن تعدد مراكز القوى لتعقد المشهد الاجتماعي والسياسي والعسكري. ومن الواضح أن حكومة الجنوب لا ترغب في صراع على حدودها الشمالية، سيما أن مصالحها مرتبطة بتدفق النفط عبر السودان. في التقرير الذي أشرت إليه، والصادر من الأمم المتحدة في 2024م، حديث حول أن إمداد البترول للدعم السريع يأتي من جوبا، ثم إلى بحر الغزال، ثم يعبر من خلال جنوب دارفور إلى الدعم السريع بعلم الحكومة الجنوبية.
هناك لقاء جرى بين حميدتي وقادة أبيي، قايض فيه دعمهم له بالموافقة على تقرير مصيرهم والتحاقهم بالجنوب. وورد أيضًا في تغريدة لدبلوماسي سابق أن توت قلواك ذكر أن حميدتي أخبره بنيتهم الاستيلاء على السلطة، وبناء على ذلك، سحب قلواك أسرته من الخرطوم. السياق العام المرتبط بعلاقة حميدتي بجوبا ونفوذه الواسع فيها وترؤسه لوفد السلام يشير إلى أن نخبة من مركز السلطة ذات صلة معه، خاصة إذا عرفنا أن سلام جوبا تم برعاية إماراتية، بحسب "سكاي نيوز". وأخيرًا، نقرأ موقف الجنوب بما عرضته الإمارات المتحدة من الاستثمار في مجالات الطاقة والنفط بقيمة تقارب 13 مليار دولار.
- كيف نفهم الدور الإثيوبي في ظل علاقاته المضطربة مع السودان؟
- تُقرأ العلاقة مع إثيوبيا في الإطار الإقليمي والصلة الخاصة مع الإمارات والحلف المتشكل معها. وهناك تقارير غربية كثيفة تؤكد أن الانتصار في الحرب على التيغراي أتى بالدعم الإماراتي وشراء المسيّرات، فضلًا عن المشروعات الاستثمارية المشتركة. أما التناقض الذي حدث بممانعة الدعم السريع أن يشارك في حرب الفشقة، فهو يؤكد مجانبته لمنظومة القرار الأمني الذي يقتضي مركزيته بيد القوات المسلحة الواحدة.
ولكي ندرك عمق العلاقة الإثيوبية الإماراتية، ما علينا سوى مراجعة العرض الإماراتي لتسوية قضية الفشقة باقتراح شراكة ثلاثية بين إثيوبيا والسودان وشركة رجل أعمال سوداني قريب من الإمارات. هذا ما يتعلق في إطار العلاقة الثلاثية بين إثيوبيا والإمارات والدعم السريع. أما بصفة مباشرة، فإن إثيوبيا لعبت دورًا عدائيًا إزاء السودان في إطار الإيقاد ورفضها الاعتراف بالشرعية وطرحها التدخل العسكري وإخلاء العاصمة من القوات وحظر الطيران.
تصنّف "إسرائيل" السودان باعتباره دولة يمكن أن تشكل خطرًا عليها، وهي تقع فيما وراء دول الطوق التي يجب ضرب نسيجها الاجتماعي وإشعال واقعها باللعب على التناقضات الإثنية والمذهبية والطائفية
هناك أمر غامض في زيارة أبي أحمد للبرهان في بورتسودان وما أعقبها من اتصال مع محمد بن زايد. هنا من الضروري أن أشير إلى أن كثيرًا من المواقف السياسية لقيادة الجيش ليست مفهومة لدى قطاع كبير من الشعب، ومن ذلك تداول آراء مختلفة وتفسيرات متباينة حول إدارة المعركة والعلاقات الدبلوماسية وأفق الحل المنشود. وهناك غموض في عدم استنهاض المقدرات السودانية لمواجهة التحدي الوجودي الماثل.
- أين هي "إسرائيل" مما يحدث في السودان؟ في ظل ما يُقال دائمًا إنها كانت حاضرة في الخفاء في كافة الأطوار المفصلية في التاريخ السوداني؟
- على المستوى الاستراتيجي، تصنّف "إسرائيل" السودان باعتباره دولة يمكن أن تشكل خطرًا عليها، وهي تقع فيما وراء دول الطوق التي يجب ضرب نسيجها الاجتماعي وإشعال واقعها باللعب على التناقضات الإثنية والمذهبية والطائفية، وهو ذات ما حدث في ليبيا والعراق حتى لا يكون سندًا للقضية المركزية المتعلقة بالصراع العربي الإسرائيلي.
على المستوى السياسي، كان لإسرائيل حضور واضح في الطور الانتقالي السوداني، وفي لحظة باكرة منه لدرجة عقد قمة بين نتنياهو والبرهان في كمبالا، وهذا يؤكد أهمية الأجندة السودانية عند متخذ القرار الإسرائيلي. وفي المقابل، عقد الدعم السريع صلات خاصة مع الموساد الإسرائيلي، وذكرت هآرتس الإسرائيلية تقديم أجهزة تنصت للدعم السريع. وهذا ما جعلها تعرض الوساطة بين أطراف النزاع لصلتها القوية بهم. لاحقًا، رُصدت كثير من الأسلحة الإسرائيلية في حوزة الدعم السريع، ومنها منظومة صواريخ متطورة جدًا (LAR160).
- طفنا على الرهانات الإقليمية لحرب السودان ولامسنا تأثيراتها وعواملها المتداخلة حربًا وسلمًا. كيف ترى تأثير الحرب على القوى السياسية؟ على الإسلاميين والكتلة الديمقراطية وعلى "تقدم". كيف نفسر ما أطلقته قوى الصراع بضرورة إيقاف الحرب وهي منخرطة في منطق صراع صفري؟ وكيف نفهم "لا للحرب" كشعار يلامس الأفق المبدئي ويُستخدم في ذات الإطار ضمن التكتيك والمناورة السياسية التي اشتهرت بها النخب السياسية؟
- من الطبيعي ألا يرحب أنصار النظام السابق بعد عزلهم بموجب ثورة شعبية بالوضع الانتقالي، ومن الطبيعي كذلك أن يمضوا إلى المعارضة حتى وإن سعوا في وضع العثرات والعراقيل لطور الانتقال وتأزيم الأوضاع المأزومة أصلًا، فكل ذلك يعد مفهومًا في سياق التحول من مركز القرار السلطوي إلى نطاقات الفعل المعارض. أما الحرية والتغيير الكتلة الديمقراطية، فقد حدث لهم إقصاء بحسب رأيهم، مع أنهم كانوا في معارضة النظام السابق، وأن قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي قد أقصتهم، ولهذا دعموا انقلاب الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر، وعندما جاء الاتفاق الإطاري تم استبعادهم مرة أخرى على غير أساس واضح لأنهم قبلوا أطرافًا يحملون ذات الوضعية.
الاتفاق الإطاري، كما ذكرت، أحدث استقطابًا جعل الدعم السريع أقرب إلى قوى الحرية والتغيير وعلى حلف مع الآلية الرباعية (أميركا وبريطانيا والسعودية والإمارات) في مقابل الجيش والكتلة الديمقراطية ومعهم مصر كحليف إقليمي. وعند حدوث الحرب، أعلنت تقدم وقوفها في خانة الحياد، لكنها قامت في نفس الوقت بتسيير الوفود في جولة إقليمية. وكان أحرى بهم أن يجتمعوا كقوى سياسية مدنية ويتوافقوا على رؤية وطنية تتجاوز الأزمة التي خلقها الانقسام وعمقها الاستقطاب للاتفاق الإطاري، لأن عجز القوى المدنية عن اجتراح رؤى توافقية يجعل هذه المهمة أصعب بالنسبة للعسكريين.
لقد تبنوا شعار "لا للحرب"، فقلنا لهم إن "لا للحرب" تعني "نعم للحوار". فالحوار يكون عادة مع المختلف معه، ولكنهم رفضوا هذه الخطوة. وقد لمح أحد منسوبيهم ويدعى خالد محي الدين أن "تقدم" ترى في بندقية الدعم السريع ضمانًا للتحول الديمقراطي وكسرًا لبندقية الحركة الإسلامية. ومن هنا ثارت شكوك بأن العلاقة بين الدعم السريع وتقدم تحالف وليس حيادًا. وفيما يلي أرصد شواهد هذا التحالف بحسب استقراء الوقائع:
- "تقدم" تبنت سردية الدعم السريع فيمن أشعل الحرب.
- حاول حمدوك رئيس تنسيقية "تقدم" سحب شرعية البرهان، مع أن البرهان خاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل عام ولم يعترض حمدوك على ذلك.
- توقيع اتفاق أديس أبابا وحوى تبني سردية الدعم السريع، وحوى الاعتراف بإنشاء إدارات مدنية في أماكن سيطرة الدعم السريع.
- توقيع الاتفاق قبل التواصل مع الطرف الآخر الذي هو الجيش.
- عدم التعرض لانتهاكات الدعم السريع والمبالغة في التنديد بانتهاكات الجيش.
- إنكار الناطقين الرسميين لتقدم لانتهاكات الدعم السريع الموثقة، ومن ذلك إنكار علاء نقد لما جرى من انتهاكات في الجزيرة، وإنكار الناطقة الرسمية السابقة لتقدم رشا عوض بأن الدعم السريع لم يُسمع له خلال 10 سنين قيامه بانتهاكات.
- ذكر دكتور بكري الجاك، وهو متحدث رسمي باسم تقدم، بأنهم كتنسيقية تقدم ساهموا في تغيير الموقف المصري من دعم الجيش للامتناع عن تسليح الجيش، وفي نفس الوقت لم يفعلوا ذلك مع الإمارات. فعندما سُئل عبد الله حمدوك في صحيفة إماراتية اسمها (The National) حول الدعم الإماراتي للدعم السريع وهل طالبتم بإيقافه، قال: نحن بوصفنا سياسيين لسنا مخولين بالخوض في هذه المسائل. وعند قياس الموقف من إثناء مصر عن دعم الجيش، كما ذكر بكري الجاك بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية، وموقف حمدوك وتصريحه بخصوص دعم الإمارات للدعم السريع، يتبين مستوى التحالف القائم.
نستطيع أن نعدد من الدلائل ونحشد من القرائن ما لا يقع على حصر، ومن ذلك أن المنخرطين في الإدارات المدنية من أحزاب تقدم أو حتى المقاتلين في صفوف الدعم السريع ما زالوا مستمرين في عضوية أحزابهم بالأصالة ولم يتعرضوا للفصل. وللأسف، فإن انحياز تقدم للدعم السريع يفقدها تعاطف الشعب السوداني ويسحب منها قدرتها على خلق التوافق وجمع الأطراف المتنازعة. وهذا الاستقطاب من شأنه أن يعقد المشهد ويزيده انقسامًا وصدامًا. ويبدو أن تركيبة تقدم نفسها باعتمادها على ما نسبته 70% من المنظمات المدنية وقوى المجتمع المدني و30% للأحزاب السياسية قد همشت حيز الفعل السياسي.
- نفصل أيضًا في أدوار الإسلاميين بعيدًا عن السرديات المحكية.. ما هو دورهم ورهانهم؟
- الإسلاميون خلقوا بيئة سياسية هشة ومزقوا النسيج الاجتماعي، وسلحوا الهويات وصنعوا المليشيات على أسس إثنية وقبلية، فضربوا منطق الدولة بما هي المحتكر للسلاح والعنف. فضلًا عن إضعافهم للاقتصاد بالفساد والسياسات غير الرشيدة، أدخلوا السودان في عزلة دولية وفي صراعات إقليمية، وهي تتحمل إضعاف السودان كدولة أثناء حكمها. أما في فترة ما بعد حكمها، فلم يكن لها دور مؤثر في تقويض السلطة الانتقالية، وإن عامل الفشل الذاتي كان أكثر فعالية من معارضتهم. وهو فشل يتوزع على الدعم السريع والجيش والقوى المدنية. ولم يتم الاستجابة لنداءات ونصح الحكماء من ضرورة بث روح التسامح والتعافي، وإقرار عدالة انتقالية ترميمية تتجاوز إرث الإفلات من العقاب.
- هل القوى المدنية ضالعة بذات القدر في أخطاء الفترة الانتقالية كالقوى العسكرية من جيش ودعم سريع؟
- نعم، ضالعة لأنها تنازلت بمحض إرادتها عن أدوارها ومهامها الانتقالية. لقد تنازل حمدوك عن الصلاحيات الواسعة التي منحتها له الوثيقة الدستورية، أعطى السلام لحميدتي، ورئاسة اللجنة الاقتصادية لحميدتي، ومنح العلاقات الخارجية للبرهان وحميدتي.
- استطاع الدعم السريع أن يوظف خطاب التهميش في حربه الجديدة ضد الجيش، وهو الذي مثل أداة طيعة في يد المركز يبطش بها من يشاء. كيف انتقل الدعم وقواه الاجتماعية من مناصرة الجيش إلى خانة العداء؟ هل الاتفاق الإطاري؟ أم إبطاله؟ هل حدثت فتنة ما من البعثة الأممية أم أن مسار الانقلاب ومفاعليه هو الذي أنتج الصراع بين مكونات عنف الدولة؟
- العلاقة فيما أحسب كانت متوترة منذ زمن البشير، وقد طالب بعض الضباط أن يبعد الدعم السريع من إدارة المعارك في دارفور لقيامه ببعض الانتهاكات، وكذلك جرى الأمر في كردفان حتى اضطر أحمد هارون إلى طرد الدعم السريع وحدث خلاف كبير بين هارون وحميدتي جعل البشير يتدخل لإجراء صلح بينهما. عندما قامت الثورة، ذهب الدعم السريع ليرتكز بالقرب من سلاح المدرعات، وكادت أن تنشب بينهما مواجهة لولا انسحاب الدعم السريع بعد أن أخرج اللواء نصر الدين، الذي عاد للمدرعات قائدًا من جديد، عددًا من الدبابات حينها وهدد بإطلاق النار عليهم.
السودان بلد كبير ومهم على المستوى الجيوستراتيجي، وصراعه ينذر بامتدادات الصراع إلى دول أخرى في القرن الأفريقي وساحل البحر الأحمر، وهو أمر لا يمكن تحمل عواقبه
ومن خلال متابعة تحصينات الجيش وبناء سور القيادة وتحويل مسار الطائرات عبر المطارات، يتبين توجس الجيش من هجمات مباغتة من الدعم السريع. وعلى مستوى بنية الجيش، فقد حدث انقلاب مهم في أيلول/سبتمبر من العام 2021 قام به عبد الباقي بكراوي، وتسربت هذه المحاكمة إلى الإعلام، والتي أكد فيها قادة المحاولة الانقلابية أن دوافعهم من الانقلاب دمج الدعم السريع.
واضح أن العلاقة بين قيادة الجيش وقيادة الدعم السريع هي التي كانت جيدة بدليل أن تمدد سطوة الدعم السريع إنما تم في عهد البرهان، ومن ذلك إلغاء المادة الخامسة التي تؤكد تبعيته للقوات المسلحة، وتوسعه في التدريب والتسليح والتجنيد والتحشيد. أما على مستوى بنية المؤسسة، أعني الجيش، فقد كانت تقف بالضد من الدعم السريع. ومع تحول التنافس بين القائدين إلى صراع محتدم على السلطة، فمن المتوقع أن تسيل أودية من الدماء ويشتعل العنف في أقسى وأقصى تجلياته.
- ماذا يريد الدعم السريع من حربه على الجيش؟ ماذا يقصد من انتشاره العسكري تحت عنوان ما وصف بتقدم ميداني وخسائر أخلاقية لازمت إدارته للمعارك؟ هل هو عاجز عن تكوين سلطة؟
- تكوين سلطة في ظل الظرف الراهن أمر غير منطقي، لأن السلطة تستدعي مقرًا إداريًا ومؤسسات وشعبًا آمنًا وخدمات وحدًّا من العدالة. ومع وجود سلاح الطيران، هل يمكن أن تنشأ حالة سلطوية ضمن أدنى تجلياتها الممكنة؟ أستبعد ذلك. لكن في حال تحقق ذلك نظريًا، وهل يستطيع الدعم السريع أصلًا أن يدير دولة في ظل العوامل الآتية:
- عدم القبول الشعبي بعد ممارسة الانتهاكات الواسعة.
- الانقسام المجتمعي الحاد في دارفور نفسها. إذ أن ما أخّر سقوط الفاشر هو ليس صمود القوات المسلحة وإنما مجتمع الفاشر نفسه والتناقض الحاد مع مشروع الدعم السريع.
هذا السيناريو كان يمكن أن يكون واردًا ومطروحًا إذا كانت المصالحات القبلية الأولى قد مضت بسلاسة ويسر، وإذا ما كانت الحركات المسلحة تعاونت مع الدعم السريع كان يمكن أن يطبق النموذج الليبي. بيد أنه قد فات أوانه. لقد انخرطت القوى الفاعلة في دارفور في قتال الدعم السريع وتخلى بعض القادة الميدانيين عن حركاتهم ومنظوماتهم والتحقوا بمعركة الفاشر إلى جانب القوات المشتركة.
- مقاطعًا: أي النماذج أقرب تحققه في السودان؟
- كل السيناريوهات مفتوحة، فيمكن أن ينزلق إلى النموذج الصومالي وما هو أسوأ من ذلك كنشوء مناطق نفوذ لوردات حرب وتمزيق الجغرافيا الاجتماعية والسياسية والثقافية، واشتعال البلاد بالصراعات والانقسامات الأهلية والمناطقية أو حتى التدخل الأجنبي. غير أن السودان بلد كبير ومهم على المستوى الجيوستراتيجي، وصراعه ينذر بامتدادات الصراع إلى دول أخرى في القرن الأفريقي وساحل البحر الأحمر، وهو أمر لا يمكن تحمل عواقبه. ولهذا، متوقع إجراء توافقات إقليمية لإعادة الاستقرار للبلد من جديد. الآن الإقليم يطفو على لهيب ساخن؛ في إثيوبيا تحركات لجماعة فانو والتغراي، وفي تشاد تذمر مما يجري في السودان على حساب إثنية الزغاوة التي يجمعهم بالنخبة الحاكمة وشائج قربى ومصائر ومصالح مشتركة. وكذلك جنوب السودان الذي صارت مصالحه النفطية مجمدة بسبب الحرب.
كل ما سبق يعد كلامًا نظريًا، أما الجانب العملي فمرتبط بالمعارك الدائرة حاليًا. فالميدان العسكري وحده هو الذي سيحدد المستقبل وسيرسم المشهد ويركب معادلاته السلطوية من جديد.
- أعادت المعارك الدائرة السجال التاريخي حول المهدية ما بين من يرى في انتهاكات الدعم السريع امتدادًا لانتهاكات منسوبة للطور المهدوي السوداني، سيما في حقبة عبد الله التعايشي وما جرى في نكبة المتمة، وبين استعادة بعض المناصرين للدعم السريع بوصف الجيش وفضاء المركز المنسوب لنخب "56" بأنهم أبناء ورثة المستعمر وأدواته في حكم السودان. كيف ترى هذا الجانب من توظيف سرديات التاريخ وإعادة إنتاجها في الواقع؟
- هذا منهج معروف ومجرب، وهو إسقاط الوقائع السردية التاريخية على الأحداث الماثلة، وإكسابها دلالة ومعنى ومشروعية. ليس ثمة مراء أن الحرب الحالية لا تعبر إلا عن رهاناتها التي هي ابنة البيئة السياسية والسياق الظرفي كما فصلنا سابقًا. المهدية هي ثورة سودانية شاملة ضمت كل الشعب السوداني، فقائدها من الشمال، والرجل الثاني من الغرب، والرجل الثالث من الوسط، والرجل الرابع من الشمال، والأمراء من كل أنحاء السودان. وطبقة العلماء في المهدية كان أغلبها من الوسط والشمال، والطبقة الإدارية – للغرابة – ضمت بعض من عمل في حقبة الحكم التركي كما ذكر هولد في كتابه. وأهم ما في المهدية تمثيلها لكل السودان وقيامها ضد مستعمر أجنبي.
كل التاريخ المكتوب عن المهدية وفيه تشنيع عليها، مخطوط بقلم الاستعمار "ونجت" حيث تبنى في دعايته كتاب سلاطين باشا وأهرو وردر ونعوم شقير الذي يمثل أيضًا قلم مخابرات قدم في معية الجيش الغازي. وقد أوضح المؤرخون الذين تناولوا حقبة المهدية بالدرس والتنقيب، أمثال ثيوبولد وهولد، أن كلام أقلام المخابرات كان مقصودًا لتبرير غزو السودان، وأن واقع المهدية كان مخالفًا لما ذكر وسطر في كتب أقلام المخابرات من حيث التأييد الشعبي الجارف. قد لا يعلم كثيرون أن الخليفة عبد الله التعايشي كاد أن يستشهد في كرري، غير أن الشيخ محمد بدوي والشيخ المكي، وهما من الشمال والوسط، أثنوه عن ذلك وأقنعوه بضرورة التوجه إلى الغرب ليقضي هناك على النحو المعروف في الاستبسال والفداء. لقد ذكر تشرشل في حرب النهر أن الخليفة حال انكساره بعد الواقعة تبعه آلاف من الناس، ولو كان ظالمًا لأنقضوا عليه وهو في أضعف حالاته.
الفارق بين الدعم السريع والمهدية كما بين السماء والأرض، ويمكن تلخيصه في عدة وجوه:
الدعم السريع قوة كونها المركز للقضاء على الحركات المسلحة في فضاء الهامش.
- هي قوة من إثنيات محددة بحسب سياق تشكلها ضمن سياسة احتواء التمرد.
- تاريخيًا، لم يكن الدعم السريع معارضًا للنظام، بل هو تشكيل مركزي بامتياز (حقبة البشير، الطور الانتقالي، ما بعد الانقلاب). لهذا لا يملك الأهلية الأخلاقية للحديث باسم المركز.
- النواة التشكيلية للدعم السريع مكونة من مجموعات الجنجويد المنسوب إليها انتهاكات واسعة في دارفور منذ العام 2003م.
- القبائل العربية، سيما البقارة في جنوب دارفور، رفضت الدخول في الدعم السريع.
فالدعم السريع إذن ليس كيانًا قوميًا كالمهدية، إذ لم يمثل جميع عرب الغرب في أحسن حالاته وبعد أن نال حظوة من السلطة والثروة. ولا يمكن بأي حال قياس الانتهاكات التي يمارسها جنوده بالحوادث المعزولة المنسوبة للجهادية التي لا تعبر عن العناصر الأيديولوجية المقاتلة، والتي ورثتها المهدية من الحكم التركي. فلا يمكن تعميم تجاوزات الجهادية على الحالة القتالية المجاهدة والملتزمة بتعاليم الدين ومصفوفة القيم، براياتها المميزة التي تمثل كل أقاليم السودان.
أما نكبة المتمة، فهي سياق تاريخي منفصل ولا يعبر عن الحالة المهدية بأي حال، ولا يمكن أن يُسقط واقع انتهاكات الدعم السريع على المهدية ككل.
أما في الحاضر، فحزب الأمة كان رافضًا لفكرة تكوين الدعم السريع، وقد رفض الإمام الصادق الدعم السريع وانتقده علنًا حتى سُجن بسبب ذلك، كما هو معروف. الحزب الآن فيه انقسام ككل الأحزاب والكيانات الاجتماعية، وهو أمر متصل بتشخيص الأوضاع السياسية وتجاذبات الواقع المعقد. وهو أمر لم تسلم منه الكيانات الحزبية الراسخة مثل الاتحادي، الذي انقسم بين المكتب التنفيذي الذي يؤيد "تقدم" والمكتب القيادي ضد "تقدم". حزب الأمة كذلك فيه أصوات مع "تقدم" وقريبة من الدعم السريع، وبه قطاعات عريضة ضد انتهاكات الدعم السريع. ما أريد أن أؤكد عليه أن حزب الأمة لا يمكن أن يوصف تاريخيًا بأنه حالة جنجويدية، ولا يمكن أن يوصف حاضره بتأييد الدعم السريع، والوقائع هي ما تقول ذلك وليس الادعاءات.
- طالما أتينا إلى سياق الاتهامات، هناك اتهام للحزب بأنه هو أول من أنشأ مليشيات، وأن اللواء م/ فضل الله برمة ناصر هو من رعى تكوينات مليشاوية، وهو الأب الروحي لفكرة التمليش. في المقابل، هناك اتهام مشهور بأن من أدخل الجيش في السياسة هو حزب الأمة عندما سلم عبد الله خليل بك السلطة لإبراهيم عبود في 1958م. فإذا تجاوزنا السياق التاريخي للمهدية وتماثلها مع الدعم السريع من حيث الانتهاكات، فهل نستطيع تجاوز الوقائع الراهنة المنسوبة لحالة تجييش السياسة وتمليش المجتمعات، والمنسوبة أيضًا لحزب الأمة كما أسلفت؟
- اتهام حزب الأمة بابتدار تسليح القبائل وإنشاء المليشيات لا يعدو أن يكون لغوًا من الناحية التاريخية؛ لأن إنشاء المليشيات يرجع إلى حقبة الفريق عبود، حينما كانت حركة الأنانيا تهاجم بعض النقاط الرخوة التي لا تحوي قوة وتسليحًا كافيًا، فقام عبود بتسليح السلاطين في الستينات. وفي حقبة مايو، وبعد توقيع السلام في 1972م، أنشأ النميري قوات لترافق مسار القطارات حتى لا يحدث احتكاك مع القوات الرافضة للاتفاق. غير أن هذه القوات كانت تتبع بصورة مباشرة للقوات المسلحة.
وفي المرحلة الانتقالية التي أعقبت مايو، نقلت الحركة الشعبية مسرح العمليات إلى الشمال، وأصبحوا يهاجمون القرى الآمنة. ولهذا السبب تم إرسال وفد فيه فضل الله برمة ناصر، الذي كان ضمن المجلس العسكري الانتقالي، وقابلوا المواطنين الذين بدورهم اقترحوا ثلاثة حلول: إما أن ينضموا للحركة الشعبية ليأمنوا شرها، أو أن يقوم الجيش بحمايتهم. وفي حال عجز الجيش عن حمايتهم، فليقُم بتسليحهم ليحموا أنفسهم. حمل الوفد هذه المقترحات إلى المجلس، الذي استبعد خيار انضمام المواطنين للحركة الشعبية أو توفير حماية من قبل الجيش، ولكنه وافق على تدريبهم وتسليحهم بقانون دفاع شعبي بضوابط على أن يكون لكل قبائل التماس وليس لإثنية معينة، وتحت إمرة القوات المسلحة. غير أن الموضوع توقف بسبب ضجة من الصحف اليسارية، فتم إرجاء المشروع ليُثار في فترة الديمقراطية الثالثة، في ظل حكومة الصادق المهدي الثانية، حيث حدث نفس السياق، هذه المرة المطالبة أتت من الجيش الذي اشتكى عزوف الناس عن التجنيد وضرورة تسليح المواطنين لمواجهة أنشطة الحركة الشعبية، التي نقلت مسرح العمليات من (أ) الجنوب إلى (ب) الشمال. تم مناقشة ذات الأمر وفق ذات الضوابط، أن تكون العناصر المشرفة على التدريب من معاشيي القوات المسلحة، وأن يكون السلاح لكل الإثنيات، وأن لا ينتقل الناس من مناطقهم، وأن يُستخدم السلاح تحت إمرة القوات المسلحة وفي سياق رد الاعتداء. لكن حتى حدوث انقلاب الجبهة الإسلامية القومية لم يُجاز القانون. وقد نفذته الإنقاذ ضمن سياق تطويري تجاوز حدود الدفاع إلى قوات هجومية مساندة للجيش، ثم انتقلت إلى عسكرة الحياة المدنية، وبعد ذلك نفذت مشروع الخدمة الوطنية الإلزامية.
فيما يتعلق بمسألة تسليم رئيس الوزراء عبد الله خليل السلطة إلى عبود، وهو حكم شائع وجائر، إلا أن الوقائع التاريخية لا تسنده من عدة وجوه:
- الانقلاب قام به رئيس الوزراء ولم يقم به حزب الأمة، الذي كان لديه تصور مختلف عن الحزب. حيث كان يرى الحزب أن البلاد في حالة احتقان سياسي، ومن الأفضل تكوين حكومة قومية، وإن تعذر ذلك، فالأفضل أن يتم تكوين ائتلاف مع الوطني الاتحادي بقيادة إسماعيل الأزهري. أما عبد الله خليل فقد كان رافضًا لهذا الرأي، ورأى أن هذا الأمر سيقود إلى نزع السلطة منه، فسلم السلطة للعسكر. وحينما عُرض الأمر على مجلس إدارة حزب الأمة، رفض موضوع تسليم السلطة للعسكر.
- لدى عبد الله خليل، بخلاف مخاوفه من عدم الاستقرار، معلومات عن أن جمال عبد الناصر جمع إسماعيل الأزهري والسيد علي عبد الرحمن، وزير الداخلية، لتكوين ائتلاف وإعلان الوحدة مع مصر من داخل البرلمان.
- لعبد الله خليل موقف إدراكي نفسي بسبب ما ظن أن المصريين قد خذلوهم في حادثة اللواء الأبيض، ولهذا آثر تسليم السلطة للعسكر لإبطال هذا التوجه وقتله في مهده.
بغض النظر عما دفع عبد الله خليل للقيام بتسليم السلطة للعسكر، فإن رئيس الحزب عندما رجع من الخارج قاد معارضة شرسة للنظام العسكري الجديد، بل حتى أن عبد الله خليل نفسه التحق بهذه المعارضة وسُجن من قبل عبود.
- كيف ترى وضعية الدعم السريع في أي مقاربة قادمة للحل؟ هل سيعود في المستقبل بكامل امتيازاته ومكاسبه التي راكمها منذ آخر عهود النظام السابق وحتى الآن؟ وكيف له أن يتنازل عما حصل عليه بدماء عزيزة من أبنائه؟ وبين هذا وذاك، كيف يمكن لنا أن نخرج من هذه الورطة؟
أميركا مجتمع سياسي متنوع به مجموعات الضغط والمشرعون وصانعو السياسات والتنفيذيون في الإدارة الأميركية والخارجية، وأحيانا تحدث تناقضات حول الأجندة والأولويات غير أن استقراء الموقف الأميركي عبر مراحل تاريخية متباينة يؤكد أن دورها لم يكن إيجابيًا في معظم الأحيان. كان الموقف الأميركي سالبًا حيال الديموقراطية الثالثة ومنها نقلهم للسفارة بحجة أن السودان غير آمن. ومن ذلك تدخلهم بسبب علاقة السودان مع إيران وليبيا، ولم يقدموا مساعدات. ثم إنهم رحبوا بالإنقاذ في لحظتها الباكرة ثم استعدوها لسلوكها ووقفوا إلى جانب الحركة الشعبية والمعارضة بمجملها، غير أنهم عادوا وتدخلوا لإقرار السلام بسبب تغير ميزان القوة لمصلحة الحكومة السودانية التي أخرجت البترول ووثقت علاقاتها مع الصين ضمن سياسة الاتجاه شرقًا، وكان اتفاق السلام بمثابة حماية للحركة الشعبية أكثر من كونه رغبة لإحلال الامن في إقليم مهم.
وبذهاب الجنوب ضمن مقررات اتفاق السلام واستحقاقاته، وما أدى من ضعف للإنقاذ مع قابلية أكبر لممارسة الضغوط عليه، لم ترد أميركا ذهابه، وقطعت شوطًا في تطبيع العلاقات معه لدرجة أوعزت لسلفا كير بأن يرفع يده من دعم فصائل الجبهة الثورية لأن النظام أصبح ضعيفًا وينسج على منوال ما تريده أميركا. بل حتى أن أوباما عقد صلحًا بين النظام وإدريس دبي كما ذكر في تنوير للكونغرس.
وفي مقابلة للشرق الأوسط الإنجليزية مع المبعوث الأميركي برستون ليمان، تم سؤاله حول لماذا دعموا الربيع العربي في الشرق الأوسط ولم يدعموه في السودان، فذكر أن ما تريده الولايات المتحدة في السودان هو إصلاح النظام (Regime Reform) وليس تغيير النظام (Regime Change). لذلك، حين أتت الثورة لم يكونوا متحمسين إليها ولم يقدموا دعمًا لحكومة الانتقال، وربطوا رفع السودان من قائمة الإرهاب بشروط سياسية كالتطبيع مع "إسرائيل". ودفعوا السودان مبالغ طائلة عن هجوم المدمرة الأميركية كول بالقرب من اليمن.
نخلص إلى أن الولايات المتحدة ظلت ضد الديمقراطية الأخيرة وضد الحكم الانتقالي في صورته المدنية، وكانت على الخط داعمة لحركات التمرد ضد الدولة المركزية. يستقيم هذا في حالة دعمها الحركة الشعبية وحركات دارفور، والآن هم أقرب إلى الدعم السريع، وتغاضوا عن انتهاكاته ورفضوا تسليح الجيش وضيقوا عليه، وغابوا عن منبر جدة بالشهور. ومؤخرًا مارست مع الحكومة نفس طريقتها الاستعلائية، فأرسلت إليهم دعوة للحضور إلى سويسرا دون أن تبين أجندتها أو تأخذ رأيها. حتى أن المبعوث الأميركي لم يشأ أن يقابل البرهان في مقر إقامته، كما ذكر بمبررات واهية، ومن الواضح أن أميركا لم ترد حضور الجيش إلى سويسرا، التي عينوا فيها مواعيد بدون اتفاق، وأجندة بدون اتفاق، ووسطاء بدون اتفاق كالإمارات.
وعندما ذهبوا إلى سويسرا وحدثت وساطة مصرية ليقابل الأميركان البرهان، اتفقوا على أن يأتي المبعوث إلى مصر ويأتي وفد حكومي من بورتسودان ليقابل المبعوث. رحب المبعوث في صفحته بوفد بورتسودان غير أنه أتى وذكر أن الوفد خرق البروتوكول، دون أن ندري ما هو البروتوكول المقصود، هل العرف الدبلوماسي المستقر أو اتفاق بمواقيت وجداول تنفيذ.
لو أن الجيش ذهب إلى سويسرا كان بإمكانه أن يعرض قضيته ويبين خارطة الاحتياجات الإنسانية، وما هي الضمانات التي يمكن تقديمها رفقة الدعم السريع، وما هي المناطق الأكثر حاجة للدعم والغوث الإنساني
هذا الوفد حضر ليناقش مسألة حضور الجيش، وقد سبق أن قابله في جدة. وإذا كان الأمر متعلقًا بالمدنيين ففي وفد الدعم السريع مدنيون، بل أكثره مدنيون ربما باستثناء فرد أو اثنين. ومع ذلك، في رأيي أن الجيش أخطأ في عدم ذهابه إلى سويسرا أو حين رفض الذهاب، ما كان عليه أن يتعهد بشيء كتعهده بفتح المعابر في الدبة وأدري. الصحيح أن يقول إنه يريد معالجة المشكلة الإنسانية في إطار شامل وقومي، وترتيب الأولويات حسب المناطق واحتياجاتها الإنسانية كالدلنج وسنار وجنوب كردفان والفاشر. وقد ذكر المبعوث الأميركي أن افتتاح المعبر ليصل إلى كردفان ودارفور كان انحيازًا لمناطق دون أخرى، مع أن الأزمة الإنسانية شاملة في كل المناطق.
لو أن الجيش ذهب إلى سويسرا كان بإمكانه أن يعرض قضيته ويبين خارطة الاحتياجات الإنسانية، وما هي الضمانات التي يمكن تقديمها رفقة الدعم السريع، وما هي المناطق الأكثر حاجة للدعم والغوث الإنساني، مثل معسكر زمزم المحاصر من الدعم السريع، ومثل الدلنج المحاطة من الجنوب بالحركة الشعبية الحلو، ومن الشمال بالدعم السريع، وكما ذكر تقرير "سودان تريبيون" بأن حالة الجوع جعلت المواطنين يأكلون ورق الشجر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الحكومة قدمت خطوة دون أن تذهب، فلم تستفد سياسيًا، ولم ينتفع الناس بتعهدها.
- أخيرًا: أين وكيف ستنتهي الحرب؟ على منضدة التفاوض أم بالحسم العسكري الساحق؟
- المسألة معقدة ولا يمكن الجزم فيها برأي لأن العوامل فيها متداخلة ومتشعبة، وهناك مساحات غير مفكر فيها مثل ردة فعل الشعب والمجموعات السكانية، فالمشكلة مركبة وليس لأحد القدرة على التنبؤ لأن الأطراف نفسها غير واضحة. فهل لدى الدعم السريع سيطرة بموجب سلسلة أوامر على عناصره؟ وكذلك الجيش غامض من حيث إدارته السياسية والعسكرية للمعركة. ولماذا لم يتحرك الجيش من الدفاع إلى الهجوم، سيما في مناطق لا يملك فيها الدعم السريع عددًا كافيًا من الجنود والسلاح النوعي في الخرطوم وسنار والجزيرة. يمكن أن تحصل تغيرات فجائية على مستوى الداخل والخارج.