20-يوليو-2024
عيادة مركز إيواء - كسلا

العيادة المركزية بمركز إيواء المدرسة الصناعية في شرق القاش بمدينة كسلا (غرفة طوارئ شباب كسلا\فيسبوك)

"في جمهرة النازحين بولاية القضارف، يمكنك بسهولة التعرف على مرضى الكلى عبر القسطرة المدلدلة بجانبهم"، هكذا يفيد "الترا سودان" المتطوع الشاب مصعب، الذي يؤكد أن العديد من الحالات هي في وضع ميؤوس منه جراء التكدس الكبير للمرضى والأوضاع الاقتصادية للنازحين. "أن تمرض في سودان اليوم هو حكم بالإعدام"، يضيف لـ"الترا سودان" الناشط محمد أحمد الذي يعمل على تنسيق عمل غرف الطوارئ في سنار من العاصمة الأوغندية، كمبالا.

متطوع: النازحون يقيمون الآن في الهياكل غير المكتملة بالقرب من الميناء البري وفي مدرسة التضامن التي تحوي خمسة مراكز إيواء

مرت (15) من الشهور منذ اندلاع الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وعلى الرغم من الإرهاصات الكثيرة للحرب، إلا أن الجميع لم يكن مستعدًا لها. في الأيام الأولى للاشتباكات ظن الناس أنها مسألة أيام، لكن مرضى الفشل الكلوي لم يكونوا ليستطيعوا الصمود حتى لهذه الفترة القصيرة. كانت مناشدات الصحفي الشاب عبدالكريم قاسم ذات وقع خاص، عبر صفحته الشخصية على "فيسبوك" بث آلامه وناشد قوات الدعم السريع للابتعاد عن مستشفى الأمل بالخرطوم الذي كان يتلقى فيه جرعات الغسيل، بعدها بأيام مات، كان نعيه قاسيًا على قبيلة الصحفيين، وبشكل خاص أكد جدية ما نحن مقبلون عليه.

بعدها بأسابيع قليلة مر العنوان التالي بشكل عابر: "مات جميع مرضى الفشل الكلوي في مدينة الجنينة". لم يكن عبور هذا العنوان لقسوة خاصة عند السودانيين، ولكن الفظاعات كانت أكبر من طاقة الإنسان، كأنها ظاهرة طبيعية، الحرب في السودان تشبه المناخ، لا أحد له يد عليها، ولا حتى جنرالاتها الذين يخدمون قوى تعرف كيف تلوي الأيادي الوالغة في الدم.

مرضى الكلى في القضارف

بالعودة للنازحين في القضارف، تبدو نبرة الشاب مصعب حذرة بعض الشيء وهو يزودني بمعلومات عن أوضاع ضيوف المدينة من سكان سنجة والدندر ومناطق ولاية سنار. منذ الأسبوع الأخير في حزيران/يونيو المنصرم، تقول إحصائيات إن أكثر من (150) ألف شخص فروا من ولاية سنار نحو القضارف وكسلا والنيل الأزرق. يقول مصعب إنهم يقيمون الآن في الهياكل غير المكتملة بالقرب من الميناء البري، وفي مدرسة التضامن التي تحوي خمسة مراكز إيواء. عمارة جهاز الأمن أيضًا استقبلت أعدادًا لا بأس بها من هؤلاء المساكين.

سبب النبرة الحذرة في صوت مصعب هو هذا الجهاز، ولذلك هو يفضل حجب اسم عائلته، ففي القضارف تنشغل الأجهزة الأمنية بهؤلاء الشباب أكثر من انشغالها بالحرب نفسها. في الولايات التي لم تصلها الاشتباكات بعد، تلاحق الأجهزة الأمنية متعاونين مجهولين، هم في نظرها أخطر من آلة الدعم السريع الدموية، التي ركّعت الجيش الذي لم يقاتل منذ عقود سوى العزل من أبناء شعبه.

تقوم مبادرات تطوعية بمجهودات ذاتية لشباب الأحياء في القضارف وأبناء سنار في المهجر لتوفير الأدوية لأصحاب الأمراض المزمنة

تقوم مبادرات تطوعية بمجهودات ذاتية لشباب الأحياء في القضارف وأبناء سنار في المهجر لتوفير الأدوية لأصحاب الأمراض المزمنة وغيرها من الاحتياجات.  هؤلاء الشباب هم بعض من نسيج ممتد منذ سنوات الثورة والاعتصام في السودان، حيث يقومون منذ ذلك الوقت بدور الدولة المختطفة لمصالح العسكريين وأطماع السياسيين.

بحسب مصعب، تواجه مرضى الكلى أزمة الإقامة. مركز الغسيل يقدم الخدمة والعاملون فيه متعاونون للغاية، لكن فقط لا يمكن أن يسمحوا بتنويم المرضى، وهذا هو السبب في منظر القسطرة المتدلية من أيادي المرضى في مراكز النزوح.

تكدس للنازحين أمام مركز خدمي في القضارف
تكدس للنازحين أمام مركز خدمي في القضارف (فيسبوك)

أزمة أدوية في كسلا

في مدينة كسلا -مسقط رأسي- المناظر مطابقة للقضارف. قبل أيام ألزم أخي الأصغر ياسر عائلتنا دون مقدمات بأن ندفع سهمًا في تبرعات لأن النازحين لا يملكون حق الدواء المعدوم، قبل أن أطلب منه أن يدفع لي "ونتحاسب بعدين" التي كثرت بعد الحرب، قال إن منظمة أطباء بلا حدود التزمت بتوريد كمية من الدواء للمرضى المتكومين في مركز إيواء مدرسة كسلا الصناعية في شرق القاش.

بحسب الإفادات، هناك العديد من حالات سوء التغذية وسط النازحين، والعديد من مرضى الضغط والسكري. هؤلاء مواطنون عاديون وجدوا آلة الحرب قد وصلت إليهم فجأة، ليفقدوا كل شيء في لحظة واحدة، ومن استطاع منهم النفاد بسيارته وبعض المال، استقبلته قوات الدعم السريع في الطرقات السفرية لتسلبها منه، فهي تستخدم هذه السيارات في مجهودها الحربي، وممتلكات المواطنين من الغنائم المشروعة بالنسبة لمنسوبيها.

 

الطبيبة يسرا المبشر تقول لـ"الترا سودان" إن النزوح يساهم في العديد من الأزمات الصحية، مثل تفاقم سوء التغذية وانتشار الأمراض المعدية وتعقيد الأمراض المزمنة جراء انقطاع الرعاية. بالنسبة لهذه الطبيبة هناك العديد من الجوانب النفسية جراء حالة النزوح والعنف والاضطرابات التي تتعرض لها الحياة الطبيعية.

الهجمات على الرعاية الصحية

من أعفاه الرصاص من الموت المباشر لن ينجو من الهجمات على الرعاية الصحية. في الحرب السودانية استهداف ممنهج للمراكز والمستشفيات. بالأمس أدانت المديرة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية لبلدان شرق المتوسط حنان بلخي الهجمات على الرعاية الصحية. قالت إن (17) من هذه الهجمات حدثت في الأسابيع الستة الأخيرة.

تقوم قوات الدعم السريع بالهجوم بشكل مستمر على أي مركز يقدم الخدمة الصحية في مدينة الفاشر

في الفاشر الأمر أكثر وضوحًا، تقوم قوات الدعم السريع بالهجوم بشكل مستمر على أي مركز يقدم الخدمة الصحية. ابتدأت بالمستشفى الجنوبي ثم لاحقت المرضى لبقية المرافق كأنها تطرد الناس من المدينة. القصف المدفعي دفع المنظمات العاملة وعلى رأسها أطباء بلا حدود لسحب فرقها وإيقاف دعمها لأن الموت في المدينة المحاصرة لا يفرق بين مريض وطبيب. هناك أيضًا ظهرت المبادرات الشبابية لإنقاذ الوضع، فكان نفير مركز سيد الشهداء الذي حول مرفقًا صغيرًا لمستشفى للأطفال.

الأزمة الإنسانية في السودان كارثة غير مسبوقة، والمجاعة تهدد الجميع بعد أن سيطرت آلة الحرب على معظم الأراضي الزراعية أثناء التحضير للموسم المحكوم عليه بالفشل. أكثر من (10) ملايين مواطن سوداني فقدوا بيوتهم ومصادر دخلهم، من يمرض منهم ومن لم يمرض سيواجه الموت عاجلًا أم آجلًا إن لم تحدث معجزة.